المقدمـة:
تعتمد هذه الدراسة على دراسة تحليلية لتجربة المجلس الوطني الاتحادي وعلاقته بالتنمية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتتضمن هذه الدراسة التحليلية ما يلي:
تحليل عناصر التنمية.
تحليل الأدوار النوعية للمجلس في آثارها على التنمية "التشريعية والرقابية".
الدلالات والاستنتاجات المبنية على التحليل الكمي.
الآفاق والنتائج وفق الوصف التحليلي لأدوار المجلس.
كما ستنحو هذه الدراسة إلى اعتماد التعريفات الإجرائية التالية لمفهوم التنمية، فالتنمية اصطلاحًا هي "حدوث تطور في المجتمع بحيث ينتقل من مرحلة قائمة بذاتها وخصائصها وصفاتها إلى مرحلة تالية تعبر عن تغير أو تبدل أو حركة في المرحلة الحالية بحيث يؤثر ذلك على خصائصها أو صفاتها أو ذاتها" وهذا المفهوم يتفق مع التعريف اللغوي للتنمية التي تعني زاد أو كثر.
وستركز هذه الدراسة على خمسة أنواع من التنمية نظرًا لعلاقتها الوثيقة باختصاصات وتجارب تطور البرلمانات المعاصرة، وهي: التنمية السياسية، والتنمية الاقتصادية، والتنمية المجتمعية، والتنمية المستدامة، وتنمية الموارد البشرية.
أما عن التنمية السياسية: فإن تعريفها الإجرائي بأنها عملية تغيير اجتماعي متعدد الجوانب، غايته المشاركة الانتخابية والمنافسة السياسية، وترسيخ مفاهيم الوطنية والسيادة والولاء للدولة القومية بما يسهم في تحقيق الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي.
التنمية الاقتصادية: عملية إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين؛ بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده، بالصورة التي تكفل زيادة درجات إشباع تلك الحاجات؛ عن طريق الترشيد المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة، وحسن توزيع عائد ذلك الاستغلال.
التنمية المجتمعية: تهدف إلى تطوير التفاعلات المجتمعية بين أطراف المجتمع: الفرد، الجماعة، المؤسسات الاجتماعية المختلفة، المنظمات الأهلية.
التنمية المستدامة: تعتبر الإنسان فاعل أساسي في عملية التنمية وليس مجرد مستفيد من منتجات التنمية دون مشاركة نشيطة فاعلة.
تنمية الموارد البشرية: تهتم بدعم قدرات الفرد وقياس مستوى معيشته وتحسين أوضاعه في المجتمع.
وستتناول هذه الدراسة العناصر الآتية:
المساق الوصفي التحليلي للتطور التاريخي للمجلس الوطني الاتحادي.
المساق التحليلي للدور التشريعي للمجلس في التنمية بأنواعها.
المساق التحليلي للدور الرقابي للمجلس في التنمية بأنواعها.
نموذج التطبيق للفصل التشريعي الرابع عشر.
نتائج وتحديات مستقبلية.
مرفق كامل الدراسة في ملف بي دي إف
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
تُطرح في العديد من المقالات والدراسات والمؤلفات أسئلة حول "المجتمع المدني" وتعريفه ودوره ونشاطاته في العالم العربي، وما الجدال الذي يدور في مصر حاليا بخصوص دور المنظمات غير الحكومية ونشاطاتها وتمويلها إلا انعكاسا برأينا لمجموعة من الأسئلة التي تبحث عن جواب شاف وكاف وواضح بخصوص مكونات أو ما نسميه نحن "أشخاص" المجتمع المدني. ولكن السؤال الذي نود طرحه في هذه المقالة هو: هل يتم النظر إلى مفهوم "المجتمع المدني" ودوره في أوروبا، وفي الغرب عموما، بنفس الشكل الذي ننظر إليه في عالمنا العربي؟
سنحاول أن نسلط الضوء على المقاربة الغربية لهذا المفهوم، في إطار منظمة (الاتحاد الأوروبي)، من جهة، والبنك الدولي، من جهة ثانية.
ففيما يخص الاتحاد الأوروبي و27 دولة أوروبية أعضاء في هذا الاتحاد (وافق الشعب الكرواتي، في الشهر الأول من هذا العام 2012، على انضمام كرواتيا لهذا الاتحاد، ويمكن أن يتم انضمام هذه الجمهورية فعليا في الشهر السابع من عام 2013)؛ فقد اقترحت المفوضية الأوروبية، ومقرها العاصمة البلجيكية بروكسل، تعريفا يتعلق بالمجتمع المدني، واعتبرت أنه: "يجمع خاصة المنظمات النقابية، ومنظمات أصحاب الأعمال، والمنظمات غير الحكومية، والجمعيات المهنية، والمنظمات الإنسانية، والمنظمات الأساسية، والمنظمات التي تشجع على مشاركة المواطنين في الحياة المحلية والبلدية، مع مشاركة الكنائس والتجمعات الدينية"(1).
ولو تسألنا الآن عن دور المجتمع المدني إزاء هيئات الاتحاد الأوروبي، لوجدنا بأن بعض الدراسات التي أُجريت في بلدان هذا الاتحاد قد أظهرت أن المواطنين يشعرون بنوع من "العجز الديمقراطي" بخصوص دور هذه الهيئات ونشاطاتها، وتأثيرها على حياتهم اليومية، وأن المجتمع المدني يحاول، من جهته، أن يعّوض هذا العجز من خلال ما يقدمه من مقترحات، أو ما يقوم به من ضغوطات على هذه الهيئات بقصد اتخاذ قرارات تستجيب لمتطلبات هؤلاء المواطنين وتلبي تطلعاتهم واحتياجاتهم، ولتتحقق بهذا الشكل "الديمقراطية المباشرة" والمتمثلة بالمجتمع المدني وهو ما يمكن أن يعوض قصور "الديمقراطية التمثيلية" التي تجسدها هيئات الاتحاد الأوروبي في مجالات شتى.
ويشكل البرلمان الأوروبي، ومقره مدينة ستراسبورغ الفرنسية، المكان الأوسع والأنسب الذي يمارس فيه اللوبي الأوروبي نشاطاته(2)، ويقوم المجتمع المدني باختلاف مكوناته أو أشخاصه بالتواصل بشكل دائم مع المجموعات السياسية داخل هذا البرلمان، وذلك من خلال الحوار وتبادل الآراء والأفكار والمعلومات. كما يقوم هذا المجتمع بالضغط والتأثير، ولعب دور يخدم أهداف هذه المكونات وأغراضها(3)، والتي تصب في آخر المطاف لصالح المواطنين والمقيمين أيضا داخل دول هذا الاتحاد.
ولو تطلعنا الآن إلى منظمة عالمية أخرى، وبحثنا في موقفها من المجتمع المدني، وتعريفه، والمأمول منه، ونقصد هنا البنك الدولي، لوجدنا بأن المجتمع المدني بالنسبة لهذا البنك هو: "مجموعة كبيرة من المنظمات غير الحكومية والمنظمات التي لا تهدف إلى الربح. ويكون لتلك المنظمات وجودٌ في الحياة العامة، وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية، أو ثقافية، أو سياسية، أو علمية، أو دينية، أو خيرية. ومن ثم يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى مجموعة كبيرة من المنظمات تضم: جمعيات المجتمعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، ومجموعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات العمالية، والمؤسسات"(4).
ولا يختلف كثيرا هذا التعريف عن التعريف الذي اقترحته المفوضية الأوروبية، بل نقول بأن المأمول من مكونات المجتمع المدني في أوروبا يشابهه إلى حد كبير المنتظر منها بالنسبة للبنك الدولي. ويمكن أن نحصرها في المجالات التالية: دعم الديمقراطية، وسيادة القانون، والمساهمة في عملية ترشيد الحكم والخدمات الاجتماعية وبرامج التنمية وتعزيز حقوق الإنسان، والقيام بحملات توعية تتعلق خاصة بعدة قضايا مثل: حظر استخدام الألغام الأرضية، وإلغاء الديون، وحماية البيئة...الخ.
لعل هذه المقاربة الغربية لمفهوم المجتمع المدني ودوره ونشاطاته في نطاق الاتحاد الأوروبي، مع مقارنة سريعة لموقف البنك الدولي من هذا المفهوم، ستساعد على أثراء النقاش الذي يدور منذ عدة عقود بخصوص مفهوم المجتمع المدني وتعريفه ودوره ونشاطاته في العالم العربي(5).
*محمد أمين الميداني - رئيس المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ستراسبورغ، فرنسا. أستاذ زائر في جامعة ستراسبورغ، فرنسا.
-----------------------
هوامش:
(1) ترجمة كاتب المقالة عن:
B. Cassen, L. Weber, Elections européennes, mode d’emploi. Edition du Croquant, Bellecombe-en-Bauges, 2009, p. 110.
(2) مصطلح (اللوبي - Lobby)، وهو مصطلح أكثر شيوعا واستعمالا في الدول الأنجلوسكسونية وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه يستخدم في إطار عمل الهيئات الأوروبية ليعبر عن تأثير المجتمع المدني وضغوطه على هذه الهيئات بقصد اتخاذ هذا الموقف أو ذاك، أو إصدار قرار بعينه دون غيره.
(3) تواجهه المفوضية الأوروبي والبرلمان الأوروبي ضغوط 20.000 لوبي، انظر:
Cassen, Weber, op.cit., p. 107.
(4) أنظر هذا التعريف على موقع البنك الدولي:
http://www.albankaldawli.org
(5) يراجع على سبيل المثال لا الحصر: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992. انظر أيضا، عزمي بشارة، المجتمع المدني، الطبعة السادسة، منشورات المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، الدوحة، 2011.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
نبذة تاريخية
في بداية العقد السابع من القرن العشرين شهدت البحرين مرحلة جديدة من تاريخ تطورها السياسي تمثلت في نيلها الاستقلال عن بريطانيا في أغسطس 1971، كما تمثلت في تمسك شعب البحرين بعروبته حيث أكد على رغبته في الاستقلال كدولة عربية تحت حكم العائلة الحاكمة وتكريس خيار الديمقراطية كوسيلة لحكم البلاد.
وفي يونيو1972 أصدر الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه المرسوم بقانون رقم (12) لسنة 1972 بشأن إنشاء مجلس تأسيسي لإعداد دستور للدولة وإرساء الحكم في البلاد على أسس قويمة من الديمقراطية والعدل، وفي ظل نظام دستوري، برلماني، يوطد حكم الشورى ويتفق مع ظروف البلاد وتراثها العربي والإسلامي. وقد انشأ مجلس تأسيسي لوضع دستور للبلاد تألف من أثنين وعشرين عضوًا منتخبًا وعدد عشرة أعضاء عينوا بمرسوم، وكان الوزراء أعضاء في المجلس بحكم مناصبهم.
وبذلك فقد تشكل المجلس التأسيسي الذي أنيط به وضع مشروع الدستور. وقد انعقدت الجلسة الأولى للمجلس التأسيسي في يوم 16 ديسمبر1972، وبتاريخ 9 يونيو1973 أقر المجلس التأسيسي دستور دولة البحرين ورفعه للأمير فصدق الأمير الراحل على الدستور وأصدره بتاريخ 6/ ديسمبر/ 1973.
وتماشيا مع أحكام الدستور صدر بتاريخ 11 يوليو 1973 المرسوم بقانون رقم (10) لسنة 1973 بشان أحكام الانتخاب للمجلس الوطني، وبناء عليه تم انتخاب 30 عضوا للمجلس الوطني في يوم الجمعة الموافق 7 ديسمبر 1973.
وبذلك تكون السلطة التشريعية آنذاك ممثلة في المجلس الوطني مكونة من 30 عضوًا منتخبًا في فصله التشريعي الأول ويرفع هذا العدد إلى 40 عضوًا إبتداء من الفصل التشريعي الثاني مع وجود أعضاء الحكومة الممثلين للسلطة التنفيذية وهم 14 عضوا من الوزراء، بحكم مناصبهم.
وقد انعقد اول اجتماع للمجلس الوطني بتاريخ في الساعة العاشرة من صباح يوم الأحد الموافق 16 ديسمبر 1973. ولكن الحياة النيابية في البحرين لم تستمر طويلًا حيث توقفت بتاريخ 26 أغسطس 1975 بصدور المرسوم الأميري رقم (14) لسنة 1975 الذي حل بموجبة المجلس الوطني وظل كذلك حتى انتخاب مجلس النواب في عام 2002.
مرفق كامل الدراسة في ملف بي دي إف
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
ملخص المقالة:
تقدم الدراسة الحالية رؤية موجزة لتطور مفهوم التربية على السلام خلال القرن العشرين ولاسيما فيما يتعلق باعتماد مضامين هذه المفهوم وتطبيقه في العملية التربوية. كما تحاول تسليط الضوء على أصل المفهوم وتطبيقاته التربوية ولاسيما في نسق المؤسسات الدولية والعالمية.
تبدأ المقالة بتقديم فكرة عن ولادة التربية على السلام كمنحى تربوي عالمي التوجه فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وتبين المقالة إن تطور التربية على السلام يعاني من غموض المفهوم وتعقيده ولاسيما فيما يتعلق بأبعاده وغاياته ومجالاته وأولياته. وهذا التعقيد ناجم عن تطور المفهوم عبر مراحل تاريخية متتابعة تتميز كل منها بخصوصيتها وسماتها وعواملها وأولوياتها ونظرتها إلى مفهوم السلام ذاته وإلى التربية بغاياتها وأهدافها.
الدراسة:
شكلت الفترة التاريخية ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية مرحلة هامة من مراحل تطور حركة التربية على السلام في مستوى المفهوم وفي مستوى الممارسة، ويشار إلى هذه الفترة بوصفها المهاد الأساسي لولادة مفهوم التربية على السلام بأبعاد كونية، كما شهدت هذه المرحلة البدايات الأولى لتشكل النظريات التربوية حول التربية على السلام والتسامح وحقوق الإنسان. وقد أفرزت هذه المرحلة أيضا نسقا من الإشكاليات التربوية المستجدة التي تتعلق بأهمية تحقيق التوازن التربوي في تربية السلام ما بين أولوية القيم الوطنية المحلية وأولوية القيم العالمية على المستوى العالمي، وتجلت هذه الإشكالية في تحديد طبيعة المناهج التربوية التي يجب أن تعتمد وتوظف في مختلف مستويات التعليم من أجل التربية على السلام وتأصيل قيمه.
لقد ساهمت عصبة الأمم ، التي أُسست في فرساي عام 1920 ، في عملية تأصيل وتعزيز التربية على السلام بعهودها وعقودها الدولية القائمة على مبدأ التوافق بين الدول والتعاون فيما بينها. ولكن هذا التوافق بين الأمم والدول لم يؤت أُكْلَه بسبب رفض بعض الدول التدخل في شؤونها التربوية، حيث اعتبر القطاع التربوي امتيازا وطنيا يجب أن ينأى عن أي تدخل دولي مهما كان شأنه. ولذلك فإن الدول الأعضاء المعنية بالتربية على السلام تصرفت بدرجة كبيرة من الحذر والتحفظ في هذا الشأن فاقتصرت الجهود على عملية تطوير التعليم وفقا لمبادئ عصبة الأمم والتعاون الدولي.
ولم تقف جهود التربية على السلام عند حدود العلاقات الدولية، بل تجاوزتها إلى المنظمات والمؤسسات الدولية غير الحكومية، التي عُنيت وما زالت تُعنى بالشأن العالمي للسلام والتعاون بين الأمم، وقد فرض هذا الأمر على الدول الأعضاء في عصبة الأمم أن تقوم بالتنسيق بين الرأي العام العالمي و المنظمات الدولية غير الحكومية، وبين الحكومات التي توجّب عليها تحقيق طموحات هذه المنظمات وتطلعاتها في مجال العمل التربوي السلمي. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الحكومات الغيورة على امتيازاتها لم تسمح في حقيقة الأمر لهذا النشاط في مجال التربية على السلام أن يتجاوز حدود التوصيات والممارسات الشكلية العابرة. ورغم ذلك كله فإن عصبة الأمم قد لعبت دورا كبيرا في التأسيس لحركة عالمية حقيقية وهامة في مجال الدعوة إلى التربية على السلام بين الأمم والشعوب، وقد اتخذت هذه الجهود صورة تعاون وثيق بين الحكومات وبين المؤسسات الدولية غير الحكومية وبين المؤسسات الحكومية.
ومما لا شك في أن جهود عصبة الأمم في مجال التربية على السلام قد شكلت المقدمات الأساسية لنشاط اليونيسكو في هذا الميدان نفسه، فاعتمدت اليونيسكو منهجيات في العمل مجانسة لهذه التي اعتمدتها عصبة الأمم في المراحل السابقة، ومنها الاستقصاء الذي أجرته بالتعاون مع المنظمات الدولية غير الحكومية من أجل بناء توصيات فعالة للتربية على السلام وقد أسهمت هذه التوصيات في تشكيل الأصول المعيارية للتربية على السلام وبناء فعاليات تربوية فعّالة لإدماج قيم ومبادئ التربوي على السلام.
تطور مفهوم التربية على السلام.
شهد مفهوم التربية على السلام تناميا كبيرا في مناهجه وتوظيفاته ومجالات استخدامه، وبدأ هذه التطور مع ولادة الحركة العالمية للتربية على السلام ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد تركزت الجهود في البداية على فكرة التعاون الدولي من أجل تعزيز التربية على السلام، ومن ثمّ بدأ الاهتمام بحقوق الإنسان ينمو مع نشأة الأنظمة الاستبدادية العرقية، مثل، النازية والفاشية ويحظى بأولية على التربية السلمية، وهذا الأولوية بدأت تأخذ مداها في مجال التربية على التسامح التي تعدّ بذاتها بعدا أساسيا من أبعاد مفهوم التربية على السلام. وقد شهدت الساحة السياسية العالمية دعوة واضحة لاتخاذ مواقف معادية للأيديولوجيات الشمولية والعرقية ومناهضة السياسات التي تتبنى هذا النهج الشمولي والنظر إليها بوصفها سياسات غير مرغوبة ومعادية للإنسانية وللتربية على السلام (برن، 1981).
وفي هذا مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي نشأ خلاف وجدل كبير حول مسألة التربية على السلام وحقوق الإنسان في المستويين العالمي والإقليمي. وفي ظل هذا التنازع واجهت تيارات التربية على السلام صعوبات كبيرة في تأكيد حيادها السياسي والأيديولوجي، وكان عليها إزاء هذه التحديات أن تؤكد طابعها الإنساني النضالي المحايد أيديولوجيا من أجل تحقيق غاياتها وأهدافها.
ومن ثم أدى تعاظم تيارات التربية على السلام إلى تنامي الجانب الأخلاقي لهذا المفهوم،واقتضى الأمر ضرورة إيجاد السبل التي تكفل تطبيق القيم الإنسانية والأخلاقية للتربية على السلام في إطار اتفاقيات دولية واضحة المعالم.
وقد شهدت فترة ما بعد الحرب الثانية حدثا بارزا في هذا الميدان يتمثل في اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 في هيئة الأمم المتحدة، وهو الإعلان الذي تضمن اعترافا واضح المعالم بالمبادئ العامة لحقوق الإنسان وشموليتها في مختلف المستويات. وقد شكلت وحدة الرؤية إلى حقوق الإنسان - التي تضمنها هذا الإعلان - شرطا جوهريا للمحافظة على الأمن والسلام في مجال التربية على السلام، وعزز فكرة قوامها أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التربية العالمية على السلام، وقد أسست هذه الرؤية ركنا أساسيا حفّز على دراسة وتقصي مختلف الجوانب الإشكالية لمسألة التربية على السلام في بعدها العالمي.
لقد ساهمت المناقشات المستمرة في مختلف المحافل الدولية الحكومية وغير الحكومية في تعزيز رؤية شاملة لحقوق الإنسان التي تضمنت مفاهيم جديدة في حقوق الإنسان ولاسيما الحق في السلام والأمن، والحق في النمو، وحق الحياة في بيئة صالحة لا تلوث فيها. وهذه الحقوق الأخيرة تنضوي تحت عنوان جيل جديد من حقوق الإنسان التي ألحقت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي هذا المسار، شهد مفهوم حقوق الإنسان - كما هو حال مفهوم السلام – تطورا تكامليا بأبعاد جديدة. وفي نسق هذا التطور الخاص شهد مفهوما السلام وحقوق الإنسان تفاعلا استراتيجيا وتدامجا حيويا بحيث أصبح من الصعب الفصل بينهما.
لقد أصدرت منظمة اليونيسكو وثيقة دولية في عام 1974 أكدت فيها على مفهوم السلام وعلى صلات التفاعل بين مكوناته، كما أكدت على أهمية التربية على السلام بأبعاد عالمية. وتضمنت هذه الوثيقة تأكيدا على أن التربية بأبعاد عالمية تنطوي على دلالات مختلفة متكاملة مثل التعاون الدولي والسلام والتفاهم الإنساني، وتمّ التركيز على مفهوم التربية على التفاهم الدولي الذي فرضته أحداث الحرب الباردة وملابساتها الفكرية، وتصدّر هذا المفهوم التوصيات التي خرجت بها هذه الوثيقة في عام 1974. ومن أجل خفض أجواء التوتر الناجمة عن الحرب الباردة نادت الوثيقة بمبدأ بناء العلاقات الودية بين الشعوب والدول التي تنهج نهجا سياسيا مختلفا.
العولمة والتربية على السلام:
أكدت الوثيقة الصادرة عن اليونيسكو الآنفة الذكر أن كل سياسة تربوية يجب أن تأخذ طابعا دوليا وأن تتضمن رؤية عالمية، كما يجب أن تؤسس لوعي كبير بأهمية استقلال الشعوب والأمم. وقد ارتبط هذا التوجه بالعولمة التي تمثلت بمنظومة من عمليات متكاملة ذات طابع سياسي واقتصادي وثقافي. ويضاف إلى ذلك أن الوعي بآليات هذه العولمة وفعالياتها أصبح ضرورة من ضرورات العولمة ذاتها. ووفقا لهذه الصيرورة اكتسبت التربية على حقوق الإنسان والتربية على مضامين جديدة وأصبحت بذاتها بعدا أساسيا من أبعاد التنمية المستدامة(Mayor,1992). وأصبحت فيما بعد تشكل ضرورة حيوية تتيح للأفراد التعرف على شروط وجودهم في دوائر التفاعل الإنساني العالمي بين الشعوب والأمم الذي يقوم على السلام والأمن. وفي عمق هذا التوجه أكدت مختلف التيارات السلمية على إعطاء التربية دورا حيويا يتجاوز كل عوامل الاختلاف بين المجموعات البشرية التي تعيش في شروط بيئية وإنسانية مختلفة والتي تمتلك على رؤى مختلفة فيما يتعلق بأولوياتها وعوامل نموها.
فالوصول إلى اتفاق كوني حول بعض القيم العالمية أمر ممكن تحقيقه في نهاية الأمر، وهذا مرهون بإزكاء تربية ضرورية تمكن الفرد من التعرف على طبيعة الحاجات المشتركة بين الشعوب المختلفة، وهنا تبرز الضرورة الحيوية لتربية السلام التي تعرّف الأجيال بعوامل التجانس بين الشعوب والأمم المختلفة فيما يتعلق بمصالحها وطموحاتها وقيمها، كما تتجلى أهمية التعاون الدولي في مجال التربية على السلام والتكامل بين الشعوب والأمم كما ظهرت في الوثيقة الصادرة عن المكتب العالمي للتربية التي حددت بوضوح كبير مقاصد وأبعاد التربية بأبعاد عالمية (بشير، 1994، 14). وقد أثمرت هذه الجهود وأعطت هذه الفعاليات الدولية أوكْلَها في بناء التربية على السلام بوصفها فتحا إنسانيا في تاريخ الأمم المسالمة.
لقد أثارت مسألة التربية على السلام نسقا من القضايا الإشكالية في مختلف المستويات التربوية والسياسية والدولية، ويمكن لهذه الإشكاليات أن تتبلور في نسق من الأسئلة الحيوية التي تطرح نفسها بقوة: إذ كيف يمكن بناء السلام وتعزيز أواصره دون معرفة حقيقة بالآخر وحقوقه؟ وكيف يمكن تعزيز مسار هذه التربية من غير تفاهم متبادل بين الأمم والشعوب؟ وكيف إذن يمكن البحث عن السلام في الوقت الذي تندفع فيه الأمم إلى التسلح واكتناز السلاح؟ وما زالت هذه الأسئلة الإشكالية وغيرها كثير تطرح نفسها في مجال التربية على السلام والتسامح وحقوق الإنسان في العالم المعاصر. ويمكن لنا أن نستجلي بعضا من هذه الإشكاليات في الفعاليات السياسية والتربوية بين الأمم والشعوب والدول منذ القرن الماضي حتى يومنا من أجل ترسيخ مفهوم التربية على السلام برؤية عالمية.
من التربية على السلام إلى التربية العالمية:
تؤكد البحوث المعاصرة على ولادة متعثرة للاتفاقيات الدولية على معايير التربية الدولية أو العالمية، وتتمثل هذه الولادة المتعثرة في مجموعة من الصعوبات والتحديات الكبيرة التي تتعلق بالجوانب التطبيقية والوسائل الممكنة التي يمكن اعتمادها في تحقيق هذا النوع من التربية بأبعاد عالمية.
فالتربية العالمية تنطوي على أهداف تتمثل في تحقيق التناغم والسلام العالمي في مختلف أنحاء المعمورة، وتسعى في الوقت نفسه إلى بناء مناهج تربوية فعالة لتحقيق هذه الغاية السلمية. فالتربية العالمية تهدف في جوهرها إلى استئصال العدوانية والكراهية وبناء أجواء إيجابية تؤكد أهمية الاختلاف والتباين الثقافي والإنساني بوصفه عنصرا أساسيا في الوجود الإنساني، وهذا يتضمن الإيمان بالاختلاف كضرورة من ضرورات الحرية الإنسانية ذاتها. وهذا يتضمن تأكيدا واضح البيان على أهمية التعدد الثقافي والإهابة بمختلف الثقافات الإنسانية إلى الحضور والمشاركة على في الحضارة الإنسانية على مبدأ التنوع الكوني (الجابري، 1995).
ويمثل هذا التوجه إرادة الجمع بين ضرورتين بين ضرورة الاختلاف والتباين وضرورة التنوع والتغاير الإنساني وتلك هي المعادلة الصعبة التي تتطلب تحقيق نوع من التجانس الذي يقوم على التنوع أو نوعا من التباين على مبدأ التجانس، وهذا الهدف يبدو ممكنا وضروريا في الآن الواحد، وإمكانية تحققه تتمثل في قضية التكامل الذي لا يكون إلا في معادلة التنوع والاختلاف الذي يمثل نوعا من الغنى والثراء الثقافي والإنساني في المجتمعات الإنسانية. فالتنوع يعزز التجانس وبالتالي فإن التجانس والوحدة لا يمكنها أن تقوم إللا على أساس الاختلاف والتوالد عبر النقائض المتفاعلة في حركة جدلية لا تتوقف حركتها أبدا وهذا ما يمكن أن يعبر عنه بقانون وحدة وصراع الأضداد. وقد أكدت ن المؤسسات العالمية الكبرى على أولوية وأهمية التكامل الدولي والوحدة الثقافية على أساس احترام الخصوصيات والهويات القومية والوطنية في مختلف أصقاع العالم.
هذه الرؤية التي تؤكد أهمية البعد العالمي للوجود الإنساني تؤكد في الوقت نفسه أهمية التربية العالمية ودورها في تأصيل التربية على التسامح والسلام التي تمّ تبنيها في المؤتمر العالمي للتربية في عام 1994 حيث جاء في هذا المؤتمر بأن الاستراتيجيات التربوية يجب أن تأخذ بعدا عالميا منظما وموجها ومؤسسا على عدد كبير من العوامل والمتغيرات العالمية.
التربية على السلام برؤية عالمية.
تمثل التربية على السلام والديمقراطية بأبعاد عالمية توجها تربويا حديث العهد، وبدأت هذه التربية تأخذ مكانها المميز في البرامج التربوية التي تعززها منظمة اليونيسكو. فأغلب التوصيات التربوية للمؤتمرات الدولية تؤكد على أهمية هذا النمط التربوي وتؤكد صبغته العالمية في الوقت نفسه. وقد شكل هذا التوجه الجديد منطلقا حيويا لتطوير الوسائل والطرائق والمناهج التربوية المتطورة لتعزيز التربية على السلام بأبعاد عالمية. وقد اعتمدت منهجيات هذه التربية وأدواتها في توصيات إعلان المبادئ للدورة 44 للمؤتمر الدولي للتربية " Conférence Internationale de l'éducation " في عام 1994 (CIE)، حيث أعطيت الأولوية للتربية على الديمقراطية وقيم السلام التي كانت قد شهدت تأكيدا لها في الإعلان العالمي لنهاية الحرب العالمية الثانية وهو الإعلان الذي أكد على أهمية القيم الديمقراطية الغربية.
وفي هذا الاتجاه أيضا يلاحظ بأن التكامل بين مفاهيم السلام والديمقراطية قد سجل حضوره في إعلان المؤتمر الدولي للتربية الذي ركز على مفهوم التربية على السلام والديمقراطية، وهذا التوجه العالمي للتربية بأبعاد عالمية وجد بلورة له في مستوى المفاهيم المتعلقة بالسلام والتسامح وحقوق الإنسان.
ويلاحظ في هذا المسار أن مؤتمر عام 1994 قد تجاوز تأثير الصراعات الأيديولوجية في تكوين مفاهيم السلام والتربية على السلام والديمقراطية حيث أثر هذا الصراع الفكري الأيديولوجي مابين الشرق والغرب ما بين الجنوب والشمال في بناء التوصيات التي خرج بها المؤتمر الدولي للتربية الأسبق عام 1974.
لقد عكس المؤتمر الدولي للتربية على السلام بأبعاد عالمية عام 1994 نسق التحولات والتغيرات التي شهدها المجتمع الإنساني منذ عام 1974 حيث جري الـتأكيد الكبير على أهمية البعد الديمقراطي كمنطلق أساسي لتعزيز قيم السلام ومفاهيمه. وقد تجنب هذا المؤتمر نقد الأنماط التنموية القائمة في مختلف البلدان حيث يجد هذا النقد رفضا سياسيا، ولكن المؤتمر أشار بوضوح كبير إلى اتساع الهوة القائمة ما بين البلدان الفقيرة والبلدان الغنية وأكد أهمية اعتماد نمط من التنمية الدائمة أو التنمية المستدامة.
من المسلم به اليوم أن تعزيز القيم الديمقراطية يؤدي بالضرورة إلى تعزيز قيم السلام، وقد أكدت منظمة اليونيسكو في مختلف نشاطاتها وبرامجها على أهمية العلاقة بين تعزيز القيم الديمقراطية والجهود المبذولة من أجل تعزيز ثقافة السلام ويتجلى هذا الأمر في نشاطات المنظمة في عام 1994. حيث قدمت المنظمة مشروعا عالميا يتجه إلى إدانة ثقافة الحرب وتأصيل ثقافة السلام. وينطلق هذا المشروع ليؤكد قيمتي العدالة والحرية وهما المفهومان الأساسيان للديمقراطية(UNESCO,1994). وأكد هذا المشروع على أهمية تأصيل الديمقراطية، وبيّن أن تضاعف الصراع الثقافي والحضاري تعبير عن سنوات طويلة من القهر والصمت والكراهية. وهي عوامل اختمرت في مرحلة الحرب الباردة وظهرت بقوة على مشارف نهاية هذه الحرب وبدأت تعطي نتائجها في مجال التعصب العرقي والثقافي والديني.
فالتربية يمكنها أن تؤصل لثقافة السلام وتعزز مساراتها حيث يبرز دورها، على سبيل المثال لا الحصر، في عملية تنقية النصوص التاريخية من دروس العنف وتقديم معلومات أفضل عن الآخر من أجل ترسيخ مفهوم السلام وثقافته بين الطلاب والناشئة (بيزاني، 1992، 34).
لقد أكد المشاركون في المؤتمر الدولي لثقافة السلام المنعقد في السلفادور عام 1994 على أهمية البرامج التربوية على السلام كضرورة حيوية من أجل ترسيخ قيم العدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية. وقد أكد المؤتمرون أيضا على أهمية مشاركة المواطنين أنفسهم في مختلف النشاطات التربوية والثقافية التي من شأنها تعميق ثقافة السلام وقيمه. وفي هذا السياق يمثل برنامج " ثقافة السلام " الخاص بمنظمة اليونيسكو نوعا من التطبيقات المتكاملة والمنظمة التي تأخذ بعين الاعتبار مختلف العوامل والمتغيرات التي يمكنها المحافظة على قيم السلام وتأصيلها.
إن اعتماد رؤية شاملة للسلام، ومحاولة تطبيق هذه الرؤية، يعكس توجها عالميا مشتركا لقيم السلام وثقافة التسامح وإرادة العيش المشترك، ومع ذلك فإنه يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذا التوافق لا يمكنه أن يتجاوز بعض التوترات القائمة بين الأطراف السياسية المتعارضة في كثير من الحالات السياسية. وهذا الأمر قد أسس لتوصية أممية تؤكد أهمية تحقيق التوازن الذي يمكّن من تجنب التفرقة واللجوء إلى العنف والصراع حيث يجب تعزيز قيم التنوع والاختلاف الثقافي بين الجماعات كما بين الأمم (UNESCO,1994).
فالتوافق على القيم التي يجب تعزيزها في التعليم يجب أن تكون ذات طابع نمائي متطور وألا تتحول بذاتها إلى نوع من الفكر العقائدي الدوغماتي المتصلب، لأن هذه التوافقات يجب أن تكون وقتية وأن تعكس أوضاعا وأولويات اجتماعية مختلفة في مراحل مختلفة من مراحل تطور المجتمع.
خلاصة
صةيعكس تطور مفهوم التربية على السلام إلى حدّ كبير تطور مفهوم السلام ذاته وأولويات الحفاظ على السلام الإنساني وتعزيز مساراته في مختلف الاتجاهات. ففي فترة ما بين الحربين كان العمل يتمركز حول أهمية الحلول السلمية للصراعات العالمية وتأكيد التوافق بين الدول والأمم والشعوب، وكانت هذه الإجراءات السلمية تتوافق وإلى حدّ كبير مع معطيات ومتطلبات هذه المرحلة التاريخية.
وفيما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة حدثت تحولات كبيرة تتعلق بالصراع بين الشرق والغرب أو بتناقضات الجنوب والشمال واتخذت هذه الصراعات طابعا أيديولوجيا. ووجد هذا الصراع بمختلف تجلياته الأيديولوجية انعكاسا له في مجال التربية على السلام في مختلف مفاهيمها وتجلياتها. وقد تطور مفهوم التربية على السلام في ظل هذه الظروف ليتضمن عوامل ومتغيرات جديدة توجد في أصل هذه الصراعات وفي نسق العلاقات القائمة بينها.
وفي دائرة هذا التفاعل بين مختلف هذه الجوانب تجلت توصيات اليونيسكو في عام 1974 التي أكدت أهمية العلاقة والترابط الحيوي بين حقوق الإنسان والتطور العالمي، وما بين مفهوم العدالة الاجتماعية والسلام. وفي هذا المسار اتخذت التربية على السلام طابعها العالمي حيث عملت على احتواء الأولويات الأساسية للكتلتين الأيديولوجيتين المتناقضتين مع التأكيد على مبدأ التفاهم والسلام العالمي وذلك في إطار الجهود التي بذلتها اليونيسكو في هذه المرحلة.
وقد انعكست ظروف نهاية الحرب الباردة وردود فعلها في مفاهيم التربية على السلام كما في مفهوم التربية العالمية. كما وجد هذا التحول نفسه في مفهوم الصراع بين الجنوب والشمال. وظهر أيضا تحول كبير في مفهوم التربية العالمية الذي تجلى في المؤتمر الدولي للتربية " في عام 1994 (CIE) الذي نسخ توصيات اليونيسكو عام 1974. وذلك عندما قام المؤتمرون بإعادة النظر في نسق المفاهيم القديمة الخاصة بالتربية الدولية، حيث رسخت أولويات جديدة للتربية السلمية، ولاسيما في مجال التربية على الديمقراطية والتربية السلمية بأبعاد عالمية. وقد عمل برنامج " ثقافة السلام" الخاص باليونسكو على تكريس هذا التحول الجديد في مفاهيم التربية على السلام والتربية الدولية. وفي نسق هذا التحول الجديد أصبح مفهوما السلام والديمقراطية أكثر تواصلا وتفاعلا وترابطا وتكاملا، إذ أكد هذا البرنامج على الرؤية الشمولية العالمية لمفهوم التربية على السلام، وقد فرضت هذه الرؤية الجديدة حضورها على نحو عالمي وذلك من أجل الاستجابة للمشكلات الراهنة للمجتمعات الإنسانية المعاصرة.
ولكن حجم المهمة الكبير، لتطوير التربية الدولية وتنمية ثقافة السلام في المستوى العالمي، فرض نوعا من الشكوك والانتقادات، ولاسيما عند هؤلاء الذين يبالغون في حساب المسافة بين الطموح والواقع في ظل العلاقات الدولية التي تقوم على مبدأ اللاتكافؤ، حيث تهيمن مصالح الأقوى بين الدول والمجتمعات الإنسانية التي توجد في أصل الصراع والفوضى. لقد شكلت هذه الأمور ومل يماثلها من قضايا عقبات يصعب تجاوزها من أجل تحقيق الأهداف التربوية المنتظرة للتربية على السلام(Hénaire,1995). وهنا يطرح السؤال الأساسي نفسه: هل يتوجب على التربية السلمية بأبعاد عالمية أن تعمل على تحويل الأفكار إلى حقائق ووقائع؟ وهل يجب التمييز بين التربية التي تعنى بالمشكلات التي ترتبط بالسلام والتنمية وبين التربية التي تعزز السلام نفسه؟ ذلكم هو السؤال القديم الذي يتعلق بالدور المزدوج للتربية حيث يمكن التمييز بين التربية التي تقوم بنقل المعلومات الموضوعية وبين هذه التي تعنى ببث القيم وتعزيزها.
ويستنتج من ذلك أن كيفية العمل في مجال التربية على السلام يضاهي مسألة ما يجب من عمل لتحقيق هذه الغاية، ولا يقل سؤال الكيفية أهمية عن أهمية تحديد الغايات والإجراءات الضرورية لتحقيق هذه الغايات. وبعبارة أخرى، فإن الأسئلة المنهجية قد تكون أكثر أهمية من هذه التي تتعلق بمضمون التعليم ذاته واتجاهاته المختلفة. إن بثّ القيم التي ترتبط بالمفاهيم المنهجية مثل: ثقافة السلام، يمكن أن تجد تعزيزا لها في المنحى البيداغوجي الذي يؤكد أهمية العلاقة بين مختلف أبعاد الظاهرة المدروسة. فالترابط بين المفاهيم الأساسية للتربية على السلام وثقافة السلام يمكنه أن يؤكد نسقا من الفعاليات التربوية الضرورية التي يمكن أن تفعل فعلها في نشر القيم التربوية بصورة فعالة ورزينة(Montandon,1983).
فالتعدد الذي يوجد في أصل الحياة الديمقراطية يتطلب في الوقت نفسه نشاطا تربويا يقوم على تكريس مبدأ التعدد والتنوع، إذ يتوجب على المربين في إطار عملهم مناقشة مختلف الأفكار والقضايا المثيرة للجدل، ولكن هذا الأمر يجب أن يؤخذ مع التأكيد على أهمية الاستقلال الفكري واحترام الحس النقدي عند المتعلمين. وهذه المتطلبات الأولية يجب أن تتوافق مع عملية غرس القيم النقدية والقدرة على إصدار الأحكام الخاصة عند المتعلمين، وذلك تأسيسا على معلومات موضوعية قدر الإمكان، وهذا بدوره يتطلب ممارسة حقيقة لحقوقهم الديمقراطية والإنسانية ولاسيما الحق في التعبير وإبداء الرأي.
وهنا تبرز الأهمية الكبيرة في أن يكون المعلم نفسه قادرا على التعبير عن رأيه وأفكاره وخصوصيته، وأن يصان هذا الحق بالاحترام والتقدير، فحرية المعلم هذه يجب أن تمارس في شروط موضوعية مناسبة، حيث يتعلق هذا الحق بأعمار الطلاب ومستوى تأهيلهم، ولأن ممارسة هذا الحق بالمطلق يسمح لكثير من المعلمين بفرض آرائهم الخاصة وتشكيل ذهنية الطلاب وفقا لتشكيلات فكرية وأيديولوجية مسبقة تتعلق بمسألة ترسيخ عقائد ونماذج فكرية دوغماتية محددة.
إن عملية تبادل الأفكار ووجهات النظر يجب أن تكون حالة من حالات الممارسة الديمقراطية تهدف إلى تنمية الحس النقدي عند المتعلمين، وإلى تطوير قدرتهم على التمييز والكشف، وتمكينهم من القدرة على تشكيل أحكامهم الخاصة تأسيسا على معلومات موضوعية على أساس التنوع الفكري وتعدد الآراء. فالموضوعية ذاتها قد تكون مصدرا للجدل ولاسيما إذا كانت هذه الموضوعية لا تتطابق مع الرؤية الخاصة للمعلم. إن عملية بث القيم يمكن أن تتم في سياق محدد يتصف غالبا بالتكتم والحذر. فعلى سبيل المثال قد يكون ذلك عن طريق اختيار عقلاني للمادة التعليمية بطريقة ضبابية وتجنب الخطاب الذي يعطي انطباعات دعائية دوغماتية.
وبالتالي فإن هذه القواعد والمبادئ التربوية المحايدة - التي يجب أن تكون في موضع الاحترام والتقدير مهما يكون المنحى التربوي المعتمد – تغطي مجالا واسعا في العملية التربوية، وهي تهدف في النهاية إلى ترسيخ ثقافة السلام وتعزيز مقومات التفكير النقدي والديمقراطي عند الفرد(الحطاب، 1989، 29).
ومن الطبيعي جدا أن يؤدي تطبيق هذه المبادئ في العملية التربوية إلى تنمية الحس النقدي وبناء القدرة على التسامح في صفوف المتعلمين والمريدين والتلاميذ، وهنا وفي هذا المسار من الممارسة الديمقراطية لا يجب أن يُعلّم الطالب فن الدفاع عن أفكاره فحسب، بل يجب تعليمه أيضا فن احترام الرأي الآخر وتقديره حتى وإن كان رأي الآخر مخالفا ومناقضا للرأي الشخصي.
مراجع وهوامش المقالة
.- الأنصاري، محمد جابر (1995). مفهوم التسامح في الثقافة الإسلامية وانعكاساته على تربية الأطفال، ضمن: الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الطفولة في مجتمع عربي متغير، الكتاب السنوي العاشر، الكويت، 1994- 1995، (صص 41-75).
- برن، أندريه مرسييه (1987). التسامح كأمر فلسفي، ضمن مراد وهبة، التسامح الثقافي: أبحاث المؤتمر الإقليمي الأول للمجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية المنعقد في 21-24 نوفمبر عام 1981، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، (صص 43-59).
- بيزاني، ادجار (1992). في مواجهة عدم التسامح، رسالة اليونسكو، يونيو 1992، (صص34 - 36).
- الحطاب، أحمد (1989) الصفات التي يجب أن تتسم بها التربية للاستجابة لمتطلبات القرن الواحد والعشرين مكتب اليونيسكو الإقليمي، العدد 35، يونيو، حزيران.
- بشير، هيلين دار (1994) حرية الكلمة الحرية الرئيسية، رسالة اليونسكو، مارس (صص14-24).
- Hénaire, J. (1995) L'éducation planétaire à l'épreuve du réel. Texte présenté à la session d'été 1995 du Projet «Éducation dans une perspective planétaire», Université Laval, Sainte-Foy.
- Mayor, F. (1992). L'éducation au service d'un développement durable: relever le défi de Rio. Allocution prononcée le 17 octobre par Federico Mayor, directeur général de l'UNESCO, à l'ouverture du Congrès mondial sur l'éducation et la communication en matière d'environnement et de développement, Toronto (UNESCO, DG/92/43).
- Montandon, E.(1983). Éducation pour la compréhension internationale, la paix et les droits de l'homme. Documentation et information pédagogiques.
- UNESCO (1994). Un sentiment d'appartenance. Principes directeurs pour l'éducation aux valeurs destinées à promouvoir la dimension humaniste et internationale de l'enseignement. Paris: UNESCO.
- UNESCO (1994). Programme pour une culture de la paix — Des programmes nationaux à un projet déportée mondiale (145 EX/15, Paris, 18/8/1994). Paris: UNESCO
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
يسلط الدكتور/ سمير الشميري في بحثه المعنون بـ"صورية البناء البرلماني والمؤسسي في الجمهورية اليمنية" بؤرة الضوء على ملامح التقهقر الديمقراطي والانتخابات البرلمانية التي لم تؤدِ إلى تطوير المؤسسات الديمقراطية والعمليات الانتخابية بل إلى مزيد من الزيف الديمقراطي وإلى عمل خالٍ من المؤسـسيـة وأمان هـش وواقع يترنح ما بين التقليدية والحـداثة وملفع بكومة من الضباب الكثيف يتمزق بنصال الفوضى والعشوائية وزلزلة الاستقرار.
مرفق الدراسة في ملف بي دي أف
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
الترقّي بالوعي الديني في تونس ليس أمرا هينا، لأن المسألة تمسّ القطب ومريده والمعلّم وتلميذه. فالفكر الديني، في الجامعة أو في الجامع، مرهَق ومنهَك، والحال في المحصلة نتاج تجفيف ساد على مدار عقود حوّل البلاد إلى قفر خاو. ما جعل المجتمع، قبيل اندلاع الثورة، يوشك أن يتهدّده مرض فقدان المناعة الدينية، التي لا تزال آثارها بادية إلى يوم الناس هذا. فمن فرط عياء الوعي ما انفك يهتزّ لكل ناعق، مستوطن أو وافد، وإن كان ممن ينبغي أن يفقَّه ويدرَّب ويُعلّم ويؤدَّب.
صار الإدراك الديني، مع مدّعي التديّن وشاهري اللاّتدين، قصير النظر قليل الأثر، وقصّة نعمان الآرامي توجز ذلك القصور، بالتساوي لدى الذين اُتُّبِعوا ولدى الذين اِتّبَعوا. فكما ورد في سفر الملوك الأول، يُروى أن نعمان لما قدِم إلى أورشليم للتداوي تهوّد ودان بدين اليهود، ولما شدّ الرحال عائدا إلى موطنه احتار في أمر عبادة يهوه، فما كان من حكماء بيت الرب إلاّ أن أفتوه بالتزوّد بحِمل بغلين من تراب الأرض المقدّسة لينثره عند موضع عبادته، وعنده يسجد ويقدّم قربانه لربّه، فسيتقبّل منه طالما أنه يقف على أديم الأرض المقدّسة. هذه القصّة تعطي فكرة بيّنة عن التصوّرات الدينية القاصرة أحيانا لدى المفتي والمستفتي. لذلك ما لم ينفتح الفكر الديني في تونس الجديدة على المقاربات العلمية وينهل من معينها الصافي: علم الاجتماع الديني، الإناسة الدينية، علم الأديان، لهاويت الأديان وغيرها، ويخرج من المشاحنات الديماغوجية، التي أدمنها العقل الخامل على مدى عصر الظلمات الدكتاتوري حتى استنزفت قواه، فسيبقى محدود الوعي بذاته وبما يدور حوله في العالم.
ضمن هذا السياق الذي نعيد فيه النظر في المؤسسة الدينية كرّة وكرّتين وأكثر، تلوح بليغة تلك الكلمة التي قالها الأستاذ مالك بن نبي (1905-1973م) بشأن الزيتونة، لما سأله أحد تلاميذه هل يمكن للجزائر وقد استقلّت وأسّست التعليم الأصلي وجامعة الأمير عبد القادر أن تحلّ محلّ تونس مركزا حضاريا في المنطقة؟ فأجاب الرجل: إن المراكز الحضارية الكبرى في تاريخ كل حضارة لا تقوم ولا تختفي في يوم. لكن رغم قيمة ذلك الرأسمال الرمزي الذي نقف عليه منذ قرون، ففي الراهن الحالي لا يمكن الحديث عن مؤسّسة دينية فاعلة ورائدة، وإن حضرت رمزية الزيتونة متوارية في الظل؛ بل هناك دكاكين تروّج لبضائع دينية أغلبها فاقد الصلوحية. والمشكلة عائدة في عمقها إلى أن البنية السياسية خلال العقود السابقة حالت دون ظهور الفكر الديني العلمي، ومن ثمة المفكر الديني الرشيد والعالم الديني النبيه. وبالتالي، عزّ في حاضرنا تواجد صفوة تستبطن ثقافة دينية رائدة في مستوى اللحظة التاريخية التي نعيشها، فقد ضرب الانحطاطُ الفكرَ الإيماني والفكر العلماني على حدّ سواء.
عطفا على ذلك، حين يطّلع المرء على العمل القيّم الذي أنجزه الدكتور علي الزيدي المعنون بـ: "الزيتونيون: دورهم في الحركة الوطنية التونسية 1904/1945" والمنشور في تونس، يدرك الثقل الحضاري لتلك المؤسسة في تاريخ تونس الحديث، بيد أن ذلك الحضور البارز، بعد نصف قرن، أوشك أن يتلاشى. لذلك ليس الزواتنة [الزيتونيون] فحسب من هم مدعوون إلى قراءة تاريخ ذلك المعقل، بل كل الذين يؤمنون أن الزيتونة خميرة تلك الأرض وملحها، أو من لا يؤمنون أيضا.
منذ فترة أحاول أن أرصد الحضور الفكري والديني والإعلامي للزيتونة في خضمّ الحراك السياسي الذي هزّ بلدنا عقب الثورة، غير أني لا أكاد أجد له أثرا، ما عدا بعض المداخلات المتناثرة هنا وهناك، تلوك لغة مغتربة وتكرر مقولات لا تشفي غليل الناس. فإن كانت "العلوم الدينية" التي تُستهلك في المعاهد الجامعية العليا غير قادرة على إدراك منطق الثورة، ومواكبة حسّ الناس، ورصد مسار العالم، فهو الدليل على اغترابها عن شعبها وزيغها عن سبل ربها. لذلك أراني كلما تصفّحت مجلة "المشكاة" [الصادرة عن جامعة الزيتونة] أتساءل أوتمثِّل نبراسا لتنوير العقل الأكاديمي؟ وبالمثل رديفتها مجلة "الهداية" [الصادرة عن المجلس الإسلامي الأعلى]، أتساءل أيضا أوتهدي الناس في زمن ما بعد الحداثة؟
فبتقديري أن الزيتونة، ممثّلةً في جامعتها الحزينة وجامعها الواجم، قد باتت أمام خيار حاسم وصعب، إمّا أن تتجدّد أو تتبدّد. فسابقا كان التواري خلف معاذير جمة: البورقيبية خصيمة الدين، حزب فرنسا الغالب، الطغيان... وهلم جرّا، وأما اليوم فيجد العقل الزيتوني ذاته في العراء التام في مواجهة مصيره وقدره.
لقد باتت ثقافة الاستحمار الديني، بتعبير المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي، هي الرائجة، مع يقيني أن الإسلام الحنيف ليس أساطير سابقين أو لاحقين، وليس خرف أهبل، كما يهوى ضعاف النفوس أو الذين في قلوبهم مرض. فالثقافة الدينية في تونس، مدعاة لغمّ كبير، لما فيها من انحسار للحس العقلي وهوس بالخوارق والكرامات. والحقيقة أن تونس إن كانت تتطلع فعلا إلى نهضة حضارية، فلن يكون ذلك ببخس العقل حقه والتعويل على نقيضه، لأنه ما لم يبنِ العقلُ البيتَ، باطلا يتعب البنّاؤون.
---------
* أستاذ تونسي بجامعة لاسابيينسا في روما.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
استهلال:-
ليست المواطنة أن تكون مواطناً تربطك بدولة ما علاقة واقعية وقانونينة فحسب إنما هي أن تكون مواطناً فاعلاً في ظل دولة تحكمها سيادة القانون عندئدِ تضحى المواطنة ركيزة أساسية من ركائز الحكم الرشيد.
مفاهيم حول المواطنة والحقوق والحريات:-
إن مبدأ المواطنة - وفقاً للمرجعيات الأدبية والسياسية - هو علاقة تبدأ بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق وواجبات في تلك الدولة ويندرج ضمن هذا المفهوم، الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات، فالمواطنة تسبغ أو تضفي على المواطن حقوقاً سياسية وأخرى قانونية واجتماعية واقتصادية وثقافية.
ومع أنه يصعب تحديد تعريف مانع جامع ثابت لمبدأ المواطنة باعتباره مصطلحاً سياسياً حياً ومتحركاً في سيرورة تاريخية مستمرة إلا أنه يمكن أعطاء تعريف عام لمبدأ المواطنة ينحصر في: المشاركة الواعية والفاعلة لكل شخص دون استثناء ودون وصاية من أي نوع في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة(1).
إذن فالمواطنة هي أساس العلاقة بين الأفراد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق.
و يمكن تعريف الحريات والحقوق الاساسية بأنها تلك التي وردت في اعلان حقوق الانسان والمواطن الصادر عام 1789 وتنص عليها اغلب الدساتير ومنها الدستور الإتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة.
وهذه الحقوق والحريات هي اساس الدولة المدنية ويمكن التمييز بينها في شكلين من الحقوق الحقوق الملازمة للشخصية الانسانية وقد عددها اعلان حقوق الانسان والمواطن كحق المساواة وحق التملك والحق في مقاومة الاضطهاد وحق الامان الذي يبرر حظر أي انواع التعسف كالاعتقال التعسفي او التهجير مثلا وضمان المحاكمة العلنية و العادلة.
وهناك حقوق تعتبر من مظاهر الحقوق السابقة كمبدأ الحق في المساواة ومبدأ حق التصويت ومبدأ حق الانتخاب والمساواة بين الجنسين وومبدأحق المساواة في فرص التحصيل الثقافي ’والحقوق الاجتماعية كحق العمل وحق الرعاية الصحية والتعليم المجاني.
كما يمكن التمييز تاريخيا بين انواع مختلفة من الحقوق وهي بمجملها اعترفت بها الدول المدنية ومن اولى هذه الحقوق التي اعترفت بها الدول نتيجة النضالات كحرية التعبير والاجتماع وحرية تشكيل او انخراط في الجمعيات ذات الطابع السياسي ورغم اعتراف اعلان حقوق الانسان والمواطن مبكرا بهذه الحقوق لكنها بقيت رهن الادراج لفترة طويله وبالاخص تلك التي تتعلق بالامن الشخصي للافراد كالحماية من التوقيف والاعتقال القسري الذي يمارس على مدى واسع في أكثر الدول وبالاخص تلك التي تغيب فيها الدوله بصفتها القيم والناظم الحياد بين مؤسساتها أو مايسمى بالنظم الاستبدادية(2).
تطبيق لمبدأ المواطنة في دولة الإمارات العربية المتحدة:-
في الدراسة التي اعدها احمد بن شبيب الظاهري النائب الاول لرئيس المجلس الوطني الإتحادي أظهرت أن عدد سكان دولة الإمارات العربية المتحدة في نهاية العام 2006 بلغ 5 ملايين و631 الف و135 نسمة يبلغ عدد المواطنيين منهم 866 الف و779 مواطناً وبنسبة 15.4% فيما تبلغ نسبة غير المواطنيين 84.6%.
وأكدت الدراسة أن العمالة الوافدة من شبه القارة الهندية ودول جنوب شرق آسيا تمثل نحو 75% من إجمالي العمالة بالدولة يساهم الهنود وحدهم بنسبة تبلغ نحو 5. 42% منها ونسبة العرب من غير مواطني الدولة 8. 13% والدول الأخرى11% ونسبة المواطنين 2. 18%. وأكدت الدراسة أن البيانات المتاحة تشير إلى أن الدول التي نستقبل العمالة الوافدة منها يفوق عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وبذلك فإن دولة الإمارات تعاني - إبتداءً - أزمة في الهوية الوطنية العربية نتيجة لخلل في التركيبة السكانية مماحدا بالقيادة السياسية أن تنتبه أخيراً لهذا الأمر فهاهو القائد العام لشرطة دبي - في مقال له منشور بالشرق الأوسط - لم يزل يكرر أن الدولة تعاني من (خطر حقيقي لا قبل لها بمواجهته) ويقرع ناقوس الخطر وهو يتنبأ بالمستقبل القريب (قد نجد أنفسنا حيال محنة بكل ما تعنية هذه الكلمة من حيرة وضياع فقد تأتي قوانيين عالمية تفرض علينا لاقدر الله الإلتزام بتوطين كل من يوجد على أرضنا بعد مضى عشر سنوات على إقامته وإلا ستكون النتيجة أن يضعنا الخصوم على قائمة الدول العنصرية أو المقاطعة إقتصادياً)(3).
وثمة ملف أخر يؤرق النظام السياسي لدولة الإمارات العربية ويبرز جلياً وتحدى أكبر لمسألة المواطنة وهو ملف البدون ومن يحملون أوراق ثبوتية أو بطاقات شخصية تشبه بطاقة الهوية أو صدرت لهم مراسيم تضمن لهم - بحد أقصى - العيش والتعامل أشباه مواطنون دونما أن يتم منحهم الجنسية الكاملة.
ولا شك أن هؤلاء يعيشون مأساة حقيقية بمعنى الكلمة فغالبيتهم مولدون على أرض الدولة ولهم جذور ضاربة فيها وتم إنصارهم بشكل كبير داخل الهوية الإماراتية وباتوا جزء لا ينفصل عن النسيج الإجتماعي للدولة لكنهم مازالوا تحت رحمة السلطة السياسية التي لم تقنن أوضاعهم وبين الحين والأخرى تقوم بسحب بطاقاتهم وتجعلهم في مرمى الإقصاء الدائم خارج الوطن والمواطنة.
بعد هذا العرض دعونا ننتقل إلى السؤال الأهم وهو كيف يمكن الوقوف على أبعاد فكرة المواطنة بدولة الإمارات العربية المتحدة ؟.
إستقر بنا الأمر أن المواطنة هي أن تصبح مواطن فاعلاً في ظل دولة تحكمها المؤسسات وسيادة القانون ولعل خير دليل على ذلك هي ممارسة الفرد لحقوقه السياسية داخل دولته والتي يستقيها أساساً من حقوقه الدستورية الغير قابلة للإمتهان أو الإتنقاص.
فالمشاركة السياسية بدولة الإمارات العربية المتحدة متعثرة والمؤامرة على خنق و/ أو إجهاض الجنين مستمرة فالمواطن يجهل أبجديات ماله وماعليه يعرف الذي يطعمه من جوع ومن يأمنه من خوف ولا يجرؤ على مناقشة أسس التشريفات بالمناصب الوزارية ولايُفرّق بين القرارات الأدارية والقوانين ولا يخطر بباله معرفة الأساس القانوني للرسوم التي يسددها نظير حصوله على خدماته اليومية ولا يحلّ له طرح أو معرفة أسباب الأنقلاب الحاصل في الشارع العام الذي بدأت تتلاشى منه اللغة العربية ولا يمكنه معرفة أسباب الزيادات المفرطة في أسعار كل شيء ناهيك عن سياسات التجنيس والتغيير الديموغرافي الحاصلة والتي تهدد بقاء وهوية مجتمعات البترول كل ذلك في غياب مطلق لأرقام الميزانيات السنوية وعائدات البترول وإندماج الحسابات الشخصية ضمن الحسابات والنفقات العامة في أداء شاذ لم تعرفه أي من الحكومات المتمدنة أو تلك التي تحترم واجباتها ناهيك عن التغييب المتعمّد و التضييق التعسفي على نشطاء ومستقلي الحراك المدني والمدافعين عن حرية التعبير عن الرأي والمطالبين بالشفافية ووقف إهدار المال العام ولازال الأصرار على نزع الصلاحيات الرقابية والتشريعية عن البرلمانات و/ أو المجالس النيابية في دول البترول هو المبدأ الذي تتفق عليه السلطات الحاكمة ولاتختلف عليه!
وقد جاءت مقدمة الدستور الإتحادي لتقرر إحدى غاياته السامية وهي إضطلاع حكومة الإتحاد على أن تسير بالبلاد نحو " حكم ديمقراطي نيابي متكامل الأركان " وتلك غاية يسجلها التاريخ لآباء الإتحاد العظام بيد أنه وحتى تدرك هذه الغاية لابد أن يتقرر بالتوازي لها حق المواطنون في ممارسة حقوقهم السياسية (الحق في الإنتخاب والحق في الترشيح) دون أى قيد أو شرط يعيق ممارسة هذا الحق.
وبعيداً عن الجدل الدائر حول القيمة القانونية لمقدمات الدساتير وموقعها من التدرج القانوني ومدى كونها قواعد ملزمة من عدمه فإن تحقيق الديمقراطية وترسيخ فكرة الحياة النيابية هو إلتزام تاريخى وسياسي معاً يقع على عاتق الحكومات تجاه شعوبها دونما حاجة إلى نص.
وقد نصت المادة 14 من الدستور الإتحادي على أنه:-
(المساواة والعدالة الإجتماعية وتوفير الأمن والطمأنينة وتكافوء الفرص لجميع المواطنيين من دعامات المجتمع....).
كما نصت المادة 25 من الدستور:-
(جميع الأفراد لدى القانون سواء ولا تمييز بين مواطني الإتحاد بسبب الأصل أو الموطن أو العقيدة الدينية أو المركز الإجتماعي).
وبذلك ضمن الدستور الإتحادي لجميع مواطني الإتحاد الحق في المساواة بينهم فكل المواطنون سواسية أمام القانون وتضمن الدولة لهم الحق في تكافوء الفرص وعدم جواز التمييز بينهم تحت أى ظرف ولأى سبب وتلك مبادىء بلغت من القدسية ما جعل كافة دساتير العالم تتواتر على النص عليها ويرى إتجاه غالب في الفقه أن تلك المبادىء تكاد تكون - لسموها وخطورتها معاً - فوق دستورية.
بيد أن اللجنة الوطنية للإنتخابات وهي بصدد إعداد قوائم الهيئة الإنتخابية المزمع أن تخوض إنتخابات المجلس الوطني الإتحادي في دورته الحالية للعام 2011 لم تراعي هذه المبادىء وأطلقت يدها لتمنح هذا الحق من تشاء وتجرده عمن تشاء دون ضابط أو رابط أو حتى معيار يمكن أن ترتكن عليه في سياستها الإنتقائية والمشوبة بالعنصرية فعمدت إلى إدراج أسماء قد لا تتوافر فيها الصلاحيات البديهية لممارسة هذا الحق وعمدت إلى إقصاء أسماء أخرى جديرة بخوض التجربة وهي في كلتا الحالتين أهدرت مبدأ المساواة وأخلت بتكافوء الفرص بما يطعن المواطنة في مقتل.
ففكرة حق انتخاب أعضاء المجلس الوطني ليست أمرا مستحدثا على شعب الإمارات بل له خلفيته التاريخية. فقد تم اقتراح هذا الحق لشعب الدولة لأول مرة في الدورة الثالثة للإتحاد التساعي في الدوحة مايو 1969 بحيث تكون الانتخابات الوسيلة الوحيدة لتشكيل المجلس الوطني الاتحادي. وبسبب عدم الإجماع بين أعضاء الاتحاد حينها على هذا الحق فقد تركت مسألة تحديد طريقة اختيار اعضاء المجلس لكل إمارة دون قصرها على وسيلة التعيين أو الانتخاب الجزئي كما أوضحت ذلك المادة 69 من الدستور. وتكرر إقتراح حق الانتخاب لشعب الدولة في مشروع الدستور الدائم الذي وضع عام 1976 حيث نص في المادة 64 منه على ان الانتخاب عن طريق الاقتراع العام في الدوائر الانتخابية المختلفة هو الأصل على ان يكون تعيين عدد من الاشخاص لا يقل عن خمسة امثال عدد المقاعد المخصصة للإمارة مسألة مؤقتة. والمرة الثالثة كانت حين أوردت المذكرة المشتركة بين مجلس الوزراء والمجلس الوطني الاتحادي المرفوعة للمجلس الأعلى للإتحاد في 13/2/1979 موضوع المشاركة السياسية والتي تعني الانتخاب الحر المباشر لجميع المواطنين، حيث ذكرت مايلي: “وليس بالخبز وحده يحيا الشعب، فالشعب هو دعامة الوطن وحاميه وهو القاعدة العريضة العاملة على استقراره وتقدمه، ولذلك فإنه يجب بنائه كذلك بناء ديمقراطيا يعتمد على توفير الحريات، وافساح مجالات الرأي والفكر، وتدريبه على المشاركة السياسية في شؤون البلاد، في إطار ديموقراطي سليم، ينبع من مباديء ديننا الحنيف، الذي جعل أمرنا شورى بيننا.”
الغريب أن هذه السياسة الإنتقائية المشربة بالمزاجية المفرطة تخالف نص المادة (5 الفقرة ج) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري الصادرة في العام (1965) والتي صادقت عليها الدولة في 20/6/1974 وصارت جزء من قوانينها وقيمتها تفوق كافة تشريعاتها الوطنية فضلاً عن مخالفة نص المادة 24 من الميثاق العربي لحقوق الأنسان الصادر في العام 2004 ووقعت عليه الدولة:-
المستقر عليه فقهاً وقضاء أن القواعد الدولية - ولاسيما القواعد الإتفاقية - ملزمة للدولة التي صادقت عليها لتصبح جزء لا يتجزء من تشريعاتها بل وتتفوق في قيمتها الإلزامية عن باقي القواعد القانونية الداخلية المطبقة في الدولة وذلك عملاً بنظرية وحدة القانون والتي أسست لمبدأ سمو القاعدة الدولية عن نظيرتها في القانون الداخلي بما يعني أن الدولة إلتزمت بقواعد إتفاقية ما عليها أن تعدل تشريعاتها بما يتسق وأحكام هذه الإتفاقية وبحيث لو صار تعارض بينهما تطبق أحكام الإتفاقية ويهدر ما عداها من نصوص مخالفة.
والثابت أن دولة الإمارات العربية المتحدة وقعت على إتفاقية (القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري الصادرة عن الأمم المتحدة في العام 1965 وصادقت عليها دولة الأمارات وإعتمدتها نافذة بحقها بتاريخ 20/6/1974 وقبلت كافة بنودها بإستثناء بند وحيد تحفظت عليه يجيز لها الإعتراف بدولة إسرائيل.
والثابت أيضاً أن الإتفاقية المنوه عنها نصت في مادتها الخامسة فقرة ج على ما يلي:-
(تتعهد الدول الأطراف بحظر التمييز العنصري والقضاء عليه بكافة أشكاله، وبضمان حق كل إنسان، دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الإثني، في المساواة أمام القانون، لا سيما بصدد التمتع بالحقوق التالية: (ج) الحقوق السياسية، ولا سيما حق الاشتراك في الانتخابات -اقتراعا وترشيحا- علي أساس الاقتراع العام المتساوي، والإسهام في الحكم وفي إدارة الشؤون العامة علي جميع المستويات).
وبمقتضى هذا النص صار إلتزاماً على الدولة إحترام حق كل مواطن لديها في مباشرة الحقوق السياسية إقتراعاً وتشريعاً وعدم جواز تجريد أى مواطن من هذا الحق وإلا تثار المسئولية الدولية تجاه الدولة.
والثابت أيضاً أن هذا التوجه قد خالف هذا التوجه جملة وتفصيلاً وإنتهك أحكام هذه الإتفاقية الدولية الملزمة كما خالف وأهدر نص المادة 24 من الميثاق العربي لحقوق الأنسان والذى تم إقراره في قمة تونس العام 2004 ووقعت عليه دولة الأمارات العربية المتحدة والتي تنص على أنه:
(لكل مواطن الحق في:1 - حرية الممارسة السياسية.2- المشاركة في إدارة الشئون العامة إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارون بحرية... 4- ترشيح نفسه أو اختيار من يمثله بطريقة حرة ونزيهة وعلى قدم المساواة بين جميع المواطنين بحيث تضمن التعبير الحر عن إرادة المواطن.... 7- لا يجوز تقييد ممارسة هذه الحقوق بأي قيود غير القيود المفروضة طبقاً للقانون والتي تقتضيها الضرورة في مجتمع يحترم الحريات وحقوق الإنسان لصيانة الأمن الوطني أو النظام العام أو السلامة العامة أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو لحماية حقوق الغير وحرياتهم).
وهكذا تبدو ملامح فكرة المواطنة في دولة الإمارات العربية المتحدة التي هي أشبه بمنحة أو مكرمة من النظام السياسي لا تشمل كل المواطنيين ومن شملتهم لا يمارسوها كما يجب أن تكون.
---------------------------------
* محام وناشط حقوقي.
(1) مبدا المواطنة واستحقاق الدستور القادم - ياسر بركات - مركز المستقبل.
(2) المواطنة وحقوق الإنسان - جوان يوسف - الحوار المتمدين.
(3) راجع مقال القائد العام لشرطة دبي ضاحي خلفان - الشرق الأوسط بتاريخ11/5/2011.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
المقدمة:
- إن يومى السادس والثالث والعشرون من ديسمبر من عامي 1973م و2000 كانا لهما الأثر المباشر في تشكل نظام الحكم ومؤسساته الدستورية وسوف يظل التصديق والإعلان عن بداية العمل بدستور دولة البحرين هو التحول الجوهري في نقل البحرين ومجتمعة من إمارة تدار وفق نظام المشيخات والأعراف القبيلة إلى دولة لها دستور يحدد نظام الحكم و ينظم السلطات واختصاصاتها ويحكم العلاقة بينهما ويلتزم بمبدأ سيادة الشعب مصدر السلطات جميعاً و يقنن الحقوق و الحريات العامة وضماناتها.
- وسوف يظل هذا التاريخ من عام 2000 م ، يوم أن تسلم عاهل البلاد صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة أمير دولة البحرين وثيقة مشروع ميثاق العمل الوطني من قبل اللجنة الوطنية العليا لإعداد مشروع الميثاق المعينة من قبله ، ويوم أن أُعلن في هذا التاريخ إن مصداقية وإلزامية وثيقة الميثاق لا تكتمل لها صفه الشرعية إلا بدعوة شعب البحرين لاستفتاء شعبى عام على هذه الوثيقة ، وأن ما سوف يقرره شعب البحرين " سنقره مرجعاً لمسيرتنا الوطنية ، نسير على هديه فى عملنا الوطنى".
- إن الوثائق الأساسية لأى شعب هى خلاصة تجاربه ماضياً ، وهى تقنين لمبادئه حاضراً ، وهى تضمين لأهدافه مستقبلاً ، لذا لابد من تأكيد مشروعية المصدر المنبثق من الاختصاص الأصيل والمتفرد للسلطة التأسيسيه الأصلية
- إن من أسس أي مصالحه حقيقية ، هو تواجد طرفان تختلف رواهم و مصالحهم وتتعارض في أغلبها وتتقاطع مع بعضها في أجزاء منها .
- إن الأسس لأي إتفاق هو حرية تحرر إرادتي الطرفان استناداً إلى رضا عام وموافقة أساسيه على مبدأ المصالحة .
- إن من الأسس لأي مصالحه ، هو اشتراط تقنينها ، ضمن وثيقة ، محددة البنود تعتمد المرجعية والسمو على أي وثائق أخرى .
وإستنادً إلى ما ورد في مقدمة هذه الورقة ، يمكننا على ضوئها وضع تصور عام للأسس الفلسفية ، التي سنعتمدها من أجل التوصل إلى تكيف قانوني للمصالحة التاريخية التي أعلن عنها في 16 من فبراير عام 2001م في البحرين بموجب الأمر الأميري رقم( 17) لسنة 2001 بالتصديق على ميثاق العمل الوطني .
الموضوع:
إن أي متابع للشأن العام وتحديداً في جانبه القانوني المتعلق بالقانون العام وما يتفرع عنه من علم القانون الدستوري وبصوره محدده وفق نظره مكثفة ودقيقه للجانب الفلسفي في التحليل والاستنباط ، في تحديد الأصول الفلسفية للوضعية القانونية لفهم نوعيه هذه المصالحة التاريخية ، التى أزعم أن هدفها هو تحقيق الأنسجام بين مختلف الصوالح عن طريق البحث عن الغايات العليا للنظام القانونى في البحرين، وحيث إن هذه الرؤى – تجاوزاً – هي جهد و اجتهاد فردى يوظف فلسفة القانون الدستوري ، لما سوف يتم بحثه في هذه الورقة، وهي المصالحة التاريخية ، حيث يتمحور مضمونها في قبول كل أطرافها بنزع كافة المنهجيات والأساليب في عدم اعتراف الأطراف بشرعية أي منهج في السيطرة وتوجيه البلاد وإدارة مؤسساتها بأي وسيلة ، ومحاولة كل طرف إنهاء وجود الطرف الآخر، وفي أضعف الحالات تأجيل تصفيه الأخر وفق ظروف داخليه أو خارجية ، تمنع أو تعيق الحسم لمصلحة أى طرف.
وعليه، لابد من التأكيد على أن أطراف هذه المصالحة لم يمتلكوا القناعة الواضحة والمباشرة في إي مرحلة أو فترة من الصراع الطويل منذ عام 1924م ذو المعالم المحددة ، وفق المنهج الذي يسعي إلي المشاركة الحقيقية في صنع القرار السياسي والمتمثل في هيئة الاتحاد الوطني عام 1956 م ، ومطالبها الشعبية ،
مروراً بتشكيل المجلس التأسيسي عام 1972 م الذي تمخض عنه وضع دستور دولة البحرين لعام 1973 م . ودون الدخول في السرد التاريخي لهذه المراحل ، فإن أطراف الصراع في البحربن لم يتوصلوا إلى قناعه حقيقية بالإعلان عن صياغة وثيقة مصالحه ، لها سندها الشرعي المستند إلى فهم واضح لقرار السلطة التأسيسيه الأصلية حسب المفهوم القانوني وفق مصطلح القانون الدستوري .
الفصل الأول: البناء القانوني:
- أساس البناء يرتكز حول الإرادة المباشرة في مباشرة الاختصاص الأصيل دون ممثلين أو مندوبين عنها حيث يتمحور حول السلطة العليا ، وهي السلطة التأسيسيه الأصيلة ، التي تضع أو توافق على الوثيقة الأساسية أو الأسمى أو الأعلى ، بمعني أن قوة الوثيقة تنبع من السلطة التي تنشئها وتقررها بطريق مباشر من خلال آلية الاستفتاء.
إن الرجوع إلى الأساس القانوني ودرجة قوته في مبدأ الاستفتاء ينبع من طبيعة السلطة التي مارست اختصاصاتها مباشرة دون ممثلين أو مندوبين ، وهذه السلطة قد عبرت بإرادتها بدون وسيط أو وكيل ، مما يعطى وثيقة الميثاق السمو والعلو على وثيقة الدستور . وبناء عليه نستنبط ما يلي : -
أولا : ميثاق العمل الوطني ، هو وثيقة عقدية بين إراديتين مشتركتين الأولي تمثل إرادة أمير البلاد والثانية إرادة المواطنين ممن بلغوا سن 21 سنة ميلاده من شعب البحرين السياسى من الذكور والإناث .
ثانياً : هي وثيقة مدونة محدده بمقدمة وسبعة فصول وخاتمه ( استشراقات المستقبل) حيث تضمنت العديد من المبادئ و المواد الدستورية . وقد تم الإعلان عنها وهى معلومة لدي الكافة ، الأمير وممثليه والشعب السياسي .
ثالثاً : لقد اعتمدت هذه الوثيقة - الميثاق الوطني - بناء على أشراف وحيادية من قبل جهة قضائية بناء على الأمر الأميري رقم ( 8 ) لسنة 2001م ، وبصورة مباشرة ومراقبة من قبل كافة وسائل الأعلام المكتوب والمرئي والمسموع ومشاهدته للعالم كافة ، وبحضور مندوبين من خارج البحرين على هيئة مراقبين أو متابعين وصحفيين من رجالات الأعلام الخليجي و العربي و والدولي. وبإشادة من قبل الأمم المتحدة و وكآلاتها ومنظمات حقوق الإنسان .
رابعاً : إن الاستفتاء جري على كامل نصوص الوثيقة – ميثاق العمل الوطني – وليس على جزء أو أجزاء منها ، بمعنى أن الموافقة كانت على كافة بنود الميثاق وبهذا أصبح حكم هذه الوثيقة مجملاً بكافة بنودها ، ملزمة لحاكم البحرين وشعبها ، وأى نكوث من أى منهما أو ممثليهم هو نكوث عنها . وحكماً تحتفظ الوثيقة بقوتها وحجيتها القانونية لكلى الطرفين أو ممثليهم .
خامساً : إن وثيقة ميثاق العمل الوطني هي المرجعية الملزمة والحَكمَ فى إعادة صياغة دستور دولة البحرين ، بحسب ما ورد تحديداً في هذه الوثيقة ، وأن على الطرفين الالتزام نصاً وعرفاً في بدء تفعيلها عن طريق إجراء تعديل على دستور دولة البحرين وفق ما ورد فى بنود الميثاق الوطني المتفق عليه كوثيقة حاكمة للمصالحة التاريخية التي أعلن عنها يوم 16 من فبراير عام 2001 م .
حيث أن الدستور يتم صياغته وأعداده من ممثلين عن الشعب ، السلطة العليا، وهي السلطة التأسيسيه الأصلية، حيث تخول هذه السلطة اختصاصاتها إلى مندوبيها أو ممثليها ، لكي يتولوا مسئولية أعداد الدستور ، الوثيقة الأساسية التي تبين نظام الحكم وأنواع السلطات ومبدأ سيادة القانون والحقوق والحريات والضمانات التي تكفلها هذه الوثيقة ، إلى جانب التأكد من خضوع المشرع الدستوري وإلزامه في إعادة صياغة الدستور ، وفق ما ورد في الوثيقة الأسمى من مبادئ وأسس دستوريه وحقوق وضمانات وفق النهج الديمقراطي بأن الشعب مصدر السلطات جميعاً .
تأكيداً للرأى الغالب فى الفقه الدستورى ، نُنوه إلى ضرورة التفريق بين كل من اختصاص السلطة التأسيسيه الأصلية التي تتولى أعداد الدستور وبين اختصاص السلطة التأسيسيه المنشأة – المشتقة – التى تملك حق تعديل بعض مواد الدستور المقترح منها ، باستثناء ما يسمى التحريم الموضوعي لبعض المواد أو الحظر حصراً ، إلا أنها تملك من حيث المبدأ حق التعديل لأغلب المواد وفق آلية محددة ومعقدة ، تتطلب تمثيلاً لا يقل عن ثلثي أعضاؤها ، وهي أعلى مرتبه من السلطة التشريعية التي تتولى تشريع القوانين وهي سلطة رقابية محاسبيه تشريعية بالمفهوم العام للاختصاص الأصيل لها.
وبناء عليه، إن مٌسودة ميثاق العمل الوطني ، المقدمة والمعروضة على اللجنة الوطنية العليا لإعداد مشروع ميثاق العمل الوطني المعينة من أمير البلاد ورئيس السلطة التنفيذية والمشكلة من أغلب أطياف المجتمع البحرينى والعديد من ممثلى المؤسسات الأهلية ، ( وهي اللجنة التي عرض عليها مُسودة الميثاق المقدمة من أمير البلاد، لمناقشتها ووضعها في صيغتها النهائية ) حيث رفعت نصوص الميثاق إلي أمير البلاد متضمنة العديد من الاهتمامات والقراءات التاريخية والإسلامية والقبليه ، إلي جانب وجود توليفات تتداخل وتتعارض في الكثير من بنود الميثاق مع الأسس الفلسفية والفقهيه للقانون الدستوري وفي الفهم المعاصر للديمقراطية بأن الشعب صاحب السيادة مصدر السلطات جميعاً .
إن إعلان أمير البلاد الشيخ حمد بن عيسى أل خليفة فى حفل تسلمه مشروع ميثاق العمل الوطني أمام اللجنة الوطنية العليا لأعداد مشروع ميثاق العمل الوطني فى يوم 23 / 12 / 2000 م ، وتبنيه قرار طرح الميثاق على الشعب البحريني عن طريق استفتاء شعبي عام هو الأول من نوعه في تاريخ البحرين السياسي و الدستورى ، وهو الأداة والأسلوب الأرقى والمباشر للتعبير الأمثل للسلطة التأسيسيه الأصلية في إقرار مشروع الميثاق أو رفضه وفق حكم صناديق الاقتراع ، وبهذه الخطوة دشن عاهل البلاد التزامه بما تمخضت عنها نتائج الاستفتاء بما يشبه الإجماع بنسبة ( 4, 98 % ) فى يوم 16 من فبراير 2001 وهو إعلان توافق الإراديتين المتمثلة في المقترح المقدم في صيغة مشروع الميثاق من قبل اللجنة العليا المعينة من قبله وفق الأمر الأميري رقم ( 36 ) و (43) لسنة 2000 م وبين التزام إرادة الشعب المباشرة ( السلطة التأسيسيه الأصلية) بدون ممثلين عنه .
وبهذا أصبح لدينا وثيقة مصالحة ذات مضمون دستورى معتمدة من قبل حاكم البلاد – الأمير – والسلطة التأسيسة الأصلية – الشعب. وعلى ضوء إعلانها والتصديق عليها في يوم 16 من فبراير 2001 م وفق الأمر الأميري رقم ( 17 ) أصبح فى حكم الالتزام " العقدي " إن وثيقة ميثاق العمل الوطني هي المرجعية والحاكميه لكلى الإراديتين المشتركة فى مباشرة حقوقهم وواجباتهم التي تضمنها الميثاق وينسحب على ممثليهم في تفعيل بنود وثيقة الميثاق .
لقد نص ميثاق العمل الوطني فى فصل إستشراقات المستقبل
"إن هذا الميثاق وقد توافق الجميع على محتواه حكومة وشعباً ، وأخذ فى الاعتبار أنه يمثل وثيقة عمل مستقبلية للبلاد ، وأن تفعيل الأفكار الأساسية الواردة تتطلب بعض التعديلات الدستورية ، فانه يلزم لذلك ما يلي :
أولاً : مسمى دولة البحرين
يقرر التعديل الدستوري التسمية الرسمية لدولة البحرين بناء على الطريقة التى يقرها الأمير وشعبه .
ثانياً السلطة التشريعية
تعدل أحكام الفصل الثاني من الباب الرابع من الدستور الخاصة بالسلطة التشريعية لتلائم التطورات الديمقراطية والدستورية في العالم وذلك باستحداث نظام المجلسين ، بحيث يكون الأول مجلساً منتخباً انتخابا حراً مباشراً يختار المواطنون نوابهم فيه ويتولى المهام التشريعية ، إلى جانب مجلس معين يضم أصحاب الخبرة والاختصاص للاستعانة بآرائهم فيما تتطلبه الشورى من علم وتجربة.
وتصدر القوانين علي النحوالذي يفصله الدستور وفق النظم والأعراف الدستورية المعمول بها في الديمقراطيات العريقة .
إن التوافق الشعبي على هذا الميثاق يعبر عن الرغبة الشعبية فى تحقيق مستقبل مستقر ومزدهر للبلاد بقيادة حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة أمير البلاد المفدى حفظه الله .
جعلنا الله من (( الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )) كما وصفهم في محكم الكتاب ، وعليه سبحانه توكلنا ، هو نعم المولى ونعم النصير ".
وبالرجوع إلي الخطوط العامة التي تمثل الفلسفة العامة والنهج الذي بنيت عليها بنود ميثاق العمل الوطني .
نستشف ما يلي:
أولاً : الاستلهام من التاريخ القديم لحضارة دلمون وأداروس وأوال ومن ثم مملكة البحرين الممتدة من جنوب البصرة وشرق الجزيرة العربية حتى شمال عمان التاريخي
ثانياً : التأكيد على الموروث الإسلامي من خلال استحضار التاريخ العربي فى فترة إذزهار الحضارة الإسلامية والقلب منها الحضارة العربية .
ثالثاً : الالتزام بنهج نظام الشورى " الإسلامي " وفق منظور لأحكام الشريعة الإسلامية السمحاء في تولي إدارة الحكم وفق نص الآيات الكريمة " وأمرهم شورى بينهم " وكذلك نص الآية " وشاورهم في الآمر" .
وبنهج يتغاضى عن نظام الخلافة الإسلامية في الحكم ويلتزم بمشورة أهل الرأي والخبرة من علية القوم وليس من عامة الناس جميعاً وفق النهج الديمقراطي غير الإسلامي .
رابعاً : الاستطراد فى المراحل والمحطات التاريخية منذ وصول آسرة آل خليفة إلي جزر البحرين ودور حكامها في السيطرة على الحكم وإدارة البلاد وشعبها الممثل لخليط عرقي وطائفي من عرب الجزيرة نزحوا لظروف المجاعة والحروب القبلية إلى جانب أعاجم فرس من بقايا الحكم السابق لحكم آل خليفة وهنود إلى جانب أسر حوله نزحت من عربستان الكبير وأسر عربية لجأت إلى جزر البحرين هرباً من الاضطهاد الطائفي منذ قيام الدولة الأموية .
خامسا : الوضع الاقتصادي لجزر البحرين وتجارتها وبخاصة مركزها كسوق رئيسي ومركزي لتجارة اللؤلؤ في الخليج ، ومحاولة لعودة هذا الحلم إلى الواقع المعاكس ضمن حجم وإمكانيات البحرين مواردَ وسكاناً وإغفالاً للثقل الاقتصادي و السكانى ولمساحة الدول المحيطة بالبحرين .
سادسا : التباهي والتضخيم لمفهوم الأمن العام ومؤسساته من قوه الدفاع والحرس الوطني وعدالة شروطه .
سابعاً : التأكد على ورود نصوص المواد الدستورية الواردة في دستور دولة البحرين لعام 1973 م ، والخاصة بالحقوق والحريات الدستورية مع إضافة كلمة ( فرص ) إلي المادة /13 فقرة ب " تكفل الدولة توفير العمل للمواطنين وعدالة شروطه "
ثامناً : النص على أن نظام الحكم وراثي في سلالة عيسى بن على آل خليفة حسب ما ورد في دستور دولة البحرين لعام 1973 م .
تاسعاً : إن يتم إعادة صياغة وتشكيل المجلس الوطني المكون من غرفتين الأولى تتكون من 40 نائباً يتم انتخابهم عن طريق الاقتراع السري المباشر من قبل شعب البحرين والغرفة الثانية من14عضواً يتم تعينهم من قبل الحاكم ، وهم بالتحديد الوزراء بحكم مناصبهم ، وفق ما نظمه دستور دولة البحرين.
و المقترح هو بأن يتشكل المجلس الوطني من مجلسين. الأول مجلس النواب يتم تشكيلة من نواب الشعب ويتم انتخابهم بالاقتراع السرى المباشر من قبل المواطنين. والثانى مجلس شوري ، يتم تعين ممثلين من قبل حاكم البلاد . وهو تزاوج بين النظام الديمقراطي في صيغة مجلس النواب ونظام الشورى الإسلامي في صيغة مجلس الشورى.
عاشراً : كل ما لم ينظمه أو لم يرد في بنود و مواد ميثاق العمل الوطني- وثيقة المصالحة التاريخية – يعتبر ما ورد فى نصوص مواد دستور دولة البحرين لعام 1973م الثابت والمقر والغير قابل للتعديل أو التغير، حكماً قاطعاً لا يقبل أي تأويل أو تفسير . تلك هي الأسس الفلسفية التي أستند إليها الميثاق الوطني في فصوله التسع .
الفصل الثانى: التكيف القانوني لوثيقة ميثاق العمل الوطني:
استنادا إلى الاستفتاء الشعبي العام حول مشروع الميثاق الذى جرى في يومي 14، 15 فبراير عام 2001 م وبناء على دعوة (579 217 ) مواطن ومواطنة ، حيث بلغ من أدلوا برأيهم ( 196 262 ) وقررت الغالبية بنسبة ( 4 98 % ) نعم لمشروع الميثاق كوثيقة وحيدة للإراديتين المشتركتين حاكم البلاد والموطنين. وعلى ضوء هذا التكيف القانوني لوثيقة الميثاق الوطني ، المقترحة من أمير البلاد والموافق على بنودها من قبل شعب البحرين السلطة التأسيسيه الأصلية مباشراً بدون ممثلين أو مندوبين عنهم ، أصبحنا أمام وثيقة مدونة وواضحة وملزمة لكل من الطرفين المتعاقدين على ما ورد فيها من بنود ، تؤكد بوضوح أن تتحول دولة البحرين من إمارة وراثية يحكمها أمير الى مملكة دستوريه وراثيه يرأس سلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ملك البلاد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في ظل نظام وراثي ملكي ينتقل إلي أكبر أبناؤه تباعاً.إلي جانب أن يتشكل المجلس الوطني من مجلسين الأول نيابي يمثل شعب البحرين بتولى المهم التشريعية والثاني شورى يقدم الرأي والمشورة، وعليه أصبح من مسئوليه ملك البحرين رأس السلطات الثلاث ، المبادرة إلى تفعيل ما ورد في بنود وثيقة الميثاق الوطني نصاً باعتبارها – أى الوثيقة – مدونه للمصالحة التاريخية بين الحكم وشعب البحرين ، وثيقة تسمو على كافة الوثائق والعهود ، و مرجعية أعلى ملزمة للجميع ، ووثيقة حاكمة لأي خلاف أو نزاع أو تفسير أو تأويل في كافة مراحل تفعيلها.
وعلى ضوء ذلك ترك حرية الآلية في تفعيل بنود الميثاق الوطني وفق ما يتبع في الممالك الدستورية العريقة .
ووفقاً للمسؤولية التاريخية والمصيرية التي تحملها بحكمه واقتدار وإقدام، قام ملك البحرين بتعين لجنة تعديل الدستور ، وفق ما ورد في نص الأمر الأميري رقم ( 5 ) لسنة 2001 م الذي نص على ما يلي:
المادة الأولي
تشكل لجنة لإعداد مشروع تعديل بعض أحكام الدستور بما يتفق مع التوجهات الدستورية التي تضمها ميثاق العمل الوطني .
المادة الثانية
يكون تشكيل اللجنة علي النحو التالي :
1. الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة
وزير العدل والشؤون الإسلامية رئيساً
2. الشيخ محمد بن خليفة
وزير الداخلية
3. السيد إبراهيم محمد حسن حميدان
رئيس مجلس الشورى
4. السيد الجواد سالم العريض
وزير الدولة
5. الشيخ خالد بن عبد الله آل خليفة
وزير الإسكان والبلديات والبيئة
6. الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة
وزير الدولة لشئون الديوان الأميري
7. السيد محمد إبراهيم المطوع
وزير شئون مجلس الوزراء والأعلام
8. السيد على صالح الصالح
وزير التجارة
9. السيد سلمان عيس سيادى
المدير العام لدائرة الشئون القانونية
إن المسئولية التاريخية التي يتحملها عاهل البلاد في تفعيل و تنفيذ بنود ميثاق العمل الوطني ، و التزام لجنة تعديل الدستور المعينة من قبله ، تستوجب التأكد بمدى التزام أعضاء اللجنة بالأمر الأميري الخاص بمهماتها ، والتأكد من قيامها بمسئوليتها وفق هذا الأمر الأميري المشار إلية أعلاه ، إلي جانب الإفراج عن محاضر اجتماعات اللجنة للإطلاع على المداولات التفصيلية للوصول إلي إبعاد الشبة عن اللجنة من حيث مخالفتها لبنود الميثاق الذي نتج من إعادة صياغة الدستور وفق رؤيتها دون الالتزام الواضح والصريح بالأمر الأميري وهو ما يدفع المهتمين بالشأن العام إلي التشكك في مصداقيتها من حيث:
أولاً : عدم حرصها على الأمانة التاريخية والمسئولية القانونية في إعادة صياغة التعديلات للمواد المحددة نصاً وفق ما ورد فى الميثاق.
ثانياً: الإخفاق فى فهم مدلولات واستحقاقات الاستفتاء الشعبى ، الذى انعكس سلباً على المشروع الإصلاحي الحضاري ، الذي اقترحه عاهل البلاد ، والذي أكد فيه على دعمه إرادة شعب البحرين من خلال قبولها بشبة الإجماع على وثيقة مشروع الميثاق . وهو ما يدفعنا إلي التأنى والحذر من عدم كيل الاتهامات أو إساءة الظنون بأعضاء اللجنة والآلية التي انتهجتها ، والخبراء والمستشارين التي استعانت بهم ، وفق تكليف الأمر الأميري.
وعلى ضوء هذا العرض لابد من التأكيد على أن وثيقة المصالحة التاريخية ، ألا وهى ميثاق العمل الوطني هي المرجعية والحاكمة التي تلزم كافة المؤسسات الدستورية والمشرع الدستورى و مؤسسات المجتمع المدني ، وبتالي يعد الخروج عنها أو مخالفتها أو النكوص عن أحكامها أو محاولة تحويلها إلي مجرد ورقة عرفية للحفظ فى المتاحف لتحقيق مصلحة آنية للمنتفعين من غياب الدولة ذات النظام الدستوري مسئولية سياسية وقانونية .
و حيث أن فلسفة تفعيل الميثاق باعتباره وثيقة حاكمة بين ملك البحرين والشعب البحريني ، تستند على أسس الأطراف الصانعة لها ، وتستمد قوتها وحجيتها القانونية من طبيعة الصلاحيات التي تمتلكها كل سلطة على حده والقوة الملزمة لهذه السلطات كما هو متفق بين طرفي منشئ وثيقة الميثاق ، فأن هذه الوثيقة تستمد قوتها وحجيتها القانونية ، من كونها أنها من قطبيي السلطات العليا في المجتمع البحريني ، وهما ملك البحرين باعتباره رأس الأسرة الحاكمة الطرف الأول المتقدم بوثيقة الميثاق ، والشعب البحريني باعتباره السلطة التأسيسيه الأصلية صاحبة السيادة مصدر السلطات جميعاً ، الطرف الثاني ، الذين وافقا على وثيقة ميثاق العمل الوطني.
وبناء عليه أصبحت هذه الوثيقة ، هي وثيقة ذات مرجعيه لكل من ملك البحرين والشعب البحريني ، بكونها صادرة عن إرادتهما ، هي وثيقة لها قوة قانونية تعلو وتسمو على أي اتفاق قد ينشأ أو يستنبط منها أي قانون أساسي أو قانون عادي ، وحُكماً أصبح على ممثلي تلك الإراديتين القانونيتين الالتزام بما ألزم الموكلان ذاتهما به وأصبح عدم الالتزام بما تضمنته وثيقة الميثاق ، هو نكوث من أحد طرفي منشئ الميثاق وعلى ضوءه ، يتحمل كل طرف بما ألزم به من واجبات ، و ما حَدَدت له الوثيقة من حقوق وصلاحيات تحد أو تضاف إلي السلطات التي يتمتع بها بحسب ما ورد في الميثاق. وعليه أصبح من واجب كل من ملك البلاد و شعب البحرين أو ممثليهما الشرعيين ، تفعيل بنود وثيقة الميثاق وفق هذا الحكم .
الفصل الثالث : فلسفة التفعيل لبنود ميثاق العمل الوطنى:
كون أن الاستحقاق الدستوري هو الذي يحدد جهة الاختصاص وطبيعة المسئولية الدستورية ، من حيث بنوده أو مذكرته التفسيرية ، وفق أسس يستمد قوته القانونية ومرتبة مرجعية، من سمو المرجع وعلوه علي بقية المراجع، فإن المسئولية الدستورية والجوهرية منها ، ترتكز علي التأكد من أن كافة مواد دستور المملكة ، يجب أن تستند في نصوصها ومضمونها علي مرجعيتها الأعلى والاسمى والملزمة لكافة السلطات وفي مقدمتها رأس الدولة ملك البلاد أولاً ، والسلطة التشريعية ممثلة الشعب ثانياً ، ومؤسسات وهيئات المجتمع المدني ثالثاً.
أولاً: الملك: بحكم مسئولياته الواردة في الدستور المملكة ، في المادة ( 33 ) وتحديداً الفقرة ( أ ) منها " الملك رأس الدولة والممثل الأسمى لها ، ذاته مصُونة لا تمس ، وهو الحامي الأمين للدين والوطن ، ورمز الوحدة الوطنية ". والفقرة (ب) " يحمى الملك شرعية الحكم وسيادة الدستور والقانون ويرعى حقوق الأفراد والهيئات وحرياتهم . "
وبناء على ما ورد في الفقرة الأخيرة من ديباجة دستور المملكة حيث نصت على:
"وقد تضمن هذا الدستور الذي أصدرناه التعديلات التي أجريت وفقاً لما جاء في الميثاق وتكامله مع كافة نصوصه غير المعدلة . وأرفقنا به مذكرة تفسيريه يعتبر ما ورد فيها مرجعاً لتفسير أحكامه".
وعلى ضوء الأمر الأميري بإصدار الدستور المعدل ، الذي نص على ما يلي:
" بسم الله الرحمن الرحيم ، نحن حمد بن عيسي آل خليفة أمير دولة البحرين إسناداً إلى ما وورد في ميثاق العمل الوطني الذي أجمع عليه الشعب في الاستفتاء،
وبعد الإطلاع على الدستور، وعلى الأمر الأميري رقم ( 17 ) لسنة 2001 بالتصديق على ميثاق العمل الوطني ، وبناء على عرض رئيس لجنة لتعديل بعض أحكام الدستور المشكلة بالمرسوم ( 5 ) لسنة 2001، وبعد إطلاع مجلس الوزراء، صدقنا على هذا الدستور المعدل وأصدرناه .
أمير دولة البحرين
حمد بن عيسي آل خليفة
صدر في قصر الرفاع
بتاريخ 2 ذو الحجة 1422 هـ
الموافق 14 فبراير 2002 م
وعلى ضوء ما ورد في المذكرة التفسيرية لدستور المملكة في بند: أولاً القوة الملزمة لميثاق العمل الوطني ، حيث ورد في الجزء الأخير من الفقرة الثالثة ما يلى:
" فإن الاتجاه الغالب قد ذهب إلى أن هذه الإعلانات وتلك المواثيق تعتبر ملزمة لواضعي الدستور ، وتأخذ مرتبة أعلي منه لأنها تمثل الاتجاهات الكبرى التي
ارتضاها الشعب وتتضمن المبادئ الدستورية المستقرة في الضمير الإنساني للمجتمع ومن ثم وجب أن يتقيد بها المشرع الدستوري والمشرع العادي على حد سواء ولذلك أطلق عليها البعض ( دستور الدساتير )." وكذلك ورد فى البند ثانياً " هذا الدستور في إطار ما ورد في ميثاق العمل الوطني من مبادئ وأحكام ، باعتباره الوثيقة العليا في دولة البحرين والتي يجب أن يلتزم بها المشرع الدستوري . "
ثانياً : السلطة التشريعية ( مجلس الشورى والنواب ) :
- لقد ورد في ديباجة دستور المملكة في بداية الفقرة الثانية منها "وتنفيذاً للإرادة الشعبية التي اجتمعت على المبادئ التي تضمنها ميثاق عملنا الوطني ، وتحقيقاً لما عهد به إلينا شعبنا العظيم لتعديل الدستور ورغبة في استكمال أسباب الحكم الديمقراطي لوطننا العزيز". وكذلك "واستكمالا للمسيرة قمنا بتعديل الدستورالقائم . وقد أستوعب هذا التعديل جميع القيم الرفيعة والمبادئ الإنسانية العظيمة التي تضمنها الميثاق ، والتي تؤكد أن الشعب البحريني ينطلق في مسيرته المظفرة إلى مستقبل مشرق بإذن الله تعالي مستقبل تتكاتف فيه جهود جميع الجهات والأفراد ، وتتفرغ فيه السلطات في ثوبها الجديد لتحقيق الآمال والطموحات في عهد ظله العفو".
ولقد ورد في الفقرة السادسة من الديباجة ما نصه "ولاشك أن هذه التعديلات الدستورية تعكس إرادة مشتركة بين الملك والشعب ، وتحقق للجميع القيم الرفيعة والمبادئ الإنسانية العظيمة التي تضمنها الميثاق والتي تكفل للشعب النهوض إلى المنزلة العليا التي تؤهله لها قدراته واستعداداته ، وتتفق مع عظمة تاريخه ، وتسمح له بتبوء المكان اللائق به شعوب العالم المتمدين . فيما ورد في ديباجة الدستور ، حيث ورد " وقد وافق شعب البحرين على هذا الميثاق بما يشبه الاجتماع ، ليكون مرجعاً للمسيرة الديمقراطية التي تهدف الدولة إلي استكمالها".
وكذلك ورد ما نصه " ولما كان تفعيل المبادئ التي ورد ذكرها في هذا الميثاق يتطلب إجراء تعديلات على الدستور القائم ليتلاءم مع الأهداف الكبرى التي تضمنها ، والتي تمكن البحرين من مواصلة مسيرتها في إطار تحديث مؤسسات الدولة وسلطاتها الدستورية ، فقد عهد صاحب السمو أمير البلاد المفدى ، بالمرسوم رقم (5) لسنة 2001 ، إلى لجنة فنية استشارية بوضع مشروع التعديلات الدستورية التي نص ميثاق العمل الوطني على ضرورة إجرائها على أن تأخذ هذه اللجنة في اعتبارها الأسس والمبادئ التي وردت في الميثاق، بما يحقق مصلحة الوطن".
وإستادا إلى المادة / (96 ) من دستور المملكة " يحق لمجلس النواب في كل وقت أن يؤلف لجان تحقيق أو يندب عضواً أو أكثر من أعضائه للتحقيق في أي أمر من الأمور
الداخلة فى اختصاصات المجلس المبينة فى هذا الدستور .... و يجب على الوزراء وجميع موظفي الدولة تقديم، الشهادات والوثائق والبينات التي تطلب منهم."
وحيث أن اللجنة المعينة بناء على المرسوم رقم ( 5 ) 2001 ، والخاص بتعديل بعض أحكام الدستور ، هي مشكله من عضوية عدد معين بحكم مناصبهم أعضاء في السلطة التنفيذية ، وبحكم نص الفقرة ( أ ) من المادة (66) من دستور المملكة " كل وزير مسئول لدي مجلس النواب عن أعمال وزارته" فإن المسئولية الدستورية تحمل نواب المجلس باعتبارهم جهة اختصاص أصلية في العمل على التحقق والتأكد بأن كافة نصوص مواد دستور المملكة ، لا تتعارض أو تضيف أو تلغي أي من البنود الواردة في ميثاق العمل الوطني ، إلي جانب التحقق بأن لجنة تعديل بعض أحكام الدستور ، قد التزمت بمرسوم تكليفها والتعديل الذي جرى على دستور دولة البحرين الصادر في عام 1973 م ، قد ألزم حرفياً بما تم تحديده في بنود الميثاق ، وأن اللجنة لم تلغ أو تضيف أي مواد لدستور مملكة البحرين ، لم يحدده أو يتطرق له ميثاق العمل لوطني ، باعتباره المرجعية الأسمى والأعلى الملزمة للمشرع الدستوري ، وأن اللجنة قد تحققت بشكل لا يقبل اللبس أو التأويل من أن جميع مواد دستور مملكة البحرين ، ومذكرة التفسيرية قد التزمت بما ورد في شأن تعديل بعض أحكام دستور دولة البحرين بما نص عليه ميثاق العمل الوطنى.
وعلى ضوء ما سيسفر عنه من التحقق والتأكد من عمل لجنة تعديل بعض أحكام الدستور لدولة البحرين، يتم تشكيل لجنة مشتركة من مجلس الشورى والنواب، لاعادة صياغة المواد الدستورية الوردة في دستور المملكة ، بما يتطابق مع ما ورد وصدر في وثيقة ميثاق العمل الوطني ، مع الاستعانة بخبراء دستورين مستقلين ، إلي جانب الاستئناس بمرئيات المؤسسات الأهلية من المجتمع المدني ، المتجردة من المنهجية والمصلحة الطائفية ، على أن تتولى اللجنة ذات الاختصاص في التحقق بمدى التزام المشرع الدستوري بما ورد في بنود الميثاق ، والعمل على إعداد مقترح بتعديل تلك المواد الدستورية التي خالفت المرجعية الأسمى والأعلى على أن ترفع إلى مقام صاحب السمو ملك البلاد المفدى لإقرارها والتصديق عليها ، تنفيذاً لنص المادة 35 في الفقرة ( أ ) حيث نصت " للملك حق اقتراح تعديل الدستور واقتراح القوانين ، ويختص بالتصديق على القوانين وإصدارها وكذلك أعمالا للفقرة ( أ ) من المادة / 120 من الباب السادس الخاص بأحكام عامة وأحكام ختامية " يشترط لتعديل أي حكم من أحكام هذا الدستور أن تتم الموافقة على تعديل بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم كل من مجلس الشورى ومجلس النواب ، وأن يصدق الملك على التعديل ، وذلك استثناء من حكم المادة ( 35 بند ب ، جـ ، د ) من هذا الدستور ."
ثالثاً : مؤسسات وهيئات المجتمع المدني الأهلي و منها الاتحادات العمالية والنسائية وتحديداً الجمعيات السياسة والحقوقية الغير طائفية المعبرة عن نبض الشارع وقواه الفاعلة وضميره الحي والمنشغلة بالقضايا العامة ، وفي مقدمتها دستور المملكة ومدى تطابق مواد ونصوص الدستور مع ما قررته الإرادة المشتركة للملك وشعب البحرين في وثيقة ميثاق العمل الوطني ، تقوم هذه المؤسسات والقوي السياسية منها بطرح مرئياتها الغير ملزمة حول مدى التطابق أو الاختلاف أو التجاوز لبنود ومضامين وثيقة الميثاق ، لكل من رأس الدولة ملك البلاد ، ونواب الشعب باعتبارهما سلطة الاختصاص الدستورية الواردة حصراً لتعديل أي حكم من أحكام الدستور ، تقوم بتوعية الشارع وشعب البحرين بأن الميثاق هو الوثيقة الحاكمة بين شعب البحرين ، وملك البلاد ، وأن مستقبل الوطن مرتبط بمدى التزام الإرادة المشتركة لكل من عاهل البلاد والمواطنين والتوافق على أن كافة القوانين الأساسية أو العادية لابد من التزامها بنصوص وروح ميثاق العمل الوطني ، وفق منهجيه لجان متابعة لدى مجلس الشورى والنواب والديوان الملكي تؤمن وتلتزم بالسلطات الثلاث واختصاص كل منها واستقلالهم مع تعاونهم مع البعض ، تيمناً بأن الأيام الأجمل سوف تهل على الوطن والمواطنين وهم ينعمون بدستور عقدي ، يحقق الأحلام والآمال الكبرى لمستقبل زاخر بالتقدم والرفاهية في ظل مملكة ذات نظام دستوري.
الخاتمة:
إن طبيعة الموضوع ودرجة أهمية و خطورة نتائجه الوارد فى هذه الورقة البحثية ، تتطلب الأمانة العلمية و القانونية المجردة من أى مكسب آنى قد يضر بالنتائج المستقبلية المرتقبة ، إلى جانب التأكيد على الفصل فيما بين الفهم السياسى لمجريات الأمور و الرؤى والمصالح التى تتشكل ضمن هذه المعطيات ، و الالتزام بأن تاريخ الشعوب ومبادئها وقيمها له الأولوية على أى مكسب أو مصلحه لرأى أو لفئة أو مجموعه.
وعليه، نؤكد إن هذا الاجتهاد القانونى ، يضع المبدأ و الأسس لمقاييس الفهم القانونى ، وتحديداً الدستورى منها ، قبل و فوق الرؤى و الرأى السياسى والقناعات الشخصية ، مع الالتزام المتجرد في تبني جوهر أى فلسفه قانونيه . المتأطرة فى البحث عن الحقيقة المجردة و تقنينها ، إظهاراً وصوناً ، للمثل والقيم والمبادئ الإنسانية الرفيعة.
واستناداً إلى قرار الشعب البحرينى بتبنى وثيقة ميثاق العمل الوطنى كمرجعية الأسمى ، الحاكمة والضامنة الوحيدة للحقوق و الحريات الدستورية ، ولنظمه الديموقراطية ومؤسساته الدستورية ، وبأن الوثائق الأساسية ملك للشعب وحده ، وهو المخول الوحيد و المتفرد فى حق إلغائها أو تعديلها إضافتاً وحذفاً ، وفق مبدأ السيادة الدستورية .
وتأسيساً على مجمل ما ورد فى البنود أعلاه:
السلطة الشرعية المكلفة بالعمل على تفعيل الوثيقة الحاكمة:
إن مبدأ الشرعية وقوته الإلزامية ، يستمد من المصدر الأول والأصلي للمشروعية في الدولة من حيث الاتفاق على أن الملك وشعب البحرين هما السلطة التشريعية العليا المتمثلة في السلطة التأسيسية الأصلية وفق الدستورالتي لا تعلو عليها أي سلطة أخري ووثيقة ميثاق العمل الوطني تستمد قوتها من شرعية السلطة التي اقترحتها ووافقت عليها
ملك مملكة البحرين ، بحكم مسئولية الدستورية وكونه رأس الدولة ، مطالب بأن يكلف السلطة التنفيذية بمراجعة كل ما أصدره أو صدق عليه من قوانين ومراسيم بقوانين للتأكد بأنها صدرت وفق ما ورد في بنود وثيقة الميثاق ، وبما لا يتعارض معها على أن تتحمل السلطة التنفيذية المسئولية لأى تقصير أو إخلال منها ، أو ممثليه المكلفين ، أو الذين تم تكليفه بأعداد القانون الأساسي " دستور المملكة " أو القوانين الصادرة بمرسوم ، حيث يتحمل المسئولية السياسية كل من تجاهل عن قصد أو غير قصد أو خالف بند من بنود الميثاق خلال فترة تكليفه، إعمالاً لنص المادة / 33 الفقرة ( ب،ج ) و المادة / 46 الدستور .
أعضاء مجلس النواب ، بحكم مسئوليتهم الدستورية وبحكم كونهم ممثلي الشعب البحريني ، مطالبون ، بتشكيل لجان متخصصة تعمل على التحقق ، بأن كافة حقوق وكيلهم لم تمس ولم يتم تجاوزها أو الانتقاص من مكاسبه الدستورية . ، إلى جانب التأكد من التزام شعب البحرين بتنفيذ ما التزم بتحمله من مسئوليات كما ورد في بنود الميثاق .
لذا فأننا نرى بأن المسئولية القانونية والتاريخية تلزمنا بطرح اقتراح بدعوة أعضاء المجلس الوطنى باعتبارهم السلطة صاحبة الاختصاص الأصيل فى تعديل أحكام الدستور إلى تبنى مقترحنا و المتمثل فى أن يتم
طرح دستور مملكة البحرين المعدل من قبل السلطة التشريعية باعتبارها السلطة التأسيسيه المنشأة ، صاحبة الاختصاص الأصيل مع الملك ، فى استفتاء عام لاقراره ولإصباغ عليه صفة الدستور العقدي بين الإرادة المباشرة المشتركة لكل من ملك والشعب أعمالاً لنص المادة ( 43) " للملك أن يستفتي الشعب في القوانين و القضايا الهامة التي تتصل بمصالح البلاد ، ويعتبر موضوع الاستفتاء موافقاً عليه إذا أقرته أغلبية من أدلوا بأصواتهم ، وتكون نتيجة ملزمة ونافذة من تاريخ إعلانها ، وتنشر في الجريدة الرسمية "
المصادر:
- ميثاق العمل الوطني
- مجلة الوثيقة عدد 39 لسنة 2001 م ( عدد خاص عن الميثاق )
- دستور مملكة البحرين
- المذكرة التفسيرية للدستور
- أوراق بحثيه للمستشار / حسن بوحجى
- ورقة بحثية حول الميثاق الوطني والمضامين الدستورية ( 25 / أكتوبر / 2000 م ) .
- برنامج ضيف وقضية - إذاعة مونت كارلو – 16 / فبراير / 2001 م قبل إعلان نتيجة
الاستفتاء .
- مرجعية الفلسفة الدستورية فى مضامين الوثائق الأساسية ( دستور دولة البحرين – ميثاق
العمل الوطنى – دستور مملكة البحرين ) - مارس / 2002
- توصية للجمعية العمومية لجمعية العمل الوطنى ( 24 / ا / 2003 م ).
- الوثيقة التأسيسية لكتلة النواب المستقلين ( 27 / مايو / 2003م ).
-------------------
ورقة بحثيه للمستشار/ حسن محمد بُوحجي، كتبت بتاريخ: 28 نوفمبر 2004.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
لقد تبنى الدستور المغربي مبادئ الحكامة الجيدة، وخصائص الديمقراطية التشاركية، فبالإضافة إلى المبادرة التشريعية للمواطنين، فقد تم التنصيص على مشاركة المواطنين في تدبير الشأن العام،واتخاذ القرار، إن على المستوى الوطني أو المحلي، من خلال الإمكانية المتاحة للجمعيات والمنظمات غير الحكومية، للمساهمة في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية (الفصل 12)، وإحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها (الفصل 13)، وتقديم عرائض إلى السلطات العمومية (الفصل 15)، وإلى مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله (الفصل 139)، وهذه تدابير جديدة لتلميع المشروعية وتطويق احتجاجات الشارع بالمشاركة في التدبير عبر إبداع المقترحات، واغناء أفكار الانجاز، في سبيل بناء دولة ديمقراطية ذات مؤسسات حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة (تصدير الدستور)،لكن كل هاته المقتضيات في حاجة إلى التنزيل عبر تشريعات مكملة (قوانين تنظيمية وقوانين) وهي عبر فصول دستورية عديدة كان من المحبد تاطيرها في قانون واحد، يحمل اسم العرائض حتى يكون التصور شموليا والبناء مركبا، كما أنه لابد من التحذير من ضعف ثقافة وعدم خبرة الناخبين، أو تسخير هذه التقنية لدواعي ديماغوجية أو شعبوية، ولكن ألا يمكن الرهان على وعي الشعوب وعدم التحجير عليها.
مرفق الورقة البحثية كاملة بصيغة PDF
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
لماذا هذه المقالة؟
تحاول هذه المقالة تتبُّع مشهدٍ من السِّجالات العميقة والمؤثِّرة التي تعرفها السّاحة الثّقافيّة الإيرانيّة منذ شهور، وأقصد تلك التي تتّصل بالثّورات التي يعرفها وطننا العربيّ. ورأيت أنّه من المهمّ أن نقدِّم تلك السّجالات إلى القارئ؛ لأنّ الهوّة التّواصليّة بين المثقّفين العرب والإيرانيّين، صارت كبيرة لن يردمها سوى إنصات كلّ طرف لخطاب الآخر.
وسأقف في عملي على بعض من المراجعات الذّاتيّة التي عبّر عنها مثقَّفُون إيرانيّون بخصوص النّظرة النمطيّة السّائدة في المشهد الإيرانيّ عمومًا عن الإنسان العربيّ. ذلك أنّ ثوراتنا فرضت على الإيرانيين الشكّ في تلك النّظرة وإعادة تقييمها، ودفعت بعض الأقلام إلى الذّهاب شوطًا بعيدًا، ووضع الذّات الإيرانيّة تحت محكِّ النّقد والمراجعة.
أمّا النّصوص المعتَمدة في هذه المقالة، فقد حصلْت عليها من حواراتٍ ومقالاتٍ لكتّابٍ وأكاديميّين إيرانيّين، نُشرت في مواقعَ إلكترونيّة مختلفة. فمن المهمّ أن يكون المثقَّف العربيّ على درايةٍ بصورة العرب لدى الإيرانيّين، بل من الضروريّ تعرُّفُه -أيضًا- على المنطلقات الأساسيّة التي يتحرَّك من خلالها الإيرانيّون، سواء كانوا من السّياسيّين على اختلاف تيّاراتهم، أومن الباحثين وعموم المثقَّفين والكتّاب.
وتؤكّد خلاصة المقالة على ضرورة اهتمام العرب بهذه المراجعات الإيرانيّة؛ إذ ينبغي للمثقّفين والمؤسّسات العلميّة والفكريّة العربيّة أن تنصت لها، وتتفاعل معها إيجابيًّا. فهي بحقٍّ مواقف شجاعة؛ تؤشِّر على تبلوُر خطابٍ ثقافيّ إيرانيّ جديد، قد يُسهم في بناء علاقاتٍ عربيّة إيرانيّة، مؤَسَّسة على الفهم الصّحيح والمعرفة الدّقيقة، البعيدة عن البؤس الأيديولوجيّ، وأخطاء التّاريخ وزواياه المظلمة.
مقدّمة
لم يحجب الاستبداد الشّعوب العربيّة عن الكرامة والحرية فقط، بل حجبها أيضا عن العالم المحيط بها. تلك حقيقةٌ أدركناها جميعًا مع أوّل الهَبَّات الشعبيّة في تونس ومصر؛ إذ رأينا أناسًا غير الذين كنّا نعرفهم أو نسمع عنهم. وكذلك نظر العالم بأسره إلى العرب جميعهم؛ إذ رأى في وجوههم شعوبًا تستيقظ من سباتٍ طويل، فَعَل فيه المُستبِدُّ ما فَعل.
والمثقَّفون الإيرانيُّون، هم جزءٌ ممّن فاجأتهم يقظتنا العربيّة. فبصرف النّظر عمّا تراكَم لديهم من أدبيّاتٍ نقديّة في نظريّة الثورة خلال العقود الثّلاثة الماضية، وبعيدًا عن المواقف الرّسميّة للحكومة الإيرانيّة؛ رأى الكثيرون منهم في ثورات الشّعوب العربيّة آفاقًا جديدة. وهنا تكمن أهميّةُ مقارناتِهم بين "ثورتهم" التي وقعت قبل أكثر من ثلاثين سنة، وثوراتنا العربيّة.
دعونا نتوقّفْ هنا عند مجالين اثنين يتحرّك فيهما الإيرانيّون ما بين مُعجَبٍ ومُراجع، ولْنَتأمّل في بعض ما يفكِّرون فيه، من خلال الوقوف على "نصوصٍ" نشروها أخيرًا، لنحّلل -من ثمّة- ما فيها من آراء وأفكار، ونستخلص بعض الاستنتاجات المهمّة للغاية، بما أنّها تسهم في تغيير طرق التّعامل مع هذا الجار القديم، الذي يجمعنا معه تاريخ طويلٌ جدًّا، تخلّلته أخطاء وممارسات فيها شدٌّ وجذب.
إعجاب...
شعر المثقَّف الإيرانيّ بأنّ الثّورات العربيّة هي تعبيرٌ جميل عن نهضة شعوب أخذت المبادرة، وقرَّرت ألاّ تعود إلى الوراء، لم تعد شعوبًا مستكينةً للسُّلطان، ولا عاد الموتُ يُرهِبُها...
تشرح الكاتبة الإيرانيّة المعارضة جميلة كديفر هذا "الموقف" من خلال إعجابها بالمشهد المصريّ، قائلةً: "لم تعد مصر متميِّزة بسياسيّيها وقرّاء القرآن، وكتّابها، ومغنّيها، وصحافيِّيها؛ بل أصبحت أيضا متميِّزة بشعبها الذي صار نموذجًا للاقتداء. إنّه الشَّعب الذي لم يتَّخذ الخوفَ من قساوة القمع مبرِّرًا للجلوس في بيته والرّجوع إلى الوراء، إنّه الشّعب الذي اختار طريقه. إنّه يعرف ما يريد ومستعدّ لدفع ثمن اختياره"[1]. يبدو واضحًا أنّ هذه السّطور تخفي وراءها عتابًا للشّعب الإيرانيّ الذي لم يصمد طويلا أمام عنف النّظام سنة 2009، عندما خرج بمئات الآلاف للاحتجاج والتّظاهر.
لم يكن الإعجاب الإيرانيّ بالصُّمود والشّجاعة العربيّين، نابعًا فقط من النّموذج الذي يقدِّمه الشّباب العربيّ ميدانيًّا لباقي الشُّعوب المتطلِّعة للتّحرُّر من الاستبداد؛ بل يستند أيضًا إلى خلفيّة الوجدان الإيرانيّ الذي يُمجِّد البطولة والفِداء، وإلى ذلك العمق الحضاريّ الذي يجمع بين الشّعبيْن الإيرانيّ والعربيّ، ويتعالى فوق كلّ العُقد والجروح التاريخيّة المؤلمة. وقد عبَّر الباحث في علم الاجتماع حسن محدثي عن هذه المعاني بأسلوبٍ آخر، لمّا تناول في مقالة له أبعاد الثّورات العربيّة؛ متأسِّفًا في نهايته على عجزه عن الحضور مع الشّعوب الثَّائرة وسط الشّوارع العربيّة، حتّى يشاركها حلمها وحماسها وفرحها وحزنها. ويضيف محدثي: "لم أتَمَنَّ قطُّ زيارة باريس أو لندن أو نيويورك؛ لكنّني أحمل في قلبي أمنية غالية، هي التّجوُّل في شوارع القاهرة وإسطنبول ودمشق وطرابلس وتونس وكابل وبغداد"[2]. الأتراك والأفغان ليسوا عربا، ومع ذلك فأشواق محدثي جعلته يستدعي ماضيًا حضاريًّا مشتركًا ومنفتِحًا، لم تكن فيه حدود ولا جوازات سفر.
ويختم هذا الباحث مقالته بإشارةٍ إلى مشكلةٍ تعترض معظم المثقّفين والكتّاب الإيرانيّين، لمّا يتناولون الشّأن العربيّ بالملاحظة والدّرس والتّحليل؛ وهي عدم إلمامهم الدّقيق بجزئيّات هذا الشّأن، واكتفاؤهم بالمراقبة من بعيد، يقول محدثي في هذا السّياق: "نُلاحظ الواقع العربيّ دون أن تكون لدينا معطياتٌ دقيقةٌ عنه، لنملأ في النّهاية الفراغات التي تبقى، بما نملكه من حدس وشوق وأمل..".
وقد شكّلت هذه الفراغات التي يشير إليها الكاتب باستمرار، عقباتٍ أمام التّقارب والتّعارف بين المثقّفين الإيرانيّين والعرب؛ لاسيّما حين يملؤها بعضهم بما يوفِّره المخزون التاريخيّ من متفجّرات وألغام، أو تملؤها ترسانة الأيديولوجيا بما تملكه من عوائقَ وحدود.
فهل ستفتح الثّورات العربيّة الباب واسعًا أمام حوارٍ ثقافيّ عربيّ إيرانيّ، يبدأ بنقد الذّات وينتهي بملْء الفراغات؟
مراجعات..
دفعت الثّورات العربيّة المثقّف الإيرانيّ إلى تعميق قناعته بضرورة تصحيح مواقفه، والانفتاح على الجار العربيّ. وهو بابٌ طرقه مثقّفون قبل هذا الموعد بعقود، كان أهمّهم الدّكتور علي شريعتي (1933-1977) الذي دعا الإيرانيّين إلى التّحرّر من "الإسلام الصفويّ" المُفَرِّق والمُنتَقِم، والعودة إلى "الإسلام النّبويّ" الجامع والرّحيم؛ والباحث ناصر بوربيرار (وُلد سنة 1944) الذي دعا العقل الإيرانيّ إلى الاستيقاظ من "وهم الحضارة الفارسية المُهَيْمِنة"، الذي رسّخه المستشرقون الإنكليزيّون والفرنسيّون في أعماقه، انطلاقًا من أسطورةٍ كاذبةٍ اسمها "الإمبراطور العظيم كورش".
استطاع الرّجلان، شريعتي وبوربيرار، أن يضعا إصبعيهما على داء العقل الإيرانيّ المعاصر. فاقتحما العقبة التي يتهيَّبُها علماء وباحثون إيرانيّون كثيرون؛ وذلك بدعوتهما إلى تجاوز معطيات مذهبيّة وتاريخيّة طارئة، صارت في ما بعد مسلّماتٍ وثوابتَ، لايزال المجتمع الإيرانيّ يدفع ثمنًا باهظًا من جرّاء بقائها واستمرارها.
هدمت الثّورة الإسلاميّة 1979 الاستبداد الملكيّ الذي عمّر بلاد فارس لقرونٍ طويلة؛ لكنّها لم تستطع أن تقترب من عمق الاستبداد الثقافيّ المهيمِن على الذِّهنيّة الإيرانيّة، وظلّ مثقَّفو الثّورة وكتّابها يحومون حول تلك القيود التي تحوَّلت -بعد عقود- إلى مُوَجِّهاتٍ لمواقف إيران وسياستها تجاه جيرانها.
فعلى الرّغم من كلِّ شعارات الثّورة وأدبيّاتِها الإسلاميّة والعالميّة الجامعة، لم تستطع الممارسة الإيرانيّة أن تخرج من ضيق المذهبيّة والعرقيّة؛ تلك "الخلطة الصفوية" التي كادت أن تكون جزءًا من الشخصيّة الإيرانيّة، فتُطْبِق تمامًا على أنفاس التّنوّع والانفتاح اللَّذيْن طبعا هويّة بلاد فارس قرونًا طويلة.
وبإمكان من يراقب الخطاب الثّقافيّ والسّياسيّ الإيرانيّ، أن يتفطّن إلى ما فيه من عدم الوضوح في الرّؤية والفهم؛ وهو الأمر الذي يجهله الكثيرون من مثقّفينا، ويتجاهله البعض حتّى لا تتزعزع قوّة الجمهوريّة الإسلاميّة أمام أعدائها. غير أنّ تغيّر المعطيات يومًا بعد يوم؛ صار يفرض علينا أن نُواجه بِحيرةٍ وتردُّدٍ شديدين هذه المشكلة، ويجعلنا نقتنع -أكثر فأكثر- بأنّنا نعاني من سوء فهمٍ مزمنٍ للشّأن الإيرانيّ.
وعلى الرّغم من إيجابيّات المبادرة الإيرانيّة سنة 1997، التي انطلقت بطرح الرّئيس الأسبق محمد خاتمي فكرة "حوار الحضارات" في الأمم المتّحدة، واقتراح أن تكون 2001 سنةً للحوار بين الحضارات العالميّة؛ فإنّ المراقبين والمهتمِّين بالشّأن الإيرانيّ، توقّعوا فشل هذه المبادرة، لأسبابٍ عدّة كان أهمُّها، إهمالها للتّقارب الإيرانيّ الداخليّ بين مكوِّنات الهُويّة الإيرانيّة، وللحوار الإيرانيّ مع الشّريك والجار العربيّ بغية الالتقاء معه على محاور جامعة. وليس ذلك فحسب؛ بل أَهمَلت مبادرة "حوار الحضارات" الفاعلَ العربيَّ في الحضارة الإنسانيّة.
لم يستطعْ قادةُ الثَّورة الإيرانيّة -بعدُ- التحرُّرَ من الإرث الثقافيّ الشاهنشاهي الفارسيّ؛ وهو ما يظهر جليًّا في السّياسة الثّقافيّة والعلميّة التي تهدِّد كلّ من يشكِّك في مسلَّمات "الحضارة الفارسيّة العظيمة" من جهةٍ، وفي تصريحاتٍ ومواقفَ سياسيّةٍ مصرَّح بها بين الفينة والأخرى من جهةٍ ثانية. وهذا ما جعل الشّعوب العربيَّة ونُخَبَها، تعيد النّظر في تصوُّراتِها تجاه الثّورة الإسلاميّة، خاصّةً بعد ما حدث في العراق، وما يحدث الآن في سوريا.
إنّ نجاح الشّعوب العربيّة في التخلّص من بعض مستبدّيها؛ قد طوّر الوعي العربيّ إلى حدٍّ، صرنا فيه لا نميِّز بين العداء للصّهيونيّة والعداء للاستبداد الداخليّ كيفما كان نوعه، وأصبح الدّفاع عن حقوق الشّعوب المظلومة من صميم الدِّفاع عن حقوق الشّعب الفلسطينيّ. وصارت الحرّية والكرامة والعدالة كُلًّا منسجمًا، لا يقبل التّقسيم أو التّمييز. إنّ هذا الوعي المرتقي؛ هو الذي دفع بعالِم الاجتماع الإيرانيّ محمد برقعي إلى التوقّف عند سؤال: لماذا فشلنا في ثورتنا الخضراء سنة 2009، ونجح العرب في ثوراتهم[3]؟
بعد تأمُّلٍ طويل؛ وجد برقعي الجواب عن هذا السّؤال كامنًا في القيود الذّاتيّة التي دخلت على الإيرانيّين من أبواب التّاريخ والثّقافة والمذهب، فَكَبَّلت روح الشَّعب، وَعَزَلَتْه عن محيطه.
ويعتقد برقعي أنّ سبب فشل الثّورة الإيرانيّة، هو عُزلة إيران داخل العالم الإسلاميّ. وقد أرجع تلك العزلة إلى عدّة عواملَ منها: "التشيُّع الصّفويّ"، الذي أدخل إيران في حروبٍ مع مواطنيها وجيرانها. ويوضِّح ذلك بالقول: "قبل العصر الصفويّ، كان الشِّيعة -مثل باقي المذاهب السنّية- يعيشون في سلامٍ مع أهل السنّة، ولم تستوجب الاختلافات الموجودة بين المذاهب نشوءَ عداوةٍ عميقة بينهم. لذلك يتساءل البعض: هل "سعدي" و"حافظ" كانا سنِّيَّيْن أم شيعيَّيْن؟ وقد كان الكثير من العلماء أمثال الخواجة نصير الدين الطوسي والعلّامة "الحلي" من الشّيعة، لكنّهم عملوا مع الملوك من أهل السنّة. ولكي يحقِّق الصَّفويّون أهدافهم ومصالحهم السياسيّة؛ اتّخذوا المذهب الشّيعي أيديولوجيّة رسميّة لدولتهم. وعلى هذا الأساس أطلقوا حملةً إعلاميّةً واسعة ضدّ السّنّة، واستخدموا فيها مؤلّفاتٍ لعلماء شيعة كانوا في خدمة البلاط الصّفوي أمثال المجلِسي. وبعد ذلك أصبح الهجوم على أهل السُّنَّة وظيفةَ فقهاء الشِّيعة والدّولة على السّواء، واستمرّ هذا الأمر لقرونٍ عدّة، ممّا رسَّخ في ثقافتنا التهجُّم على أهل السُّنّة".
ويرى برقعي أنّ الذي ضاعف من حدّة هذا العداء؛ هو انضمامُ غير المتديِّنين من الإيرانيّين إلى هذه الحملة التي شُنَّت ضدّ أهل السُّنّة، إذ يقول: "إذا كان فقهاؤُنا والمتديِّنون منّا يذكُرون العرب بكونِهم أهل السّنَّة الغاصبين حقّ أهل البيت، فإنّ الحداثيّين والجامعيّين منّا يُعبِّرون عن هذا العداء بدرجاتٍ أكبر، وذلك عندما يدَّعون أنّ عِرقنا الآري هو الأفضل، وهذا بالطّبع من آثار سياسات النّظام الملكيّ البهلويّ. لقد عمل النّظام البهلويّ على جعل القوميّة الفارسيّة القديمة الميزة الأساسيّة والأهمّ لشخصيّتنا بدل الإسلام؛ حيث اشتغلت وسائل الإعلام الحكوميّة حينئذ على التّرويج لأفضليّة العرق الآريّ على العرق العربيّ، حتّى أرجعت جميع مفاخرنا الثقافيّة إلى الشّاعر الفردوسيّ. وهكذا أعطى النّظام الملكيّ لمشاعر كراهية السنّة لون العداء للعرق العربيّ، وقد عَبَّرت بوضوح أعمال الكاتبين صادق هدايت وكسرفي عن هذه الكراهية للعرب".
أمّا المُعطى الذي زكّى هذه الكراهية؛ فهو الواقع السّياسي المستجدّ في إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود مع الثّورة الإسلاميّة. ويشرح محمد برقعي ذلك الوضع قائلًا: "أدّت كراهية الفقهاء وحكومتهم الإسلاميّة، إلى اعتبار الإسلام دينًا عربيًّا وفقهاء الشّيعة عربًا. وبالتّالي أصبحت حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة حكومة عرب متسلِّطة على الإيرانيّين. وفي النّهاية تَصاحَب السُّخط على الحكومة مع السُّخط على العرب".
ويُعمِل برقعي مِشرحه النّقديّ أكثر فأكثر في عمق الذّات الإيرانيّة، عندما يؤكّد على أنّ مشاعر التّعالي والانعزال لم تكن فقط موَجَّهة إلى الجار العربيّ؛ بل وكذلك إلى الأفغان والطاجيك والأوزبك والتّركمان؛ وذلك على الرّغم من أنّ أكثر مفاخر الثّقافة الإيرانيّة تستقرّ في بُخارَى وسمرقند وبلخ وهرات، وكذلك في أفغانستان وطاجاكستان وأوزبكستان. ويستطرد برقعي قائلا: "مازلنا ننظر إلى هذه الشّعوب التي تشاركنا اللّغة والثّقافة من فوق، وكأنّهم يتربّصون برموزنا الحضاريّة لسرقتها منّا".
ويضيف: "وفي المقابل تجد عامّتنا يعرفون الكثير عن أوروبا وأميركا، التي لا يربطنا بها أيّ شيء؛ أكثر ممّا يعرفون عن الهند وباكستان. والسّبب أنّنا نرى أنفسنا في صفِّ الدُّول الغربيّة، لا مع الدّول المتخلّفة مثل باكستان والهند وبنغلاديش".
ثمّ يتحدّث برقعي عن نظرة الإيرانيّين إلى الأتراك، قائلا: "الأتراك بدورهم ضحايا أحكامنا المستعلية والقائمة على الأنانيّة، والتي ترجع جذورها بالطّبع إلى العصر الصّفويّ لِمَا عرفه من صدامات وحروب مع جيراننا العثمانيّين. وهي أحكام تَعَمَّقت مع انتشار نظريّة تعالي العرق الآريّ الإيرانيّ في عهد الحكومة البهلويّة...إنّنا لا نعتبر أنفسنا جزءًا من المنطقة التي نوجد فيها، لأنّنا نتصوّر أنّنا نوجد في القارّة الأوروبيّة أو ينبغي أن نكون فيها. إنّه المكان الذي يليق بالأمّة الإيرانيّة العظيمة والذّكيّة. ولهذا السّبب ليست لدينا الرّغبة في التعرّف أو التّعاون مع جيراننا".
ويختم برقعي مقالته قائلا: "لهذه الأسباب كلّها، نحن معزولون وبعيدون عن جيراننا. ليس بسبب مذهبنا الشِّيعيّ الذي فرضه الصفويّون على بلادنا السنّيّة في الأصل فقط؛ وليس بسبب اختلاف لغتنا عن التّركيّة والعربيّة فقط؛ بل لأنّ كلّ ما سبقت الإشارة إليه من انفصالاتٍ، كان بسبب السِّياسات غير المباركة لحكوماتنا طوال الخمسة قرون الماضية. إذ تمّ توظيف العامل الثقافيّ والمذهبيّ من قبل الحكومة الإيرانيّة لتغريبنا عن جيراننا، وجعلنا مُنزوِين في كلا المجالين: الحضارة الإسلاميّة والحضارة الإيرانيّة. وبسبب انزِوائِنا وطبعنا العِدائيّ تجاه جيراننا، أصبحت عبارة "الفنّ عند الإيرانيّين فقط" على لسان العامّ والخاصّ. ليس هناك اعتراض على الجزء الأوّل من العبارة، أي "الفنّ عند الإيرانيّين"، لأنّ كلّ أمّةٍ تمجِّد نفسها، لكنّ الذي ليس صحيحًا بل ومُسَمِّما، هو الكلمة المضافة للجملة، وهي "فقط"، وهذه لوحدها كافية لتوضِّح ما قدّمته هنا..".
إنّ موقف البرقعي؛ هو خطوةٌ نقديّةٌ جريئة، تهدف إلى تجاوز عقباتٍ ظلَّت منذ قرون تمنع الشّعب الإيرانيّ من استعادة مبادرته الحضاريّة باتِّجاه جيرانه، ومن كسر جدران المُسَلَّمات الثَّقافية والمذهبيّة.
هناك موقف آخر أعلنه المفكِّر الإيرانيّ صادق زيبا كلام؛ وهو من أكثر المثقّفين الإيرانيّين اهتمامًا بسؤال الخروج من المأزق الثقافيّ والتّاريخيّ الإيرانيّ. وقد ارتبط اسمه في بداية الثّورة الإسلاميّة بمسؤوليّات أكاديميّةٍ وثقافيّة. وقد حاول في كتابه (كيف أصبحنا نحن؟) إبرازَ دور العامل الذّاتيّ في تخلُّف الإيرانيّين؛ مفنِّدًا الخطاب السِّياسيّ الرّائج، الذي يعلّق أزمات إيران كلّها على مشجب الاستعمار أو المؤامرة العالميّة.
وفي زمن الثّورات العربيّة يكشف زيبا كلام عن جانب من عوائق العقل الإيرانيّ؛ وهو العنصريّةُ والنِّظرة الاستعلائيّةُ إلى الآخرين. إذ يقول في حوارٍ له مع صحيفة (صبح آزادي)[4] الإيرانيّة: "أعتقد أنّ الكثير من الإيرانيّين يكرهون العرب، ولا فرق بين المتديِّن وغير المتديِّن منهم في هذا الأمر". ويقدِّم زيبا كلام تصريحاتِ السياسيّين الإيرانيّين بخصوص جيرانهم العرب في الإمارات أو البحرين أو السّعودية مثلا، كدليلٍ واضح على تمكّن داء العنصريّة من الخطاب الإيرانيّ؛ إذ يقول: "إنّ تصريحات المسؤولين في الجمهوريّة الإسلاميّة عنصريّةٌ أكثر ممّا هي سياسيّة... مثلا حين يقول أحدهم مخاطبًا العرب: هل أنتم بَشر؟ هل في الإمارات أصلًا تعدادٌ بشريٌّ يُعتدّ به؟ لو أنّ الإيرانيّين السّاكنين في الخليج الفارسيّ نفخوا إلى الجهة الجنوبيّة لذهب العرب مع الرّيح..".
لا يُنكر زيبا كلام أنّ هناك علاقةً وثيقةً بين العنصريّة وتدنِّي المستوى الثّقافيّ؛ لكنّ هذه القاعدة لا تنطبق على المجتمع الإيرانيّ، لاستسلام كثير من المثقّفين -وغير المثقّفين- لمشاعر العنصريّة. فـ "الكثير من المثقّفين يبغضون العرب، وتجدون متديِّنين كثرًا ينفرون منهم؛ إلا أنّ هذه الظّاهرة هي أكثر انتشارًا بين المثقَّفين الإيرانيّين. وتنتشر هذه الظّاهرة بين المتديِّنين، على شاكلة لعن أهل السّنّة". ويتّفق زيبا كلام مع برقعي في أنّ قضيّة كراهية الإيرانيّين لأهل السنّة، ليست سوى الوجه الآخر لكراهية العرب لهم.
وفي أثناء التّشريح التّاريخيّ الذي قام به زيبا كلام؛ كشف عن أنّ جذور كراهيّة النُّخبة الإيرانيّة للعرب ترجع إلى أكثر من 1400 عام، عندما انهزم الفرس أمام العرب المسلمين في معركة القادسيّة.
وأكّد زيبا كلام ما ذهب إليه البرقعي من تفسيرٍ، بالقول إنّ سياسات الملكيّة البهلويّة؛ قد عمّقت النّظرة الاستعلائيّة تجاه العرب. ورأى أنّ جميع المحاولات -التي بُذلت في المرحلَتيْن الملَكيّة والجمهوريّة- لتصفية اللّغة الفارسيّة من الكلمات والمصطلحات العربيّة؛ هي ترجمةٌ لمشاعرَ عنصريّة تجاه العرب.
ويؤمن زيبا كلام مثل باقي المنتقدين للذّات الإيرانيّة؛ بأنّه لا مفرَّ من مواجهة هذه الذّات بفظاعاتها وتشوُّهاتِها العميقة، والتي تسعى دائمًا إلى تجاهُل قُبحها بالإنكار والهروب إلى الأمام. ويرى أنّه لا سبيلَ للعلاج من تلك الآفات؛ إلا باجتثاث جذور الدّاء الكامنة في العقل الإيرانيّ، سواء كان متعلِّمًا مثقَّفًا أو لم يكُن.
أمّا الكاتبة الشابّة ندا شهبازي؛ فقد حاولت بدورها أن تعرِّي الانحرافَ الحاصلَ في الذِّهنيّة الإيرانيّة تجاه الجار العربيّ. وعلى خِلاف الآخرين؛ انطلقت من الزّاوية الجغرافيّة لتُثبت لأبناء وطنها أنّ هَوَسَهُم القوميّ، وتمجيدَهم الأعمى للعرق الفارسيّ، أوقعهم في مآزقَ خطيرة.
جادلت شهبازي المتعصِّبين الذين اتّخذوا قضيّة تسمية "الخليج الفارسيّ" ذريعةً لتمرير أحقادِهم وكراهيتِهم للعرب؛ متناسين أنّ جزءًا من الشَّعب الإيرانيّ هم عربٌ أيضًا، وأنّ غالبيّتهم تساكِن ذلك الخليج. تقول ندا شهبازي: "للأسف هناك جهودٌ كبيرة، وخاصّةً تلك التي تبرزها بعض الصّفحات الأكثر رواجًا على الفايسبوك؛ والتي لا تعبِّر عن رغبةٍ حقيقيّة في الحفاظ على تسمية الخليج القديمة، بقدر ما تسعى إلى ترسيخ كلمة "فارسيّ". وأنا أَستبعدُ أن يبذل أصحابها كلّ هذا الجهد، لو كان اسمه مثلا "الخليج الجنوبيّ"[5].
وختمت هذه الكاتبة مقالتها بإثارة انتباه المثقَّف الإيرانيّ إلى أنّ التّداخُل والتّبادل، هو من طبيعة الثّقافة الإنسانيّة؛ وإلى أنّ تأثير اللّغة العربيّة في نظيرتها الفارسيّة كبير. ودعت قُرّاءها الإيرانيّين إلى تأمُّل أسمائهم العربيّة، وإلى ملاحظة مدى وجود العربيّة في أعماقهم الثّقافيّة. لذلك نصحتهم باستئصال مشاعر العنصريّة والكراهية من قلوبهم؛ على الأقلّ احترامًا للمواطنين الإيرانيّين العرب.
لاشكّ في أنّ هذا الحوار الإيرانيّ- الإيرانيّ، سيُسهم في إيقاظ العقل، وإخراجه من سجن "الأنا" المدمّرة الذي قبع فيه. ممّا سيدفع بالنُّخبة الإيرانيّة إلى استئناف دورها الإسلاميّ بعيدًا عن التّمييز العرقيّ والجغرافيّ العنيف، الذي تغذِّيه روح عصرنا المادّية.
ماذا نستنتج؟
وختامًا أقول: إنّ نجاح أيّ نموذجٍ حضاريّ؛ هو مرتبطٌ أساسًا برسالته الإنسانيّة المتعالية على الحسابات الضيِّقة؛ تلك الرّسالة المبنيّة -على الدّوام- على العطاء والتّواضع والصّبر والاعتراف بمبدئيّة الحقّ. إنّ النّموذج المفتَقِر إلى هذه السّمات، لن يستطيع -بتاتًا- أن يقدِّمها لغيره من النّماذج، ولا أن يدعوها إلى الالتزام بها. فالبشريّة لا تنقصها التّجارب بقدر ما ينقصها النَّموذجُ القدوةُ في السّلوك والممارسة الواقعيّة.
ولقد استشعر المثقّف الإيرانيّ مبكِّرًا خطورة المعضلة الثّقافيّة في مشروعه النّهضويّ. ومع توالي السِّنين، وخُفوتِ بريق الشِّعارات الثّوريّة؛ تعمَّقت الحاجة إلى إصلاح الذّات، وزعزعة مسلّماتها. واكتشف أبناء الثّورة الإسلاميّة وتلاميذها، أنّ العقبة الحقيقيّة والأُولى أمامهم، ليست العدوّ الخارجيّ كما يروِّج لذلك الخطابُ الرّسميّ؛ بقدر ما هي تلك الأفكار الخاطئة التي سيطرت على العقل الإيرانيّ لقرونٍ طويلة، وكانت وراء فشل كلّ ثورات الشَّعب الإيرانيّ في القرنين الأخيرين. إذ كانت الأصول الثقافيّة المترسِّخة في النّفوس؛ تُنتج دائمًا عقلًا جامدًا ومعزُولا. وكثيرًا ما كان ذلك العقل يحاول إضفاء الشرعيّة على بنيةٍ استبداديَّة، مع أنّها قائمة على حُطام أنظمةٍ استبداديّةٍ سابقة.
وفي اعتقادي، تمثِّل مراجعة بعض المثقَّفين الإيرانيّين للذّات، وتعرِيتهم لعيوب تجربتهم وثقافتهم، ومحاولتهم نقد مسلّماتها الذّهنيّة؛ خُطوةً شجاعةً، وحالةً صحِّيةً من أجل بناء مجتمعٍ سليم، يستطيع بناء علاقاتٍ مشتَركة ومتواصلة مع محيطه العربيّ خاصّةً. وقد تكون هذه الأفكار مقدِّمة لتحوُّلٍ ثقافيّ، يفتح المنطقة على مستقبلٍ أكثر تواصلًا واستقرارًا؛ حتّى يستشعر فيها الجميع احترام بعضهم للبعض الآخر.
إنّ هذا التطلُّع الإيرانيّ، يحتِّم على العقل العربيّ القيام بواجبه في مراجعة ذاته بشجاعةٍ وعمق. ذلك أنّ الاستبداد لا يسقُط بسقوط صُوره الخارجيّة فقط؛ بل وكذلك بإسقاط ثقافته وصورِه المعنويّة والذهنيّة التي تشرَّبها المجتمع العربيّ طوال قرون انحطاطه وتخلُّفه. لقد حان الوقت لكي يقف المثقّفون العرب أمام مرآة الحقيقة، ويستجيبوا لطموح شعوبهم الثّائرة؛ تلك التي قدّمت التّضحيات العظيمة من أجل أن يكون لها المكان الملائم تحت الشّمس.
* باحث بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
المراجع:
[1] جميلة كديفر، "الربيع العربي في مصر"، موقع "جنبش راه سبز"، 19/12/2011 http://www.rahesabz.net/story/46503/
[2] حسن محدثي، "نظرة إلى الإسلام الحداثي في العالم العربي الجديد"، موقع: شرق، 27/06/2011: http://sharghnewspaper.ir/News/90/04/06/13340.html
[3] محمد برقعى، "لماذا توسعت الحركة المصرية ولم تتوسع الثورة الإيرانية ؟"، موقع: "جنبش راه سبز"، 22/02/2011: http://www.rahesabz.net/story/33341/
[4] صادق زيبا كلام، حوار مع جريدة "صبح آزادى" الإيرانية"، 10/08/2011، الرابط على الموقع الشخصي لزيبا كلام: http://www.zibakalam.com/news/478
[5] ندا شهبازى، "الخليج فارسي أم عربي؟"، موقع: "بالاترين"، 10/12/2011: http://balatarin.com/permlink/2011/12/10/2833613
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
المزيد...
تتمثل فكرة هذه الورقة في إبراز مكونات الدستور الديمقراطي، ثم مراجعة دساتير دول مجلس التعاون الخليجي لمعرفة مدى توافر هذه المكونات بها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الدساتير الخليجية تذكر صراحةً بأن نظامها ديمقراطي فالفقرة (د) من المادة الأولى من دستور مملكة البحرين على سبيل المثال تنص على أن "نظام الحكم في مملكة البحرين ديمقراطي السيادة فيه للشعب مصدر السلطات جميعًا وتكون ممارسة السيادة على الوجه المبين بهذا الدستور" وعلى مثل ذلك أكد الدستور الكويتي والدستور القطري. ولكن لا شك بأنه من غير الموضوعية أن يوصف نظام بأنه ديمقراطي لمجرد ذكر ذلك في الدستور، كما أن من السطحية أن تختزل الديمقراطية في مجرد اختيار بعض أعضاء مجلس ذا صلاحيات محدودة عن طريق الانتخابات.
إن تحديد مكونات الدستور الديمقراطي يقتضي بلا ريب العودة إلى المقومات العامة المشتركة بين أنظمة الحكم التي تكتسب اليوم صفة الديمقراطية. فالديمقراطية كما يقول الدكتور علي بن خليفة الكواري ليس مفهومًا هلاميًا يمكننا أن نطلقه على نظام الحكم أو الإدارة التي نرغب فيها دون مراعاة لما لا يقوم نظام الحكم الديمقراطي إلا عليه من مقومات. لذا فإننا في إبرازنا لمكونات الدستور الديمقراطي نركن بشكل أساسي على هذه المقومات. ويجدر التوضيح هنا بأن من الدراسات التي تناولت جوانب واسعة واطلعت عليها عند إعداد ورقتي, كتاب "الخليج العربي والديمقراطية: نحو رؤية مستقبلية لتعزيز مساعي الديمقراطية" للدكتور علي بن خليفة الكواري، ودراسة حول الدستور الديمقراطي للدكتور أمحمد المالكي، ومفهوم الانتخابات الديمقراطية للدكتور عبد الفتاح ماضي، علاوة على العديد من الأدبيات في هذا الجانب.
ولما كان الحديث عن مكونات الدستور الديمقراطي المنشود يتطلب ابتداءً الحديث عن أسلوب وضعه وإجراءات تعديل مواده، والتي ينبغي أن تكون ديمقراطيةً كذلك، لذا خصصنا جزء من هذه الورقة للحديث عن أسلوب وضع الدستور الديمقراطي، وإجراءات تعديل هذه الدستور. وعليه نبحث في هذه الورقة أولًا في أسلوب وضع الدستور الديمقراطي، ثم إجراءات تعديل مواده، ثم ننظر إلى مكونات الدستور الديمقراطي. ومن خلال استعراضنا لهذه العناصر نستشهد بما تنص عليه دساتير دول مجلس التعاون الخليجي لننظر مدى توافقها أو بعدها عن الدستور الديمقراطي.
مرفق الورقة كاملة للتحميل بصيغة PDF
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
لطالما كانت منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها، محل انتقادات كثيرة، وعلى مدار عقود عديدة، فيما يتعلق بالتقاعس والتقصير في دعم القضية الفلسطينية، وفضح انتهاكات إسرائيل لقواعد القانون الدولي، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، وما يعانيه الشعب الفلسطيني من ظلم واضطهاد وتصرفات عنصرية.
وإذا كانت هذه الانتقادات في محلها إجمالا، إلا أنه من الضروري أن نعترف بالتطورات الهامة والنوعية التي طبعت مؤخرا قرارات هذه المنظمة، ومواقف مختلف هيئاتها ووكالاتها منذ أن أصدرت محكمة العدل الدولية، وهي الجهاز القضائي لمنظمة الأمم المتحدة، رأيها الاستشاري الهام بخصوص الجدار العنصري الفاصل في فلسطين في 9/7/2004، وصولا إلى قرار مجلس حقوق الإنسان الذي صدر مؤخرا وبالتحديد بتاريخ 22/3/2012 والخاص بتأسيس بعثة تحقيق دولية مستقلة بخصوص بناء المستوطنات على الأراضي العربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية (صوتت 36 دولة من أصل 47 دولة في هذا المجلس لصالح القرار، في حين امتنعت 10 دول عن التصويت، وصوتت ضده دولة واحدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية).
فُتحت صفحة جديدة من مواقف الأمم المتحدة بخصوص القضية الفلسطينية بفضل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي أكد مخالفة بناء الجدار الفاصل لقواعد القانون الدولي، وضرورة وقف استكماله وإزالة ما تم بناؤه وتعويض الفلسطينيين عما لحق بهم من أضرار في الأراضي والممتلكات. ودعم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي صدر لاحقاً وبتاريخ 20/7/2004 (صوتت عليه 150 دولة عضواً في الأمم المتحدة من بينها كل دول الاتحاد الأوروبي، في حين صوتت ضده 6 دول وامتنعت 10 أخرى عن التصويت)، هذا الرأي وأكد أهميته.
وتعززت مواقف الأمم المتحدة تجاه القضية الفلسطينية حين قرر رئيس مجلس حقوق الإنسان تأسيس (بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة)، وذلك بتاريخ 3/4/2009، وأسند لها مهمة التحقيق في جميع انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والتي ارتكبت في أي وقت في سياق العمليات العسكرية التي جرى القيام بها في غزة أثناء الفترة بين 27/12/2008 و18/1/2009، وهي اللجنة التي عُرفت لاحقا بلجنة (غولدستون) نسبة إلى اسم رئيسها القاضي (ريتشارد غولدستون) الذي شغل منصب قاض في المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا، كما كان مدعياً عاماً في المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا.
نشرت اللجنة تقريرها في 15/9/2009، وحمل اسم (حالة حقوق الإنسان في فلسطين والأراضي العربية المحتلة الأخرى)، وسيكون من المطول التطرق لتفاصيل هذا التقرير، ولكن نشير إلى أنه بيّن عدد الضحايا، حيث وصل عدد القتلى إلى 1444 معظمهم من المدنيين، وبالمقابل بيّن التقرير أن عدد القتلى المدنيين في إسرائيل لم يتجاوز الثلاثة، وأشار التقرير إلى الانتهاك الصريح لمبدأ التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية من الجانب الإسرائيلي، وذلك من خلال الهجمات غير المبررة على المباني الحكومية الفلسطينية وعلى المساجد والسجون والبيوت المدنية، إذ تشير الإحصائيات إلى تدمير ما يقارب 3354 منزلاً بشكل كامل.
وبيّن التقرير، ارتكاب إسرائيل لجريمة خطيرة تتمثل في قصف مباني الأمم المتحدة (الأونروا) بالأسلحة الثقيلة والفسفورية، وهو ما يشكل انتهاكا لقواعد القانون الدولي الإنساني والعرفي، وقيام القوات الإسرائيلية بهجمات عشوائية وبقصف متعمد على المدنيين، ومن المعلوم أن القانون الدولي الإنساني حظر الهجمات العشوائية، وكذلك الأمر بالنسبة للهجمات المتعمدة على المدنيين. وقدم التقرير مجموعة من التوصيات كان من أهمها إجراء تحقيق من قبل الجانب الإسرائيلي والفلسطيني في انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وبشكل خاص حول تعويضات الضحايا، والتحقيق في استخدام أسلحة محرمة في القانون الدولي.
ويمثل قرار المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة المعروفة باليونسكو، والصادر بتاريخ 31/10/2011، بقبول انضمام فلسطين عضوا كامل العضوية في هذه المنظمة، نصرا كبيرا للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني (صوتت 107 دولة لصالح القرار، و14 دولة ضده، وامتنعت 49 دولة عن التصويت)، وهو ما سمح لاحقا لفلسطين من الانتقال من صفة عضو مراقب إلى عضو كامل العضوية في اليونيسكو.
ولعلنا بانتظار مواقف أخرى من قبل منظمة الأمم المتحدة، في الوقت الذي يحق لنا فيه أن نتساءل عن مواقف فعلية ومؤثرة لصالح القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وبخاصة مدينة القدس المحتلة، من قبل منظمات عربية وإسلامية مثل: جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، واتحاد المغرب العربي، ومنظمة التعاون الإسلامي.
----------------------------
*رئيس المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، فرنسا. أستاذ زائر، جامعة ستراسبورغ، فرنسا.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
كثيرا ما قرأنا عن تغييرات تاريخية كبرى انطلقت بأحداث شخصية بسيطة. فهناك حروب ساهمت في تغيير ميزان القوة العالمي، ربما من النقيض إلى النقيض، كان منطلقها واقعة شخصية بسيطة. وهناك ثورات قلبت أنظمة سياسية رأسا على عقب، انطلقت بحدث لشخص أو مجموعة أشخاص. هذا ما تبديه صفحات التاريخ المرئي، أما التاريخ المغمور، فإنه، وعلى العكس من ذلك، يبدي، وربما عند أول محاولة للغوص فيه، أن تلك الواقعة الشخصية، لم تكن سوى السبب المباشر الذي يخفي وراءه العديد من الأسباب غير المباشرة، وأن ذلك الحدث، الذي تم رصد لحظة وقوعه بدقة، يخفي وراءه سيرورة تاريخية، ويحيل على تراكمات وتناقضات تداخلت أزمانها.
إقدام تونسي في ريعان شبابه على إحراق نفسه قد يبدوا بسيطا بالنظر إلى تاريخ البشرية، لكنه ليس كذلك بالنظر إلى كنه الإنسانية. ومع ذلك، فإن ذلك الحدث يبقى بسيطا ليس فقط عند مقارنته بما نتج عنه من مآلات، ولكن أيضا بالنظر إلى الظروف المحيطة به، الحافلة باغتصاب إنسانية الإنسان روحيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. فقبل واقعة البوعزيزي أقدم العديد من "الرعايا" في بعض البلدان العربية على قتل أنفسهم أو إحراقها دون أن يشعل ذلك فتيل الانتفاض والاحتجاج. ما الذي حدث حتى يكون لواقعة البوعزيزي مسار غير المسار، ومجرى غير المجرى؟ هل يتعلق الأمر بزمن الواقعة؟ أم بمكانها؟ أم بالجمهور المحيط بها؟ أم بسياقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية؟
ربما الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى بحوث وبحوث، وقد تحتاج قبل ذلك إلى مسافة زمنية تتيح النظر من أعالي التاريخ، لذلك فحسبنا هنا الوقوف على الموضوع بما تتيحه اللحظة من معطيات للتحليل ومن إمكانات للتأمل.
في مفهوم الثورة
سيبقى عام 2011 منقوشا في الذاكرة العربية، فلم يسبق أن سقط في عام واحد ثلاثة حكام عرب، من أعتى الطغاة وأعند المستبدين.1 والجميل أن من سقطوا لم يسقطو بفعل موت طبيعي أو انقلاب عسكري أو "ثورة ناعمة" داخل القصر، انتقل بها الاستبداد من يد إلى أخرى، كما اعتدنا في منطقتنا العربية، وإنما سقطوا بفعل يقظة شعبية غير مسبوقة. عام 2011 عند العرب يشبه إلى حد كبير عام 1848 عند الأوربيين، حيث عرفت مجموعة من الدول الأوربية تمردات وانتفاضات شعبية، أدت إلى تغييرات سياسية هامة. لذلك فليس من الغريب أن يوصف ما حدث عندنا بربيع الشعوب العربية، بعد أن وصف ما حدث عندهم بربيع الشعوب. وإن كان انتقال الانتفاض، على الطريقة العربية، إلى شعوب الضفة الأخرى، كشعب اليونان وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وغيرها، يجعل من الربيع العربي هو الآخر،عن جدارة واستحقاق، ربيع الشعوب. عامة الشعوب.2
الربيع، الانتفاضات، الثورات، الفورات، الحراك، الرجات. كانت هذه أهم الأوصاف التي تناقلها الإعلام، و تداولتها بعض مراكز البحث. فالإعلامي يعلق على الحدث والباحث يحلله باستعمال وصف من تلك الأوصاف، دون أن يقف أي منهما، إلا ناذرا، على حقيقة مطابقة الوصف للموصوف، ومطابقة الدلالة للمعنى. ربما العذر في ذلك "لا مشاحة في الألفاظ" كما يقول الأصوليون، وربما سرعة الأحداث لم تتح من فرصة لتفكير تجريدي كالتفكير في المعاني والمفاهيم. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة لأن الوصف الخاطيء لموصوف ما تنتج عنه تحليلات خاطئة واستنتاجات خاطئة، والأخطر من ذلك تمثلات و انتظارات خاطئة.
يعنينا من تلك الأوصاف وصف الثورة، ليس فقط لأنه الأكثر تداولا، ولكن أيضا لأنه الأكثر حمولة. طارق رمضان في كتابه " L’islam et le réveil arabe" استبعد عن وعي وصف الثورة، واكتفى بأوصاف أخرى مثل اليقظة و الانتفاضة، في حين أضاف محمد أحمد النابلسي إلى وصف الثورة وصف ملهوفة في كتابه: " ثـورات ملهوفة - قراءة مستقبلية للتحولات الشعبية العربية". الباحثان معا لا يخفيان تعاطفهما مع الشعوب العربية، وتأييدهما لما تطالب به من حرية وكرامة وعدالة، لكن هذا التحديد المفاهيمي حكمته منطلقات لكل منهما، فالأول يرى أن ما حدث في العالم العربي لم يكن مفاجئا، ولم يكن بكامله من فعل عربي، وإنما كان هناك تخطيط خارجي تم الاستثمار فيه لسنوات. صحيح أن ما حدث لم يكن متوقعا بالكامل من قبل المخططين، لكن الأحداث العربية، حسب طارق رمضان دائما، لم تكن كلها بفعل ذاتي محض. أما الثاني فإنه يحذر من أن يتحول اللهف إلى قهر، فهو يرى، من جملة ما يرى، أن المنطقة العربية أصبحت عرضة للفوضى العارمة وللفراغ السياسي الذي يصب في مصلحة مثلث القوى الإقليمية إسرائيل وإيران وتركيا، على حساب تغييب العرب عن المشهد السياسي الشرق أوسطي، وتحويلهم من شعوب ملهوفة إلى شعوب مقهورة. لا يعنينا هنا تسجيل اختلافنا مع الكاتب في وضع تركيا وإيران إلى جانب إسرائيل. و لكن يعنينا أن هذا الأخير لم يستبعد وصف الثورة، ولكنه لم يكتف به وحده، بل أضاف إليه وصفا أخر. و ما يدرينا فقد تعني هذه الإضافة، بشكل أو آخر، عن وعي أو غير وعي، استبعاد مفهوم الثورة. بين هذا الاستبعاد الظاهر والمطمر نتساءل ما معنى الثورة؟
يختلف مفهوم الثورة باختلاف المدارس الفكرية والسياسية. كما يختلف باختلاف الأزمنة. فقد ميزت "حنة إرندت" بين المفهوم القديم للثورة، والذي كان يستعمل بالأساس في المجال الفلكي، واكتسب أهميته المتزايدة من خلال عالم الفلك "كوبرنيكوس". فالثورة حسب المفهوم القديم تعني الحركة الاعتيادية الدائرية للنجوم؛ تلك الحركة الحتمية، التي تتم خارج تأثير الإنسان، ولا يمكن مقاومتها. حركة دائرية متكررة لا تتصف لا بالجدة ولا بالعنف. تقول "حنة إرندت" :" فإذا استخدمت الكلمة للتعبير عن شؤون البشر على الأرض، فهي أنما تفيد بأن أشكال الحكومة القليلة المعروفة تدور بين البشر الفاني بتكرار أزلي وبالقوة ذاتها التي لا تقاوم وتجعل النجوم تسيير في الدروب المرسومة لها في السموات".3 أما المفهوم الحديث للثورة، والذي تم ترسيخه في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فإن "حنة أرندت" تقول عنه: " ليس هناك ما هو أبعد عن المعنى الأصلي لكلمة ثورة إلا الفكرة التي استحوذت على الثوريين، وهي أنهم وكلاء في عملية تقضي، بصفة مؤكدة، على عالم قديم وتأتي بعالم جديد".4 هذا الاستنتاج تؤكده اللغة، من ذلك النعت الفرنسي révolu الذي يعني منته وبائد وتام وكامل. يقال moments révolus أي أوقات منصرمة.
الثورة بمعناها الحديث، وبمنظور مدارس مختلفة، تعني تغييرا عنيفا و مفاجئا وغير متوقع للبنيات السياسية والاجتماعية للدولة، يقوم به متمردون على السلطة القائمة، ويحلون محلها. وتعني التغيير المفاجيء للنظام الاقتصادي والأخلاقي والثقافي. وتعني قلبا عميقا للقيم الأساسية في المجتمع. وتعني انتقال السلطة من طبقة إلى طبقة. وتعني تغييرا جماهيريا سريعا وعنيفا. وتعني مشاركة شعبية تهدف إلى إجراء تحويل اجتماعي، وتنتهي بتأسيس نظام سياسي جديد. وتعني، حسب المفكر العربي عزمي بشارة، تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة5.... وإذا كان من المتفق عليه أن هناك ثلاثة خصائص لحركية الثورة بمعناها الحديث هي : الفجائية والسرعة والعنف، فهناك اختلاف كبير فيما يخص الآثار التي من المفترض أن تترتب عليها. فإذا لم نلتفت لرأي "مونتسكيو"، الذي كان يرى أن الثورة لا تنتج إلا الطغيان، فإن مما يميز الثورة على مستوى أثارها هو الجدة، فهي إما تنتج تغييرا للنظام السياسي، أو تتعدى ذلك إلى إحداث تغيير اجتماعي واقتصادي، وقد يبلغ التغيير أوجه بإحداث تحول في النظام الأخلاقي والقيمي للمجتمع. ويبدو أن هذا الاختلاف حول الآثار المفترضة من الثورة يعود إلى الانطلاق من تجارب ثورية محددة، فالذين انطلقوا من تجربة الثورة الفرنسية سنة 1789 رأو فيها قلبا جذريا للمنظومة السياسية والاقتصادية والفكرية والقيمية للمجتمع، وليس اعتباطا شبه "ألكسيس دو توكفيل" الثورة الفرنسية بالثورات الدينية.6 أما الذين انطلقوا من التجربة الإنجليزية، فإنهم لم يروا في الثورة المجيدة إلا نوعا من إعادة السلطة، بحيث عادت الملكية، لكن بعد أن أصبحت مقصوصة الجناح مغلولة اليد محدودة النفوذ.
في الحقيقة يصعب الحديث عن تغيير جذري وعميق في الأسس القيمية والأخلاقية والبنيات الثقافية والفكرية باستحضار خصائص العنف و السرعة والفجائية. فلا يمكن أن يقول بذلك إلا جاهل بالطبيعة البشرية. فتغيير العادات والذهنيات، وإخراج الإنسان من أغلال أنانيته، لا يكون بحدث فجائي سريع وعنيف، وإنما يكون بفعل تربوي. وزمن التربية أطول وأفسح بكثير من زمن الثورة.
قبل أن نعود إلى الحراك العربي، ننبه إلى أن مفهوم الثورة ارتبط كثيرا بمفهوم الحرية، فهدف الثورة كان وما يزال هو الحرية. والثائر يقول بلسان حاله قبل مقاله: "أعطني الحرية أو أعطني الموت". ويبدو أن الارتباط بالحرية من الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان. لكن الحرية في سياق الثورة الفرنسية بصفة خاصة أصبحت تعني، مما تعني، التحرر من الدين، أي دين، بعد أن كانت تعني التحرر من المسيحية، بل كانت تعني في البداية التحرر فقط من سلطة الكنيسة ومن هيمنة رجال الدين. لذلك فالثورة عند البعض تعني، وكما قال "ألكسيس دو توكفيل"، إحلال دين جديد بدون إله.
والآن لنا أن نسأل إذا كانت السرعة والفجائية طبعت ما حدث في تونس، وبقوة أقل ما حدث في مصر، فهل طبعت ما حدث في ليبيا واليمن وسوريا؟ وهل تذكرنا مشاهد 2011 بمشاهد اقتحام الثوار الفرنسيين للباستيل في بداية يوليو 1789، التي قرأنا عنها في بعض الكتب وشاهدناها في بعض الأفلام والبرامج الوثائقية، وهم يحملون السيوف والخناجر والمناجل؟ وإذا استثنينا بعض الحالات التي اضطر فيها المتظاهرون إلى تنظيم عنف مضاد، أين هو العنف في باقي الانتفاضات العربية، أقصد عنف المتظاهرين وليس عنف الدولة الذي تجاوز الحدود؟ هل تغير النظام السياسي في تونس ومصر وليبيا واليمن أم هو في طور التغيير؟ وإذا تغير النظام السياسي هل سيتغير النظامان الاجتماعي والاقتصادي، علما أن البنيات الاجتماعية والاقتصادية تكون أشد صلابة من البنيات السياسية؟ إلى حدود الساعة لا نستطع الحكم بحتمية التغيير الاجتماعي والاقتصادي. وهل كان المتظاهرون عندنا يطالبون بتغيير المنظومة الأخلاقية لمجتمعاتهم، أم على العكس من ذلك كانوا يطالبون بالعودة إلى تلك المنظومة في صفائها ونقائها؟ هل كان المنادون بالحرية يعنون، فيما يعنون، التحرر من الدين، أم كانوا يعنون التحرر بالدين؟ أو على الأقل التحرر مع الدين؟
إنه تمرين من الأسئلة، يمكن للقارئ اللبيب الاستمرار فيه، لعلني ألتقي وإياه إلى أن ما حدث عندنا خاصة في تونس ومصر، إن كان لابد من وصفه بالثورة، لما في ذلك من حمولة عاطفية ونفسية تحيل إلى تغيير شامل وبداية جديدة، فإنه ثورة من نوع خاص، ليس على مستوى الخصائص فقط ولكن على مستوى الآثار والبواعث أيضا.
خبز أم كرامة؟
تم الحديث كثيرا على أن هذه الانتفاضات كانت مفاجئة ولم يتنبأ أحد بها، وهذا القول يفتقد إلى شيء من الدقة، فمجموعة من المثقفين والسياسيين في البلدان العربية والإسلامية، كانوا ينطلقون في تحليلاتهم وتصريحاتهم من ذلك القانون الفيزيائي الذي يقضي بأن كثرة الضغط تولد الانفجار، وكانوا يحذرون باستمرار من تصدع الأوضاع، يحضرني هنا عالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة الذي تحدث بكل وضوح عن هذه الانتفاضات المنتظرة منذ عقد تسعينات القرن الماضي. ربما لم يكن التنبؤ بسرعة خروج الاحتجاج عن السيطرة، ولم يكن التنبؤ بالنتائج الباهرة لهذه الانتفاضات، ولكن إمكانية حدوثها وتطورها كانت واردة عند العديد من المتتبعين. مع العلم أن العقد الأول من الألفية الثالثة عرف تنامي حركات احتجاجية من قبل فئات اجتماعية مختلفة في أغلب البلدان العربية، وقد تزايدت وتيرة هذا الاحتجاجات في السنوات الأخيرة،7 و كان كل ذلك يؤشر إلى توسعها وتطورها. في مقال له، وقبل أن تتشكل الملامح النهائية للثورة التونسية، قال برهان غليون المفكر الذي يرأس الآن المجلس الوطني السوري: "كل الدلائل تشير في نظري إلى أننا في بداية دورة جديدة من الحراك الداخلي الذي يستفيد من اهتزاز وضع النظم القائمة الخارجي وتراجع ثقتها بنفسها وبحماياتها الخارجية. وربما تشكل انتفاضة عمال المناجم والعاطلين عن العمل في مدينة سيدي بوزيد التونسية في الأسبوع الأخير من عام 2010، إشارة الانطلاق لهذه الدورة التي ستتقدم على وقع تبدل علاقات القوى الخارجية".8 إن سنة 2011 لم تكن سنة بداية الاحتجاج والانتفاض، ولكنها كانت سنة بداية التوجيه السياسي لذلك. وقد ارتبطت مآلات هذه الانتفاضات إلى حد كبير بمدى قدرة المحتجين من نقل احتجاجهم من طبيعة اجتماعية محلية أو فئوية إلى طبيعة سياسية وطنية.
عرفت الأوساط الإعلامية والثقافية إبان هذه الانتفاضات نقاشا حول باعثها، هل هو الخبز أم الكرامة؟ وقد بذل بعض الكتاب ما في وسعهم لربط الانتفاضات بهذا الباعث الأخير، ظنا منهم أن باعث الخبز يجعل منها انتفاضات جياع، مع ما يرمز له الجوع من حاجة بهيمية تبقى دون المطامح الكاملة للإنسان المتحضر. والحقيقة أن الباعثين مرتبطان لا يمكن فصلهما في سياق المجتمعات العربية، وربما في سياق المجتمعات الإنسانية بصفة عامة. فإذا كان الخبز يرمز إلى العيش الكريم، فالانتفاض من أجل الخبز هو انتفاض من أجل الكرامة. وإذا كان من الكرامة عدم تسول الخبز، فالانتفاض من أجل الكرامة، في جزء منه، هو انتفاض من أجل الحق في الخبز. بتعبير آخر من أجل الحق في الثروة. لنوسع الحديث عن الخبز والكرامة بعض الشيء، و نتساءل ما هي أسباب هذه الانتفاضات؟ وما هي العوامل التي ساعدت عليها؟
لقد قيل الكثير عن الأسباب والعوامل التي أججت روح الانتفاض لدى الشعوب العربية، وتم التوسع في شرح ما يجمع بين البلدان العربية من أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية. فاستفحال الأزمات، بشكل غير مسبوق، كان له أسوأ الأثر على كرامة المواطنين البسطاء من أجراء ذوي الدخل المحدود وتجار وفلاحين صغار، وعلى من ليس لهم دخل منتظم، أو لا دخل لهم أصلا كالمعطلين بمختلف فئاتهم. ولعل مما زاد من ضرر تلك الأزمات نفاذ ما يمكن أن يصطلح عليه "احتياط الاستقرار الاجتماعي"، الذي يتمثل أساسا في التضامن العائلي وما كان يوفره من احتضان لأبناء العائلة في منطلق مشوارهم الأسري. فتزايد أسعار المطعم والملبس والمسكن..وفي المقابل الاستقرار النسبي للأجور وضعف القدرة الشرائية...فكك إلى أبعد الحدود ذلك التضامن العائلي خاصة في شقه المادي..وإذا كانت هناك سياسات عامة تشجع اللجوء إلى الاقتراض لامتصاص الشعور بالأزمة، فإن شراهة المؤسسات المالية وضعف الأجور جعلت الكثير من الناس يعيشون كابوس القروض المتعددة مما نتج عنه أمراض نفسية واختلاسات وإدمان على المخدرات و انتحارات واحتجاجات...
خرج الفقراء يحتجون، إما من أجل العمل أو التزويد بالماء الصالح للشرب أو تخفيض فاتورة الكهرباء، هذا في الوقت الذي زاد فيه الاطلاع، بفضل ارتفاع معدلات التعليم والانفتاح الإعلامي، على الأسباب الحقيقية لهذا البؤس الاجتماعي، والتي لم تكن سوى احتكار الثروة والنفوذ من قبل قلة حاكمة. التونسيون وهم يحتجون كانوا يستحضرون صورة البوعزيزي تلتهمه النيران في مقابل صورة آل طرابلسي وهم يستحوذون على 50 في المائة من الاقتصاد التونسي، كما نشر ذلك موقع ويكيليكس. الجمع بين المطالب الاجتماعية والمطالب السياسية كان واضحا في شعارات المنتفضين؛ "الشغل استحقاق يا عصابة السراق"، "الخبز والما وبنعلي لا".. كان هذا مما ردده التونسيون المنتفضون بقوة. فالبؤس وفر للانتفاضات بدايتها الاجتماعية، والاطلاع على أسبابه الحقيقية، والتطلع لتغييره في جذوره وليس فقط في مظاهره، وفر لها وجهتها السياسية. وساعد على ذلك استعلاء الطواغيت واستخفافهم بشعوبهم. فنفس السيناريو تكرر في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. في البداية يحاول الطاغية تجاهل الاحتجاجات والاستهانة بها ثم يعمد إلى قمعها، وأمام الصمود والاستنكار الدولي للقمع يتم اللجوء إلى محاولة التبرير والتخويف بالإرهاب والقاعدة، وحين لا يجدي ذلك يشرع الطاغية في تنازلاته بعد أن يكون قد فات الآوان. من تتبع خطب كل من بنعلي ومبارك و القذافي يتأكد فعلا، وكما قال "لابواسييه" في مقالته الشهيرة- العبودية المختارة- أن الغباوة تلازم الطغاة دائما. فبنعلي وبعد أن اشتدت المطالبة برحيله، وسقط عشرات الشهداء، أراد أن يرجع بالانتفاضة إلى بدايتها الاجتماعية، فوعد في خطاب له بتاريخ 10 يناير 2011 بإحداث 300 ألف منصب شغل إلى غاية 2012، الأمر الذي استفز المنتفضين، حيث توسعت المظاهرات في 11 يناير لتشمل العاصمة تونس وضواحيها. ونفس الأمر تكرر في استجداءات مبارك وهذيان القذافي، و بشار الأسد وبعد حوالي 10 أشهر من صمود السوريين وإصرارهم على رحيل الرئيس، يعلن في مرسوم تشريعي له العفو عن المتورطين في الاحتجاجات، الأمر الذي استفز المنتفضين وزاد من حدة انتفاضهم. لم يستوعب الطغاة أن المطالب إذا انتقلت إلى ما هو سياسي يصعب جدا إخمادها بالاستجابة لمطالب جزئية أو اجتماعية فقط، مهما كانت مغرية. حين يطالب الناس برحيل النظام هذا يعني انفراط الثقة بالكامل في ذلك النظام وفي وعوده. قد لا تبلغ المطالبة السياسية حد رحيل النظام مما يتيح لهذا الأخير هامشا من المناورة، لكن من الغباء الاكتفاء بنوع من الالتفاف المكشوف أو الكرم الاجتماعي الزائف.
إذا كان من الأسباب الرئيسية لقيام الثورات حسب "جيمس دافيز" James Davies الانتشار الواسع لحالة الكبت بمختلف أشكاله في المجتمع، فإن البلدان العربية عرفت في الآونة الأخيرة تناميا ملحوظا لذلك، حيث اتسعت الهوة بشكل غير مسبوق بين الطموحات والإشباعات. فالتقدم على المستوى التعليمي وتزايد نسبة الانفتاح الإعلامي، جعلت نسبة هامة من المواطنين يطلعون على مستويات عيش شعوب أخرى ويتطلعون إلى حياة أفضل، دون أن يلمسوا في واقعهم المعاش أية بوادر لتحقيق تلك التطلعات. إن هذه العلاقة العكسية بين الطموحات والإشباعات هي التي جعلت الاحتجاج يتوسع ويخرج عن السيطرة، ففي الوقت الذي زادت فيه طموحات الناس وتوسعت تطلعاتهم نجد أن الإشباعات تقلصت إلى حد بعيد بفعل السياسات الفاشلة والفساد المستشري. ومن الخطأ حصر الطموحات و التطلعات في بعد مادي، فبالإضافة إلى الحاجيات المادية هناك حاجيات معنوية ترتبط بالأمن الروحي وبتحقيق الذات وبحس الانتماء إلى الجماعة وبالشعور بالمسؤولية وبالقيام بدور في المجتمع.
وقد عجزت المؤسسات السياسية، نظرا لترهلها وطبيعتها الشكلانية، عن استيعاب تلك التناقضات الاجتماعية والإسهام في إيجاد حل لها، فالدستور والانتخابات والأحزاب والحكومات والبرلمانات في الدول العربية، كما لا مصداقية لها في توزيع السلطة والنفوذ لا دور لها في توزيع الثروة، لذلك اختار الناس أن يمارسوا السياسة و الضغط بعيدا عن قيودها وخارج حدودها.
إن تشابه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالبلدان العربية يعود في جزء منه إلى تشابه الوصفات التي كانت تقدمها المنظمات المالية الدولية لدول العالم الثالث بغض النظر عن الخصوصيات والقدرات والموارد المتاحة. فبالعودة إلى معظم البلدان العربية نجد أنها كانت تنهج في أزمنة متقاربة نفس السياسيات من تقويم هيكلي وخوصصة ورفع للرسوم الجمركية وغير ذلك. يقول "جوزيف ستيكليتز" joseph stiglitz أحد خبراء صندوق النقد الدولي:" لقد تحول العام سام، من خلال الدبلوماسية الاقتصادية، أو من خلال صندوق النقد الدولي، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الدكتور سام الذي يوزع الوصفات على الدول: خفضوا هذه الميزانية، قلصوا الرسوم الجمركية، خصخصوا تلك الوحدة الكهربائية. وعلى غرار بعض الأطباء المنهمكين والواثقين من أنفسهم، لم نكن نأخذ الوقت الكافي لنسمع شكاوى المرضى ولا كنا قادرين على القيام بالتشخيص لكل حالة على حدة ". ولعله من السذاجة ربط ذلك بسوء التقدير فقط وعدم الانتباه إلى تواطؤ مفسدي الخارج مع مفسدي الداخل.
من وسط نير ذلك الاستبداد السياسي والاستبعاد الاجتماعي والفساد الاقتصادي الذي عانت منه الشعوب العربية، يمكن الحديث عن بعض العوامل الخاصة التي كانت بمثابة المؤجج لفورة الاحتجاج، ففي تونس كان موت محمد البوعزيزي و الغطرسة العلنية لآل طرابلسي، وفي مصر كان التزوير الفج للانتخابات و التعاون المفضوح لمبارك مع إسرائيل، أما في ليبيا فقد شعر الناس بالإهانة وقرروا الانتفاضة بقوة بعد أن ظهر القذافي على التلفاز يثني على الرئيس التونسي المخلوع.
كان "سان- جوست" أحد رواد الثورة الفرنسية يقول: "البؤساء هم قوة الأرض". هذا صحيح إلى حد ما، لكن لم يكن للبؤس وحده أن يطيح ببنعلي أو مبارك أو القذافي أو صالح بعد عقود من الاستبداد، إنها حركة التاريخ التي "لا تقاوم وتجعل النجوم تسيير في الدروب المرسومة لها في السموات"، على حد تعبير "حنة أرندت"....البؤس بدون ارتفاع منسوب الوعي يمكن أن يكون عنفا مدمرا فقط، ولا يكون أبدا قوة بانية، والبؤس بدون شجاعة الشباب يمكن أن يكون وسيلة للاستخفاف بالشعوب،9 والبؤس بدون انفتاح إعلامي يمكن تصويره على أنه قدر محتوم، والبؤس بدون طبقة سياسية مسؤولة قد يصبح بمثابة سلم يصعد عليه الوصوليون والانتهازيون، والبؤس بدون عسكر يعرف مهمته جيدا قد يؤدي إلى إبادة البؤساء وغير البؤساء.
من الميدان إلى المؤسسات
لقد حققت الانتفاضات إلى حدود الساعة، رغم اختلاف مساراتها، نتائج هامة.فقد تأكد ل"برنارد لويس" وغيره من المستشرقين الجدد أن الشعوب العربية هي الأخرى تواقة إلى الحرية والكرامة والعدالة، وأن الاستبداد ليس قدرا محتوما بالمنطقة العربية والإسلامية. نقلت مختلف وسائل الإعلام المشاهد المؤثرة للشجاعة والتحدي والصمود، كما نقلت إبداع المحتجين في أشكال التنظيم والخطاب والتعبئة، ليغير ذلك بعض الشيء من الصورة البئيسة للعرب والمسلمين في المخيال الغربي. لكن مهما تحسنت الصورة لا ينبغي أن تخدع صاحبها، فوراء هذا الوجه الذي بدا جميلا أسقاما وأوهاما، قد يهرب بنعلي ولا تهرب، وقد يعتقل مبارك ولا تعتقل، وقد يقتل القذافي ولا تقتل، وقد يرحل صالح ولا ترحل. إن الناس هم ما تصنع بهم تربيتهم. والتربية ليست برامج فقط، وإنما هي حوافز عالية و بيئة صالحة وقدوة من الأعلى فالأعلى.
أهم ما حققته الانتفاضات بشكل عام هو إعادة الثقة إلى الشعوب، فقد اكتشف الناس أن المستبد ليس قوي بحرسه وأبراجه ومخابراته، وإنما قوي بخمولهم واستكانتهم، وأن الطاغية لا يملك من السلطة إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه. هذه الثقة في النفس هي التي جعلت التونسيون يحرسون ثورتهم، ويطيحون بحكومة محمد الغنوشي الأولى التي تشكلت بتاريخ 17 يناير 2011 و بحكومته الثانية التي تشكلت في 27 يناير 2011، وجعلت باقي الشعوب العربية، بعد أن رأت ما رأت في تونس، تخرج منتفضة لتحقق ما حققته. هذه الثقة في النفس بكل تأكيد سيكون لها ما بعدها. إن تراكم الثقة في النفس والاعتزاز بالذات يكتسي أهمية خاصة في حياة الشعوب والأمم، فكما كان لصمود غزة في وجه الاحتلال الإسرائيلي ولبسالة المقاومة اللبنانية تعزيز لهذه الثقة في النفس التي أنتجت هذه الثورات والانتفاضات، لا شك ستكرس هذه الأخيرة المزيد من الثقة في النفس، التي ستسهم دون شك في انتفاضات وانتصارات جديدة على خطي التغيير والتحرير معا. وكما أن هزة الزلزال تحدث أثارا مختلفة، ليس فقط بالنظر إلى حالة البنيان في موضع الارتجاج، وإنما أيضا بالنظر إلى قوة الاهتزاز والقرب من مركزه، فكذلك أمر انتفاضات 2011 في منطقتنا العربية، فقد حققت أثارا مختلفة في قيمتها وحجمها. فهناك انتفاضات أسقطت رؤوس الاستبداد وهي في طور إسقاط الأنظمة بكاملها وبناء أنظمة جديدة، وهناك انتفاضات على وشك تحقيق الخطوة الأولى التي هي إسقاط رأس الاستبداد، وهناك انتفاضات حققت إلى حدود الساعة بعض المكاسب السياسية أو الاجتماعية. لست هنا بصدد جرد أو تقييم ما تحقق وما لم يتحقق، بل قد يبدو من السابق لأوانه القيام بذلك، ولكن الغرض هنا الإشارة إلى نتائج أولية لا شك لها ما بعدها. أظن أن الحكام العرب بعد هذه الانتفاضات لن يفكروا في بعض الأشياء، وحتى إذا فكروا فيها لن يعلنوا ذلك بطريقة مهينة لشعوبهم. فمن أهم ما حققته هذه الانتفاضات عودة الحياة إلى السياسة بعد طول ممات، فقد تم الانتقال من الكلام الكثير عن السياسة دون ممارستها، إلى الفعل السياسي ذي الأثر الملموس بعيدا عن لغة الخشب. خرج الناس إلى الساحات العامة ليستعيدوا سيادتهم التي استحوذ عليها حكام مستبدون. ووعيا منهم بأنهم قد يحصلون على النظام بدون حرية، لكنهم لن يحصلوا على الحرية، التي هي أحد مطالبهم الأساسية، دون نظام، عادوا بسيادتهم من الميدان إلى المؤسسات. ففي 23 أكتوبر 2011 تم انتخاب المجلس الوطني التأسيسي بتونس، وتم تعديل مؤقت للدستور في مصر و أجريت انتخابات مجلس الشعب الذي من مهامه اختيار جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وهناك محاولات دؤوبة للتأسيس لمؤسسات ديمقراطية بليبيا واليمن. الانتقال من حكم الفرد أو القبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو محيط القصر أو الثكنة إلى حكم المؤسسات المدنية من أهم العلامات على عصرنة الحياة السياسية. هذا الانتقال لم يتم بالكامل في مجموع البلدان العربية التي عرفت انتفاضات. كما أن الاحتجاج لم يختفي من الميدان، وليس من المطلوب أن يختفي في مرحلة الانتقال. قد يكون من الأسلم اختفاء الاحتجاج المطالب بامتلاك السيادة في تونس ومصر وليبيا واليمن، أما الاحتجاج بخصوص كيفية ممارسة هذه السيادة وآثارها فهو مستمر، ولا ضير في ذلك مادام هناك حس مؤسساتي لدى المحتجين ولدى من يحتجون عليهم. الإفراط في الانسجام وفرضه دون وجود حد أدنى من الاختلاف، والإفراط في الاختلاف والمبالغة فيه دون وجود حد أدنى من الانسجام، كلاهما مرضان مدمران لا تقوم معهما أية حياة سياسية سليمة. والعمل المؤسساتي هو الرهان لاستيعاب التناقض وتحقيق الاختلاف الضروري في إطار من الانسجام الضروري.
طريق العودة من الميدان إلى المؤسسات قد تكون وعرة و بها منعرجات وعقبات، بل قد لا تسلم من قطاع الطرق، لكن لا خوف من ذلك متى ما توفرت الإرادة العازمة المصممة، ومتى ما كان الاتفاق المسبق بين كل شركاء التغيير على خارطة الطريق. تكون بداية المأسسة بالدستور والانتخابات، هذه الأخيرة بما هي وسيلة للتمثيل تجعل من امتلاك الشعب، كل الشعب، للسيادة أمرا ممكنا وواقعيا، والدستور بما هو وثيقة للتأسيس يضع المبادئ والقواعد التي تضمن ممارسة السيادة بالكيفية التي يرتضيها صاحبها الأصلي الذي هو الشعب. آليتان مرتبطتان، آلية للتمثيل وآلية للتأسيس، الدستور الديمقراطي لابد أن يضعه الشعب عن طريق ممثليه المنتخبين، والانتخابات الديمقراطية لابد أن تكون على أساس دستور ديمقراطي يضمن محورية الانتخابات في تشكيل المؤسسات. في مسألة السيادة يكون مضمون الدستور مرآة لطريقة وضعه، إذا كانت السيادة في وضع الدستور للشعب فإن المتن الدستوري سيجعل السيادة للشعب، و سينص بوضوح على المبادئ والقواعد التي تضمن ذلك، أما إذا كانت السيادة في وضع الدستور للعسكر أو لحاكم فرد أو لطغمة متغلبة، فإن النص الدستوري رغم كل ما يمكن أن يعرفه من تنميق وتمطيط لن يجعل من الشعب المالك الحقيقي للسيادة.
في تونس تم انتخاب المجلس التأسيسي الذي مهمته الأولى وضع الدستور، وفي مصر تم انتخاب مجلس الشعب الذي اختار جمعية لوضع الدستور.لقد عرفت الانتخابات في كلتا التجربتين مشاركة قوية و مستوى عال من النزاهة والشفافية، و شكلت بحق قطيعة مع الانتخابات الشكلية المزورة التي كانت تعرفها البلدان العربية. انشغل الناس كثيرا بفوز الإسلاميين في هذه الانتخابات، وكأن ذلك لم يكن منتظرا رغم حضورهم السياسي القوي ورغم تعطش الشعوب الإسلامية إلى وجوه جديدة ترمز إلى الصدق وتمثل هويتها في خطابها وبرامجها، وكان الحري في مثل هذه المرحلة التأسيسية الاهتمام أكثر بما ينبغي أن يشكل مبادئ تعاقدية بين كل الشركاء في الوطن، بغض النظر عن الاختلافات الإيديولوجية. قد يكون من السهل في مثل هذه الظروف التي عرفها العالم العربي مشاركة الشعب بكثافة في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، لكن هل من السهل تكرار ذلك؟
الهوامش:
1- هرب زين العابدين بنعلي من تونس في 14 يناير 2011، وتنحى حسني مبارك عن رئاسة مصر بتاريخ 11 فبراير 2011، وقتل الثوار الليبيون معمر القذافي في 20 أكتوبر 2011.
2 - شهدت مجموعة من المدن الغربية، بعد ثورتي تونس ومصر، انتفاضات حول قضايا مختلفة استلهمت بعض أشكال وشعارات الانتفاضات العربية.
3- حنة أرندث،في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، ص: 57.
4- حنة أرندت، نفس المرجع السابق، ص: 58.
5- عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، سلسلة دراسات وأوراق بحثية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص22.
6- Alexis de Tocqueville. ‘ Ancien régime et la révolution.1856.p:68.
7- على سبيل المثال لا الحصر فقد عرف كل من المغرب والجزائر وتونس مجموعة من الحركات الاحتجاجية خلال شهري ماي ويونيو 2008، ويكفي أن نعلم على سبيل المثال أن الجزائر عرفت وحدها 100.00 احتجاج خلال سنة 2010.
8- برهان غليون، 2011 عام القلاقل والتحولات، موقع الجزيرة نت، بتاريخ 3-1-2011.
9- يشكل الشباب الذي يقل عمره عن 25 سنة، حسب البلدان العربية، مابين 45 و55 في المائة من مجموع الساكنة.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
تدخل الثورة المصرية مرحلة حرجة فى تاريخها حيث إعادة بناء الدولة و هيكلة مؤسساتها. فالانتخابات البرلمانية تعد المولود الأول للثورة. ولا تقتصر اهميتها على هذا الحد فقط، بل أن الانتخابات ستكون مقياس حقيقي لمدى تغلغل ونجاح الثورة على عدة مستويات:
أولا: هيكلة العملية الانتخابية ومدى اتساقها مع تطلعات الثورة.
ثانيا: أنماط التفاعل بين الناخب والمرشح وتفاعلات القوى السياسية والاجتماعية المختلفة مع بعضها البعض.
ثالثا: تعكس العملية الانتخابية مستوى الممارسة السياسية ودرجات الوعي المختلفة التي ستفرز نوعية المرشح القادم.
وتأتي خطورة هذه الانتخابات لأنها تحمل في طياتها أفاق مستقبل البنية التشريعية في مصر. بل وستتحكم في مسار الحياة النيابية وطبيعتها والتي سيسفر عنها دستور البلاد القادم. ويترتب على هذا إعادة هيكلة الحياة السياسية ومستقبل العلاقات بين المؤسسات والسلطات المختلفة التي تتحكم في مقاليد الأمور. وستكون هذه الانتخابات محورا رئيسيا في القطيعة مع النظام القديم؛ حيث تتغير قنوات وآليات اللعبة السياسية واستراتيجيات السلطة وتعاملها في مصر. أو تكون الباب الرئيسي لإعادة إنتاج النظام القديم وإعادة بناء نفس البنية التشريعية والسياسية التي قادت إلي كارثة برلمان 2010 في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
تحاول هذه المقالة تحليل جانب كبير من العملية الانتخابية في محافظة الإسكندرية التي تتسم بوجود قوي لكثير من الفاعلين السياسين. حيث يوجد بها حضور شديد لجماعة الأخوان المسلمون والتيار السلفي الممثل حالياً في حزب النور بالإضافة لحفاظه على الدعوة السلفية التي تمتد جذورها في الإسكندرية منذ ثمانينات القرن الماضي وبزوغها في مطلع الألفية الحالية، هذا إلي جانب فاعلية القوى الثورية المختلفة التي تتمثل في خلايا متنوعة أثبتت حضورها بقوة في سباق المليونيات المختلفة بعد خلع الرئيس السابق مبارك التي غاب عنها كل الأخوان والسلف وبعض الأحزاب القديمة. فهي محافظة بها سباق وصراع سياسي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
تتناول المقالة بحث العملية الانتخابية من خلال منهجية مركبة حيث لا تنظر فقط للفاعلين السياسين وقدراتهم على الحشد والتعبئة، ولكنها تحاول التعمق في درجات الوعي لدى الناخب ومايقدم له من وعود سياسية ومدى تلاقيها مع الحلم الاجتماعي لدى قطاعات واسعة من الجماهير. لأن النظر في درجات الحلم الأجتماعي والتخيل السياسي ربما يعطي صورة أعمق عن إمكانية التغير الجذري في المجتمع. حيث يؤكد ماركوزة أحد رواد مدرسة فرانكفورت على أن تغير الواقع فقط لا يكفي. حيث أنه ما لم تتغير الأحلام في مخيلاتنا سرعان ما تحدث ردة ليست فقط للواقع الجديد ولكن للواقع الذي قد تم تغيره.
الوعي الجماهيري والعملية الانتخابية
شكلت مسألة الوعي الجماهيري ودورها في العملية الانتخابية مسار جدل كبير لدى الباحثين والسياسين. الأمر الذي دعى البعض لتسفيه الجماهير صراحة واتهامهم بالجهل. وذلك لأن العمليات الانتخابية السابقة المتمثلة في انتخابات 2005 و2010 كانت كارثية بكل المقايس. حيث أتسمت بشراء الأصوات والنزاعات التي وصلت إلي حد سفك الدماء ووصول سفهاء –على حد قول كثيرين- إلي أهم مؤسسة تشريعية في مصر.
إلا إن التعجل في مثل هذه الإتهامات به كثير من المغالطة والتعجرف على وعي قطاعات كثيرة من الناس. ومن هنا سأحاول تحليل بعض النقاط في العمليتين الانتخابيتن السابقتين التي قمت بتغيطتهم ومراقبتهم أيضاً.
وسؤال البحث المحوري هنا: ما هو الحلم الاجتماعي والوعد السياسي في العمليتين السابقتين؟
من متابعة كل منهما يمكن القول أن الحلم الأجتماعي تمحور بشكل رئيسي حول نقطتين. الأولى هى تأمين وظيفة عمل والثانية هى الخدمات العامة للمنطقة والتي من المفترض أن تقوم بها الدولة وليس مجلس الشعب بشكل عام.
فغياب دور الدولة في التوظيف والمحور الاقتصادي بشكل عام وتوحش سياسات الخصخصة بالأخص قام بتحويل جذري في العملية الانتخابية حيث تمحور حلم قطاعات واسعة من المجتمع من الطبقات المعدمة وغير المعدمة حول تأمين وظيفة عمل. فالأهالي –من مختلف الطبقات- التي تحملت معاناة كبيرة في تعليم الأبناء أصبحت أمام عبء آخر أكثر ثقلاً من العملية التعليمية ذاتها وهو توظيف هذه الأعداد المهولة من الخرجين. ولقد تخلت الدولة عن هذا الدور تقريبًا بالكلية مع اكتمال مشروع الخصخصة وتبني السياسات النيوليبرالية مع حلول الألفية. وصارت عملية التوظيف في يد رجال الأعمال إما بشكل مباشر عن طريق التعيين فيما يملكون من مؤسسات وشركات اقتصادية أو من خلال الوساطة في شركات أجنبية ومؤسسات دولية تربطهم بها شبكة علاقات واسعة من المصالح الاقتصادية والاجتماعية. ولقد ضم الحزب الوطني أغلب رجال الأعمال في مصر. أضف إلي هذا هيمنته الكاملة على النظام العام حيث كان يمثل النظام السياسي والاقتصادي والدولة معًا.
ومن هنا نستطيع فهم شيئين. أولا،ً حرص مرشحي الوطني من رجال الأعمال للوصول إلي البرلمان لضمان أستمرار مصالحهم الاقتصادية من خلال احتلال البنية التشرعية في الدولة. ثانيًا، نجاح أغلب هؤلاء المرشحين ودعمهم من قطاعات جماهيرية واسعة. فلقد تم اختزال الجانب الاقتصادي في رجال الأعمال وتم اختزال الدولة في الحزب الوطني. فهذا التماهي بين النظام السياسي والدولة والحزب الوطني جعلنا أمام الدولة متجسدة في كيان واحد من بداخلها يحظى ببعض ما يمكن أن تقدمه له الدولة من خدمات ومن خارجها فهو خارج العملية بالكلية وعليه البحث في منافذ أخرى لا علاقة لها بالدولة. ومن هنا حدث تزاوج بين الحلم الاجتماعي والوعد السياسي. والحقيقية أن الوعود المقدمة من مرشحي الحزب الوطني المنحل لم تكن تمثل وعود مرشحين سياسين على الأطلاق. بل كانت وعود دولة. ومن هنا نستطيع أيضًا فهم صعوبة منافسة أحزاب أخرى للحزب الوطني باستثناء الأخوان المسلمون، لعدة أسباب.
أولاً: تغلغلهم داخل البينة الاجتماعية وتواجدهم الدائم مع الجماهير من خلال مؤسساتهم الممتدة من التعليم إلي الصحة وبساطة الأفكار وقدرتهم على فهم الواقع اليومي المعاش للجماهير.
ثانيًا: خطابهم الممزوج بين الديني والخدمي.
ثالثًا: شبكة المصالح الاقتصادية القادرة على منح خدمات للمواطن بشكل يومي.
رابعًا، قدرتهم على الوفاء بالوعد السياسي إلي الجماهير.
خامسًا: ثقة قطاعات واسعة من الجماهير في هذه الخدمات؛ حيث لا تنقطع بعد الانتخابات ولا ترتبط بالمكسب أو الخسارة السياسية. فمثلاً المؤسسات الطبية المختلفة المتواجدة في الإسكندرية التابعة للإخوان المسلمين لا تتوقف عن تقديم خدماتها بل تتسم في كثير من الأحيان بالجودة.
سادساً، تشابه بنية تنظيم الجماعة ومحاكته لفكرة وتنظيم الدولة وتملكهم لبنية تحتية موازية. وبهذا تستطيع الجماعة مناورة الحزب الوطني حيث لا يتفاعل كلاهما كأحزاب أو حركات ولكن كدول مع فارق الأمكانيات والقدرات وتفوق كل منهم على الآخر في مواقع مختلفة.
وبهذا يتضح أن وعي الناخب أكثر عمقًا وتركيبًا من وعي السياسين وكثير من الباحثين. فهو يعلم علم اليقين أن الانتخابات لا علاقة لها بالتشريع وأن الحزب الوطني يكسبها إما عن طريق تمثيل دور الدولة أو من خلال التزوير. وبالتالي كان يحاول الناخب الخروج بأكبر المكاسب الممكنة. ولذلك كان نجاح كثير من أعضاء الحزب الوطني في الإسكندرية مثل طارق طلعت مصطفى صاحب شركات المقاولات ورجل الأعمال الشهير ومحمد مصليحي مسألة شبه مضمونة على الرغم من الشوائب والفساد الذي يمكن أن يتهمهم به الكثيرون. أضف إلي حرص الأثنين تحديدًا على تقديم خدمات عامة في كثير من الأوقات وتوظيف الكثيرين في شركاتهم الخاصة. فمثلاً مصيحلي لديه أكثر من توكيل ملاحي وهو متوغل داخل عمليات الأستيراد والتصدير وهما مدخل رزق لكثيرين في مدينة ساحلية بها أكبر ميناء بمصر. أضف إلي سيطرته على نادي الاتحاد السكندري وهو النادي الرئيسي في المحافظة وذو جماهيرية واسعة. وفي حقيقية الأمر أنه قدم الكثير من الخدمات وقام بتطوير نسبي في فترته للنادي. وهو ما كان يدفع الكثير من مشجعي النادي لدعمه مع الأخذ في الأعتبار أن النادي يقع جغرافيًا في دائرته الانتخابية. وكذلك بالنسبة لطارق طلعت مصطفى، حيث تمتد مشاريع عائلته وشركاتهم بطول وعرض كورنيش الإسكندرية. وبالتالي أنحسرت العملية الانتخابية في هذا النطاق الممتد بين الحلم الأجتماعي والوعد السياسي.
ماذا عن الحلم الاجتماعي والوعد السياسي بعد الثورة؟
يعد قياس هذا الأمر مسألة صعبة في ظل التمخض الدائم للوضع العام في مصر والذي لم يسفر عن شيء حقيقي حتى الآن. حيث مازالت العملية الثورية في تفاعل مستمر. إلا أنه يمكن تلمس بضعة أمور حول موضوع البحث وتفاعله مع درجات وعي الجماهير.
فانتخابات 2012 التي وصفها الكثيرون ببرلمان الثورة تعكس تغيرات مهمة ولكنها ليست جذرية. وهى ليست جذرية لأنها لم تعكس أي تغير حقيقي في أنماط التفاعل السياسي ولا في الوعود السياسية ولا حتى في الحلم الأجتماعي العام كما سأوضح في هذا الجزء من البحث. وبالتالي نعت هذا البرلمان ببرلمان الثورة يعد مقولة معلبة وكليشيه كبيرة وغير منضبطة من الناحية الأكاديمية. إنما تعد هذه الانتخابات إستكمالاً لفراغ الحزب الوطني وتواصلاً مع البنية القديمة.
فالملاحظات العامة التي أوردها كثير من المتابعين والمراسلين –وكما رأينا على الهواء مباشرة- أن العملية تمت دون نزاعات دموية ودون تزوير ودون أنتهاكات يمكن أن تفضي ببطلان العملية الانتخابية. لا شك أن هذا كله يعد أمرًا إيجابيًا للغاية على الرغم من وجود بعض الانتهاكات التي تتمثل أغلبها في الدعاية يوم الأقتراع من قبل مرشحي وأنصار التيار الأسلامي بشكل عام وبعض المناوشات والمشادات بينهم وبين بعض النشطاء السياسين. واللافت للانتباه هو غياب أي عملية من عمليات البلطجة التي أتسمت بهما انتخابات 2005 و2010. وهو ما ينم عن أن هذه العمليات ممنهجة وليست عشوائية وأنها أيضاً مرتبطة إرتباط وثيق برغبة السلطة الحاكمة لا بقدرتها. مما يعني وجود تنسيق بينها وبين بعض المؤسسات الأمنية مثل الشرطة وجهاز أمن الدولة المنحل التي أوردت كثير من التقارير علاقتهم وتجنيدهم للبلطجية. أي أن الأمر متعلق ببساطة برغبة السلطة المتحكمة في مثل هذه المؤسسات.
وعلق الكثيرون بفرحة عارمة عن نسبة المشاركة في الانتخابات. مما دفعهم بتحليل هذا الأمر على إن الجماهير صارت أكثر إيجابية وفاعلية وأنها بدأت تمسك بزمام الأمور وأنها تطلع لبناء مستقبل مصر فيما بعد الثورة. إلا أن هذا الأمر ربما لا يكون بمثل هذه الدقة. حيث انخفضت نسبة المشاركة في جولة الإعادة بشكل كبير. بالأخص بعد تصريحات بعض المسئولين عن عدم تحقيق الغرامة الأنتخابية التي كانت 500 جنيه مصري عن تغيب الفرد عن الإدلاء بصوته.
جاءت نتائج الانتخابات في الإسكندرية بتفوق حزب العدالة والحرية الممثل لجماعة الأخوان المسلمون ثم يتبعه حزب النور الممثل للدعوة السلفية ثم نسب ضئيلة من الكتلة المصرية وقائمة الثورة مستمرة التي سمحت بها العملية الانتخابية من خلال القوائم النسبية. ويلاحظ التفوق الملحوظ للحرية والعدالة في منافسات المستقلين. حيث تفوقت على الجميع وبالأخص مرشحي حزب النور باستثناء دائرة العجمي والعامرية التي تعد بعيدة عن مركز المدينة. وهذا يعكس تفوق الأخوان في مراكز المدينة في مقابل هوامشها. ويرجع هذا للفارق في البينة التنظيمية لكل منهما. فجماعة الأخوان إذا تواجدت في مكان ما تتواجد بشكل الجماعة والتنظيم المحكم. أما السلفية فبامكانها التواجد من خلال أفراد وأفكار وتشكيلات خفيفية لا تستتبع وجود تنظيم محكم في منطقة جغرافية معينة. فبعض شيوخ السلفية لهم تواجد ومكانة أجتماعية فريدة من نوعها في تلك المنطقة. هذا بالإضافة لبعض التفاصيل الاستراتيجية في هذه الدائرة بالتحديد حيث كان نهج السلفين أكثر إستيعاباً للقبلية الموجودة في تلك المنطقة وتواصلهم مع كبائر القبائل وإرضائهم من خلال الإقناع والتواصل السياسي بدلاً من المنافسة وفرض أمر المرشحين عليهم. ومن الملاحظ أيضًا خسارة الشباب في مواقع كثيرة في منافسات المستقلين. وكان من المبهر هزيمة جميع فلول الحزب الوطني. حيث لم يتمكن واحد منهم لا من خلال القوائم أو منافسات المستقلين من الوصول إلي البرلمان.
وسأقوم يتحليل هذه النتائج وتقديم تفسير لها من خلال المنهجية التي طرحتها في أول البحث.
فخسارة الفلول بهذا الشكل العنيف وتفوق التيار الأسلامي لا يعد إنقلابًا جذريًا في جوهر العملية الانتخابية وإنما ملأً لفراغ البنية القديمة بنفس ثنائيتها إما الفلول وإما الإسلاميين.
فأولاً: لم يترشح أي من المرشحين الأقوياء لدى الحزب الوطني باستثناء طارق طلعت مصطفى الذي خاض معركة شرسة مع الخضيري مرشح الأخوان المسلمون. حيث تفوق عليه الخضيري في الإعادة بفارق تسعة الآف صوت. مما يعني التقارب الشديد. ولقد كانت النتائج والاستطلاعات الأولية تؤشر بتفوق نسبي لصالح طارق طلعت مصطفى. وهذا ينم عن أن قطاعات كبيرة لم تتغير لديها التوجهات الرئيسية الحاكمة للعملية الانتخابية. أضف إلي النهج المتأسلم الذي يتبعه طارق طلعت مصطفي جعله لا يختلف كثيرًا من الناحية العاطفية ولا التشريعية عند الكثيرين. فالجانب التشريعي في هذه العملية الانتخابية تمثل لدى قطاعات كبيرة في الحفاظ على المادة الثانية من الدستور. وعلى الرغم من أن الجدل حول هذه المادة يبدو مصطنعا؛ حيث أن الجميع بما فيهم مرشحي الكتلة المصرية أكدوا عدم المساس بها، إلا أنه كان مؤثرا إلي درجة كبيرة في حشد وتعبئة كتل جماهيرية كبيرة للتصويت للإسلاميين.
ثانيًا، لقد شنت القوى الثورية والإسلامية بشكل عام هجومًا شرسًا على بقايا الحزب الوطني في الإسكندرية وصلت إلي حد حملات تمزيق للوح وملصقات طارق طلعت مصطفى من قبل بعض الحركات الثورية.
ثالثًا: وتعد هذه هي النقطة الأهم، غياب دور الدولة في مساندة فصيل على الآخر وتفكك الحزب الوطني. فالدولة غائبة حتى الآن ثم أن الحزب هو إيضًا غير موجود والفلول يشن عليهم حرب ضروس، ولا يوجد مرشحون أقوياء من الحزب، ومن هنا أدرك الناخب عدة عناصر. أولاً: القوى الإسلامية ستحافظ على هوية الدولة من خلال التشريعات القانونية والدستورية –الهاجس الأكبر منذ خلع مبارك. ثانيًا: قدمت هذه القوى الإسلامية خطابا ثلاثي الأبعاد قادر على مخاطبة الحلم الاجتماعي لدي الناخبين المتمثل في 1- الخدمات 2- الوعد بتوفير وظائف 3- الأمن وهو أصبح حاجة ملحة مؤخرًا بالأخص مع التضخيم الإعلامي لتلك الأزمة. ولقد تم اختبار هذه القوى في تلبية حلمين على الأقل من الثلاثة. ففي أثناء أيام الموجة الأولى من الثورة قام السلفيون والأخوان المسلمون بدور بارز في تأمين الأحياء المتجذرين بها وبعض المنشئات. وقاموا أيضًا بتوفير السلع وضبط أسعار اللحوم والخضروات في المدينة عن طريق شبكة علاقاتهم الممتدة بالريف والمناطق الزراعية القريبة من الإسكندرية. وقاموا بمواجهة محاولات بعض التجار من استغلال الموقف بشكل دعم ورسخ من وجودهم الاجتماعي.
ولقد كانت هناك عدة أسباب أخرى أدت إلي تفوق التيار الإسلامي الإصلاحي على بعض القوى الثورية المتمثلة في قائمة الثورة مستمرة وبعض المستقلين. يعد تردد القوى الثورية من خوض الانتخابات من عدمها أول وأهم العوامل. حيث دار نقاش موسع بين كثير من القوى الشبابية تحديداً حول جدوى خوض الانتخابات ورأى البعض أن هذه المعركة ليست معركتهم الآن وأن الإنخراط في العمل السياسي سيؤثر كثيرًا على دورهم الثوري وأن المعركة الثورية لم تستكمل بعد وأن الانتخابات بمثابة استنزاف لقواهم الثورية، بالإضافة إلي عدم إستعدادهم من الناحية الاستراتيجية لخوض هذه المعركة وما تطلبه من أدوات ورأس مال ضخم لا تملكه أغلب القوى الثورية. ورأى البعض الآخر أهمية وجود القوى الثورية في البرلمان لتمثيل تطلعات الثورة وأنه على الرغم من غياب رأس المال فالشارع سيدعم الشباب والثورة في مواجهة القوى القديمة. إلا أن بعض الذين أعلنوا نيتهم لترشح مثل حسن مصطفى ومحمد صفوان وهما من أبرز النشطاء السياسين في الإسكندرية لم يقوموا بالإعداد الازم لهذه المعركة. ولقد أنغمست أغلب القوى الثورية في فعاليات وتحركات جماهيرية وميدانية ثورية استنزفت كل قواها السياسية الازمة لخوض المعركة الانتخابية بالأخص أحداث محمد محمود في التحرير ومديرية الأمن في الإسكندرية. ولم يقم المرشحون الثوريون بالتخطيط الاستراتيجي المطلوب من دعاية وتواصل جماهيري والانخراط الازم في دوائرهم بوضع برامج وأفكار واضحة. حتى أنه يمكننا القول أن الوعد والحلم السياسي لدى هذه القوى الثورية لم يكن بالوضوح الكافي الذي يدفع الناخب لترك مرشح الحرية والعدالة أو النور اللذين تم إختبارهم في متطلبات الحياة اليومية العادية لحلم يدعوا لآفاق التغير الثوري الراديكالي في المستقبل.
ومن هنا فشل الثوار في تصوير حلمهم الثوري للناخب، ونجح الإسلاميون في تصوير حلمهم الإصلاحي من خلال التواصل والتأكيد على قدراتهم في تنفيذه. حتى ملصقات حزبي النور والعدالة والحرية تمكنت من إيصال الوعد في المقابل لم يكن هناك ملصق ثوري معبر عن حلم ما يوعد به في المستقبل. وإذا قمنا بتحليل الصورتين الأبرز وهما صورة حزب الحرية والعدالة المتمثلة في طفل نظيف يبدو عليه الرخاء والإشراق وهو جالس داخل مدرسة حديثة على طاولة مجهزة وفي فصل فسيح وصورة قائمة الثورة مستمرة التي اتسمت بلون غامق وفي الخلفية جماهير ثائرة، سنجد أن الثوار لم يستوعبوا الفارق بين الثورة والسياسة. فالثورة تعنى بمفردات المعركة والنضال والتضحية والاشتباك. أما السياسة فهى تعنى بالوعود التي تفرضها معطيات القوة والقدرة على التنفيذ المباشر وتتزامن مع الاحتياجات العامة للمواطن. أضف إلي أن مفردات الخطاب بين الفريق الثوري والإسلامي كانت عاملاً مهما في الوصول إلي مداعبة الحلم الاجتماعي. ففي الوقت الذي أصيب فيه الكثيرين بهوس الأمن والإستقرار تخاطبهم القوى الثورية في معركتها الانتخابية عن ضرورة إستكمال الكفاح الثوري. ومن هنا لعب كل من الخطاب والصورة على أوتار مختلفة لدى الناخب جعل كثيرين أقرب إلي القوى المختبرة سابقاً في مفردات السياسية وجعل دعمهم للشباب في ميدان المعركة الثورية الذي تم إختبارهم فيه ونجحوا. وأتذكر تعليق أحد الناخبين لي على الأحداث قائلاً أن الثوار أثبتوا أنهم الأجدر في ميدان المعركة الثورية لا المعركة السياسية. ويجب التأكيد على أن أحد أهم الفوارق بين حزبي النور والحرية والعدالة والقوى الثورية في المعركة الانتخابية في الإسكندرية هى غياب العمل الممنهج والدءوب والمعد إستراتيجيًا بشكل جيد عند الأخير في العملية الانتخابية.
في الأخير يتضح أن العملية الانتخابية لم تتغير تغيرًا جذريًا. حيث أوضحت المقالة عدم تغير الحلم الإجتماعي ولا حتى تغير الوعد السياسي المقدم للجماهير. ولم يقم أحد من خلال العملية الانتخابية بمحاولة تغير الحلم الاجتماعي. ولم تتغير قنوات وأنماط التفاعل السياسي بين الناخبين والمرشحين. ولقد ظلت نفس استرتيجيات وأدوات الحشد والتعبئة باستثناء شراء الأصوات –إلا فيما ندر- هى المهيمنة على العملية الانتخابية.
إلا أن النموذج القائم عليه البحث ربما يكون به خلل كبير في التفسير من مدخل واحد وهو تجربة محمد صفوان في دائرة المنتزة. فلقد قامت حملت صفوان بشكل حقيقي قبل عملية الاقتراع بأسبوع ونصف فقط. إلا أنه في هذا الوقت الوجيز تمكن حشد الكثير من الأصوات في صالحه. علماً بأن هذه الدائرة ربما تعد الأصعب في الإسكندرية لعدة أسباب. أولا ضخامة الدائرة من الناحية الجغرافية والتعداد السكاني. ثانيا: التنوع والأختلاف الشديدين في نوعية السكان وتطلعاتهم وأشواقهم واحتياجتهم؛ فهي تضم مناطق ريفية وعزب على أطرافها وتضم عشوائيات في عمقها وتختلف بها الطبقات والشرائح الوظيفية ومعدلات الدخول والأوضاع الاجتماعية. ومع ذلك فبالتواصل والتخطيط مع مجموعات مثل السادس من إبريل والحملة الشعبية لدعم البرادعي والكثير من المستقلين تمكن من إثبات قدرته على المنافسة ضد مرشحي النور والحرية والعدالة. وهنا يجب التساؤل عما يمكن أن تكون عليه النتائج في حال التخطيط والتحضير الجيد من قبل صفوان؟
ومن هنا فإن الإشكالية الرئيسية التي يتمحور حولها فشل الثوريين في الوصول للبرلمان في الإسكندرية هى قدرتهم على التعاطي وتغير الحلم السياسي والتقصير في التخطيط والإعداد. وهو أيضًا ما يعكس عجز الثورة بشكل عام من التجذر العميق في المجتمع من خلال أنماط وممارسات أخرى غير العمل الثوري المباشر الذي يتعارض أحيانًا كثيرة وإيقاع الحياة اليومية للمواطن.
* باحث وناشط مصري.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأيموقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها