الافتتاحية: النشر في زمن الثورة
(شهادة ناشر وكاتب ورئيس تحرير)
النشر انعكاسٌ لما يعتمل في فئات المجتمع المختلفة من غضبٍ وتبرّمٍ وإحباطٍ ولامبالاةٍ وغير ذلك. لكنّه أيضاً، بل أساساً، فعلٌ، ودوْرٌ، ورسالة. أعرفُ أنّ الكلمات الأخيرة ستنفّر كثيرين لكونها ديموديه وآوتدايْتد وغير كووول (متقادمة وبالية ومتشنّجة) في عصر الحداثة والعولمة. لكنّ هذا هو أساسُ ما يحفّز الناشرين الملتزمين العربَ على "الاستثمار" في هذه المهنة التي توشك على الانقراض، ويوشكُ أصحابُها على أن يتحوّلوا إلى ديناصورات.
***
أستطيع أن أزعم أنّ أكثر الكتب التي تفاعلتْ مع الانتفاضات العربيّة منذ العام 2011 تنقسم في قسمين كبيرين: قسمٍ يعبّر عن حماسٍ مفرطٍ لها، وآخرَ يعبّر عن إحباطٍ مفرطٍ إزاءها. القسمُ الأول اتّخذ شكلَ اليوميّاتِ، أو المقالاتِ المجموعة، التي كُتبتْ يوماً بيوم، وأحياناً من قلب الحدث نفسه (ميدان التحرير، ساحات التظاهر في دمشق، الخ...). والقسمُ الثاني كتبه، في العادة، روائيّون يساريّو الجذور، توجّسوا شرّاً منذ بداية الانتفاضات لأنها لم تتطابقْ والصورةَ "النموذجيّةَ" التي رسموها للثورات (علمانيّة، تقدميّة، بقيادة تنظيمات جذريّة، ذات مشاركة نسائيّة كبيرة، الخ...).
***
بعد حلولِ ما يسمّى "الربيع العربيّ" تضاعفتْ في رأيي مسؤوليّةُ الناشر الملتزم. لم يعد جائزاً، مثلاً، أن يتساهل مع سخافات الاستشراق في صوره العنصريّة، المترجمة والعربيّة على حدّ سواء (ملاحظة عابرة: جالدو الذات من العرب لا يقلّون عنصريّةً تجاه العرب عن كارهي العرب من الأجانب!)؛ وأعني: السخافات التي تتحدّث عن موت العقل العربيّ، وكسلِ الشعبِ العربيّ و"نعجيّته"، وتراخي الهِمم العربيّة، واستكانةِ العرب للقدر. فالشعب العربيّ في كلّ مكانٍ أثبت، لمن كان ما يزال في حاجةٍ إلى إثبات، أنه من أقدر الشعوب على الثورة والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل حريّته وكرامته.
لكنْ، في المقابل، لم يعد جائزاً أيضاً أن يتساهل الناشرُ الملتزمُ مع تفاهة التفاؤل المفرط بالثورات، كيفما كانت، ومهما كان برنامجُها (أو "لابرنامجُها")، وأيًّا كان داعموها ومموّلوها ومخطّطوها وقادتُها وتركيبتُها الاجتماعيّةُ والطبقيّةُ والطائفيّةُ والمذهبيّة. نعم، كان جائزاً، أو مفهوماً، في البداية فقط، أن ننجرف وراء التفاؤل الكبير بالتغيير الذي أحدثته الهبّاتُ العربيّةُ الجديدةُ بعد عقودٍ من الظلم والاستبداد والتخاذل الوطنيّ والقوميّ في وجه عدوّنا "إسرائيل"؛ لكنّ مواصلة ذلك الانجراف، من دون تحكيم أدوات التاريخ والعقل والتجربة، باتت خيانةً فعليّةً في حقّ البشر والنشر!
إنّ الدوْر الذي يمكن أن يلعبه النشرُ العربيُّ بعد الانتفاضات العربيّة بات أعظمَ وأخطر بما لا يقاس. ذلك لأنّ ما يسمّى "الربيعَ العربيّ" قد تكشّف عن أخطارٍ جسيمةٍ ترافقتْ مع تلك الانتفاضات، بل لعلّها كمنتْ فيها منذ البداية: في ضعف التنظيم، والاستخفافِ بدوْر الأحزاب الثوريّة، والاستهزاءِ بأهمّيّة الوعي والتثقيف، والتساهلِ في قضايا المرأة والديمقراطيّة وحقوقِ الناس وتأجيلِها إلى ما بعد نجاح "الثورة" (وكأنّ الثورة "تنحج" فعلاً إنْ هي أُجّلتْ هذه القضايا، أو كأنّ الديكتاتور "الموقّت" قد يصبح ديمقراطياً فيما بعد!). ولكنّ هناك أخطاراً أخرى نبتتْ في سياق هذه الانتفاضات أيضاً: بدءاً بازدياد تدخّلِ الأدوار الخليجيّة والغربيّة فيها، مروراً ببروز السلاح في يد بعض المعارضات، وانتهاءً بتطيّف جزءٍ منها وتمذهبِه وولائه المكشوفِ للخارج. وأزعم أنّ على النشر العربيّ اليوم دوراً رئيساً مزدوجاً، هو دورُ الرؤية النقديّة الفاحصة: فلا يروّجُ للأحلام الورديّة الخلّبيّة التي تُخفي الأطماعَ الغربيّة ـ الخليجيّة الخبيثة تحت ذريعة السخرية من "نظريّة المؤامرة الغربيّة"، ولكنّه لا يروّجُ كذلك لهذه النظريّة بهدفٍ خفيٍّ (أو معلنٍ) هو الحفاظُ على الاستبداد "الوطنيّ والقوميّ" حراً طليقاً.
***
يبقى أخيراً أنّ على النشر العربيّ الملتزم أن يقوم بثورته الخاصّة في خضمّ الانتفاضات العربيّة. ولا أعني الثورة على مستوى تجديد الطباعة والإخراج والرسم والعرض فحسب؛ فهذه مجالاتٌ لم يقصّر النشرُ العربيُّ، واللبنانيُّ بشكل خاصّ، في أيّ منها. بل أعني الثورةَ في المستويات الآتية:
1ـ ثورة في الانفتاح على آدابٍ عالميّةٍ قصّرنا كثيراً في التعرّف إليها ونقلها إلى العربيّة. فالعالم لا يمكن اختزالُه في بعض الأدب من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان مثلاً.
2- ثورة في نشر أدبِ أطفالٍ جديدٍ: بعيدٍ عن الوعظ، والتلقين، واستغباءِ الأطفال، والتقعّرِ في اللغة.
3- ثورة في التوزيع. وقد يساعد على ذلك أن تعمد بعضُ دُور النشر المتشابهة في الخطّ السياسيّ والفكريّ العامّ إلى الاندماج لكي تستطيع أن تحسّن أداءها في الوصول إلى أقصى أقاصي الوطن العربيّ الكبير، ولاسيّما في مواجهة زحف النشر المعولم إلى أقطارنا ومحاولته استقطابَ كتّابنا و"شرائهم".
4 – ثورة في التقنيّات. فالحق أنّ النشر العالميّ يتجه حثيثاً إلى الكتاب الإلكترونيّ (الإي بوك)، ولا مهْربَ بعد اليوم من أن تسعى دُورُ النشر العربيّة إلى ولوج هذا الميدان.
***
الثورة العربيّة مشروعٌ كاملٌ، ومشروعٌ متكامل. قد يبدو هذا شعاراً من شعارات الستينيّات، ولكنْ لا ضيْر في ذلك! فالثورة العربيّة مشروعٌ كاملٌ لأنها ليست إسقاطاً لرئيسٍ فحسب، ولا لنظامٍ سياسيّ فقط، خصوصاً إذا كان ثمنُ هذا وذاك تدخّلاً أجنبياً أو هيمنةً رجعيّةً فاشيّةً بمعونة الغرب وتخطيطه. وهي مشروعٌ متكاملٌ بمعنى أنّ عليها، لكي تنجحَ فعلاً، أن تتضافر مع أشكالٍ متعدّدةٍ من الثورة: في الاقتصاد، واللغة، والتربية، والإعلام، والكتابة... والنشر أيضاً.
سماح إدريس
المصدر: مجلة الآداب، خريف 2012.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
سيداتي سادتي
باسم مشروع دراسات الديمقراطية في الوطن العربي ارحب بكم في مؤتمرنا السنوي هذا. لقد درج المشروع منذ مباشرة نشاطه في صيف عام 1991 على إعداد ورش عمل وأيام دراسية لمناقشة قضايات العمل والفكر الديمقراطي في البلدان العربية وحرص المشروع على إشراك أعداد من المعنيين والمعنيات بالشأن الديمقراطي ممن ينتمون إلى التيارات التي لعبت ولا تزال تلعب دوراً مؤثراً في بلورة الفكر والثقافة السياسية العربية خاصة التيارات الدينية الإسلامية والقومية والليبرالية والاشتراكية، وكان الدافع إلى اعتماد هذا النهج السببان الآتيان:
أولاً: الاقتناع بأن الحوار هو وسيلة سليمة من وسائل إجلاء الحقائق وبلورة الأفكار والآراء.
ثانياً: الاقتناع بأن الحوار بين أهل الفكر والرأي يساهم في التقريب بين هؤلاء وفي التخفيف من حدة الصراعات التي تسود المجتمعات العربية.
ويسير المؤتمر الذي نعقده اليوم على هذا النهج، ولكن مع تعديل جزئي، إذ انه بدلا من طرح قضية معينة من قضايا الديمقراطية وتناول مواقف الحركات والأحزاب منها فإنه يتناول مواقف الحركات الإسلامية ومخاوفها من الديمقراطية، وبالعكس، وذلك سعياً وراء فهم العلاقة بين الطرفين من زواياها المتعددة، وهذا ما نعتزم تكراره في المستقبل إذ نأمل عقد مؤتمرات حول مخاوف ومواقف كل من الحركات والأحزاب القومية والليبرالية والاشتراكية في البلاد العربية من الديمقراطية وبالعكس، بحيث تتضح بصورة أجل وأدق للمعنيين بمستقبل الحياة السياسية في منطقتنا مواقف التيارات الفكرية المؤثرة فيها تجاه الديمقراطية.
ولقد سعينا منذ البداية إلى توثيق المؤتمرات وورش العمل التي نظمناها وذلك بغية إصدار نتائجها في كتب يسهل تداولها على الصعيد الأهلي، ولعلكم اطلعتم آنفا أو قبل دخولكم الى القاعة على أول إصدار لنا على هذا الصعيد إلا وهو كتاب " حوار من أجل الديمقراطية " الذي حرره أخي وزميلي الدكتور علي خليفة الكواري والذي يضم عدداً من الدراسات والتقارير التي قدمت في مناسبات سابقة. كما أننا حرصنا على نشر تقارير عن نشاطنا في مطبوعة "المستقبل العربي" الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وفي غيرها من الدوريات والصحف والمجلات العربية والأجنبية.
أن هذه المؤتمرات وورش العمل والأيام الدراسية تشكل جزءاً من نشاطنا وعملنا ولكن الجزء الأكبر سوف يكون موجها نحو إنجاز مشروع دراسي موضوعه استشراف مستقبل الديمقراطية في البلدان العربية وذلك ابتداء بالوقوف على الخلفية التاريخية للتطور السياسي والديمقراطي في بلادنا، ومروراً بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والجيوستراتيجية الراهنة وبتحديد العقبات والصعوبات التي عرقلت وتعرقل التطور الديمقراطية عندنا وصولاً إلى استنتاجات متعلقة بأفضل الطرق والوسائل لدعم المسار الديمقراطي في المنطقة العربية، ويعمل المشروع حالياً على تكوين فرق عمل في سبعة بلدان عربية لهذا الغرض وفق منهج دراسي واحد.
سيداتي سادتي
كان من المفروض أن يكون معنا في هذا المؤتمر الأستاذ زياد بهاء الدين لكي يقدم ورقته حول مخاوف وتحفظات من مشاركة التيار الإسلامي في التنافس الديمقراطي ولكن الأستاذ زياد بهاء الدين أصيب بفاجعة كبيرة وهي في وفاة والده الكاتب العربي الكبير الأستاذ احمد بهاء الدين والحقيقة أن وفاة الأستاذ احمد بهاء الدين الذي ناضل من اجل الديمقراطية والحريات العامة ومن اجل توفير ظروف ولادة النظم الديمقراطية في بلادنا هو مصاب يؤلم كافة العرب المعنيين بالشأن الديمقراطي. كذلك كان من المفروض أن يكون معنا، كما كان معنا دوما الصديق والزميل الدكتور برهان غليون، ولكنه هو الآخر فجع بوفاة والده، فإلى الصديقين العزيزين أصدق التعازي آملين أن يكونا معنا في المرات المقبلة.
قبل الانتقال إلى مباشرة أعمال المؤتمر أود أن اقدم شكر المشروع الجزيل إلى كل من ساعدنا في تهيئة هذا المؤتمر وفي مقدمتهم السيدة ضياء طيارة والأب شفيق أبو زيد وإدارة كلية سانت كاترينز ومركز الدراسات اللبنانية ومؤسسة أكسفورد لدراسات الطاقة والسيدة لافينيا براندون.
الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها.
كان موضوع اللقاء السنوي السادس لمشروع دراسات الديمقراطية هو "الحركات الإسلامية والديمقراطية: المواقف والمخاوف المتبادلة".
وقد انعقد اللقاء في كلية سانت كاثرينز، جامعة أكسفورد، أكسفورد في 31 أغسطس 1996.
موضوع اللقاء السنوي الخامس هو "التجارب البرلمانية في البلاد العربية". وقد انعقد اللقاء في كلية سانت كاثرينز، جامعة أكسفورد، في 12 أغسطس 1995.
تناول اللقاء الرابع لمشروع دراسات الديمقراطية موضوع: "العوامل الخارجية والتحول الديمقراطي في البلدان العربية".
وقد عقد اللقاء بالإشتراك مع مركز دراسات الشرق المعاصر بجامعة السربون الجديدة، وذلك في كلية أوريول، جامعة أكسفورد (12 سبمتبر 1994).
عقد اللقاء السنوي الثالث لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية في كلية سانت آنز بجامعة أكسفورد بتاريخ 7 أغسطس 1993 وتناول موضوع: "الانتقال إلى التعددية السياسية". وقد حضر اللقاء عدد من المفكرين والباحثين المهتمين بقضايا الديمقراطية في الدول العربية.
بحث قدمه د. رغيد كاظم الصلح في اللقاء السنوي الثالث، تحت عنوان: الانتقال إلى التعددية السياسية، وقد عقد اللقاء في كلية سانت آنز بجامعة أكسفورد بتاريخ 7 أغسطس 1993.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما تعبر عن رأي أصحابها
كان موضوع اللقاء السنوي الثاني لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية هو: "مشكلات الديمقراطية في العالم العربي"، وقد انعقد اللقاء، الذي حضره عدد من الباحثين والكتاب والمهتمين بقضايا الديمقراطية، في مقر جمعية الطلاب البروتستانت في باريس في سبتمبر 1992.
قدمت هذه الورقة في اللقاء الثاني لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية المنعقد في أكسفورد (25 كانون الثاني/ يناير 1992) حول "الممارسة الديمقراطية في الأحزاب العربية". و نشرت في كتاب "حوار من أجل الديمقراطية" الذي حرره الدكتور علي خليفه الكواري، وصدر عن دار الطليعة، بيروت، 1996.
الديمقراطية في المجتمع
المسألة الأولى، في إشكالية الديمقراطية من وجهة النظر المجتمعية، تتعلق بموضوع الديمقراطية داخل الحركات السياسية، أي بتحليل نوعية العلاقة التي تربط، داخل الأحزاب السياسية، بين القيادة والقاعدة، وتُشكِّل هذه العلاقة الشكل الأول من أشكال تكوُّن السلطة السياسية في المجتمع وممارستها من قِبل النخبة القائدة.
المسألة الثانية، تتعلق بتحليل العلاقة القائمة بين الأحزاب السياسية العاملة في ساحة وطنية ما، ومعرفة مدى قدرتها على التعامل فيما بينها بوصفها ممثِّلةً لمصالح فئات اجتماعية متميزة، تعاملاً ديمقراطيًا، أي قائمًا على الحوار والتنافس البنَّاء، وليس على العنف والتنابذ والإنكار المتبادل والعداء.
المسألة الثالثة، هي تحليل نوعية العلاقة القائمة بين الأحزاب والمجتمع، وكيف تنظر هذه الأحزاب إلى الجمهور، وما هي الوسائل التي تطورّها من أجل تعبئته وجذبه: هل تنظر إليه كمواطن أم كمجموعات مهنية أو طائفية أو قبلية أو كتلة هلامية لا تتمتع بأية بنية محدّدة أو مواصفات واضحة سياسية؟ وهل تتعامل معه من خلال المصارحة والتوعية السياسية أم تستخدم بشكل موسع الديماغوجية والتلاعب والكذب والخداع؟ وفيها يتبلور أيضًا المفهوم السائد للقيادة الاجتماعية ووسائل تحقيق السلطة وممارسة الصلاحية.
المسألة الرابعة، تتعلق بنوعية العلاقة القائمة بين الأحزاب والدولة أو السلطة المركزية، وما هي السمات العامة لهذه العلاقة وبنيتها الحقيقية؟
المسألة الخامسة، تتعلق بالإجابة على سؤال عام هو: كيف يُمكن معالجة التوترات التي تسم هذه العلاقات التي تتكوّن منها في الواقع الشبكة السياسية وتتجسد فيها بنية السلطة؟
1- من الأمور الأساسية المُلاحَظة في موضوع العلاقة الداخلية للأحزاب: غياب الممارسة الديمقراطية سواء أكان ذلك فيما يتعلق باختيار القيادات العليا والإطارات الحزبية على مختلف المستويات، أم بعملية اتخاذ القرارات داخل صفوف هذه القيادات نفسها. لكن بعد الإشارة إلى هذه السمة العامة لابد من القول إنه من غير الممكن فهم طبيعة هذه العلاقة على حقيقتها من دون إدخال عوامل عديدة أخرى في التحليل.
إن طبيعة العلاقة التي تربط القيادة بالقاعدة تختلف، وإنْ اتسمت عمومًا بغياب الطابع الديمقراطي، باختلافٍ كذلك حسب الموقع الذي تحتله الأحزاب إزاء الدولة أو السلطة المركزية. ومن المؤكد أن تعرُّض الأحزاب للقمع في إطار دولة استبدادية يُقلِّل من ميل الأحزاب إلى احترام قواعد العمل الديمقراطي داخل صفوفها، بل يدفع بعضها إلى التخلّي تمامًا عن فكرة المناقشة المفتوحة والاجتماعات والانتخابات والمؤتمرات الحزبية. وهو يختلف كذلك حسب المرحلة التاريخية التي يمر فيها الحزب. فمن الممكن لحزب من الأحزاب، حسب الموقع الذي يحتله والجمهور الذي يستند إليه والشعبية التي يحظى بها، أن يتحول من حزب شبه ديمقراطي أو مفتوح أو يعتمد التعددية إلى حزب فاشي مغلق ومعادٍ لأية مبادرة ذاتية لأعضائه.
أما العامل الثاني والأهمّ فهو ضرورة ملاحظة أنه ربما كان النموذج المسيطر حتى وقت قريب على علاقات السلطة داخل الأحزاب العربية هو نموذج ما يُمكن أن نسميه "السلطة الزعامية" المستمدّة من القيم الأخوية ومونة الأخ الأكبر. وهو نموذج يختلف عن السلطة الأبوية التي كانت سائدة في التشكيلات الأوروبية اللاتينية، كما يختلف عن السلطة الهرمية والطبقية التي نبع منها نموذج السلطة الحديثة. فهو يستمد قوته إذن من وجود علاقات خاصة وشخصية مرتبطة بأنماط التنظيم الماضية ولا تدخل بالضرورة في مفهوم الديكتاتورية أو الديمقراطية الحديثة. ففي إطار استمرار علاقات التماهي والتفاعل الجماعي القديمة وغياب التمايز الطبقي العميق، من الممكن مثلاً أن لا يشكل غياب القواعد الديمقراطية الحديثة، مثل الانتخابات والمؤتمرات، عائقًا كبيرًا أمام تفاعل القيادة والقاعدة. وفي بعض الحالات، تدفع النزعة القوية إلى التضحية لدى الجميع التنظيم إلى نسيان المسائل التنظيمية نفسها، وتطويرها ما يُمكن أن نسميه "الحزب- الجماعة". وتدلّ التجربة على أن بعض هذه الأحزاب التي نشأت في المناخ الشعبي والقومي للستينيات كانت تعمل كأسرة أو منطلقات السلطة القائمة على المونة والحماس والتعبئة النفسية أكثر مما كانت تعكس تقاليد ديكتاتورية. وبالرغم من غياب الآليات الديمقراطية في نظام السلطة الأخوية الزعامية، إلا أنها تختلف كثيرًا عن السلطة الديكتاتورية في أنها، مثلها مثل نمط السلطة الكارزمية، لا تؤمِّن خضوع القاعدة للقمَّة عن طريق القسر بشكل رئيسي، وإنما من خلال تنمية الطاعة المستمدّة من جاذبية القيادة وأخلاقيتها وحسّها الكبير بالمسؤولية. وينطبق ذلك على الأحزاب كما ينطبق على السلطة المركزية. ومن خصائص هذا النمط من التنظيم السلطوي أنه لا يقوم إلا بوجود شخصية استثنائية جامعة، فكرية أو سياسية، أو زعامة. فإذا ضعفت أو غابت، انقسم الحزب إلى زعامات لا حصر لها. ومن هنا يزداد الميل كذلك إلى تحوّل الأحزاب العقائدية أو المنظمة إلى تجمعات شخصية حول هذا الزعيم الصغير أو ذاك. إن نمط الزعامة الأخوية يتحوّل عند انحطاطه بالضرورة إلى نمط للسيطرة المستمدّة من فرض أخوّة كتعبير عن الطاعة والولاء، أي إلى سلطة الاستتباع والاستزلام التقليدية المعروفة.
وبشكل عام تعكس العلاقة داخل الأحزاب السياسية العلاقات بين النخبة والمجتمع عمومًا وتعبِّر عنها. وهذا لا يمنع من القول إن هناك نخبًا متنوعة في المجتمع الواحد يُمكن أن تعمل على إرساء قواعد للعمل وعلاقات متنوعة أيضًا بينها وبين جمهورها الخاص.
2- حول المسألة الثانية، يمكن القول إن الأحزاب العربية الكبيرة الرئيسية قد نشأت جميعها تقريبًا في غمرة الكفاح ضد الاستعمار، وكان برنامجها الحقيقي برنامج الوحدة الوطنية أو الجبهة الواسعة سواء أطلقت على نفسها هذا الاسم أم لا. هذا هو وضع حزب الكتلة الوطنية في العديد من الأقطار، وحزب الوفد في مصر، وحزب الاستقلال في المغرب...إلخ. ومن الممكن القول إن التعدّدية الحزبية قد وُلدت في الأقطار العربية من جراء الانشقاقات المتتالية لهذه الجبهة الوطنية، أي من انفراط عقِد الإجماع الوطني الذي كان يبرره الكفاح ضد الأجنبي. وفي فترة ما بعد الاستقلال، أصبح الصدام بين التيارات الفكرية والسياسية المتباينة التي أخذت تتبلور مع تطوّر الدولة الحديثة وتبلور المصالح الاقتصادية والاجتماعية المتميزة والمتناقضة، أمرًا حتميًا. وربما كانت هذه الولادة هي العامل الأهم في تفسير طبيعة العلاقات التي تربط بين الأحزاب العربية والقائمة على المشادّات والتوتر الدائم ورفض الآخر وغياب القدرة على التفاهم وتكوين الأحلاف أو العمل المشترك. فقد احتفظت من هذا السياق بمواقف ومشاعر قائمة على انعدام الثقة والشكّ المتبادل والاتهام وعدم الاعتراف بالمشروعية. وفي ما وراء ذلك وبسببه تزايد الميل إلى تغطية العجز عن التفاهم السياسي بين الأطراف المتنافسة بالانغلاق العقيدي والتشديد على التمايز الفكري وتحويل الأحزاب إلى ما يُشبه الطوائف الدينية المتنافية والمتنابذة. ومن الطبيعي أن يؤثِّر ذلك على نوعية العمل في الساحة السياسية بأكملها وأن يحوِّل السياسة إلى مهاترات ومؤامرات ومزايدات شعارية واتهامات أكثر مما يدفع إلى تطوير نقاشات وطنية عقلانية وجدّية حول مشاكل الخلاف والقضايا المطروحة على الدولة والشعب. ومَنْ يدرس الحياة السياسية العربية يكتشف أن خطابات الأحزاب أو زعاماتها تتركز على التجريح الشخصي وتركّز على النواحي الأخلاقية أكثر مما تثير مسائل عملية وتشرح الاختلاف في وجهات النظر ونوعية الحلول المقدمة لمشاكل موضوعية وعملية قائمة. ولعل هذه الممارسة هي التي دفعت إلى الخلط العميق الذي نلمسه في الوعي السياسي العربي الحديث بين الأخلاق والسياسة. أو بالأحرى، هي التي تمنع من تبلور مفهوم عملي حديث للممارسة السياسية.
والقصد أنه إذا كان التنافس بين الأحزاب هو قاعدة العمل في كل ديمقراطية، فإن ما نلحظه هنا هو غياب أي مفهوم للتآلف والتحالف والتعاون لتحقيق أهداف ومصالح وبرامج مشتركة، أي تحويل التنافس إلى حرب يخوضها الجميع ضد الجميع، ويتصوّر كل حزب فيها أنه الوحيد الذي لديه الحق في الحياة وأنه دون سواه الوطني. وبدل أن يشعر كل حزب بأنه يُعبِّر عن مصالح اجتماعية محدّدة، وبالتالي فهو مضطر للتعامل مع أحزاب تجسِّد مصالح أخرى، يتماهى الحزب مع مصالح الأمة كلها بصرف النظر عن التمايز داخلها ولا يقبل بأن يكون أقلّ من حزب الأمة. وهذا هو في الواقع منطق الحزب الواحد، بينما تقوم الفكرة التعدّدية على مشروعية وجود تعبيرات سياسية مختلفة، وبقدر الاعتراف بمشروعية وجود تعبيرات سياسية مختلفة بقدر الاعتراف بمشروعية وجود مصالح طبقية أو اجتماعية متمايزة. وهذا يفسّر كذلك من أحد الوجوه كيف أن التعدّدية الوحيدة التي تفرض نفسها في المجتمع السياسي العربي هي تلك المستندة إلى عقائديات لا تعطي المصالح الاجتماعية وتمايزها قيمة بقدر ما تلحّ على الهوية العامة أو الخاصة، أو إلى تمايزات أقوامية أو جهوية أو لغوية.
3- وفيما يتعلق بمسألة علاقة الأحزاب بالمجتمع، هناك أطروحتان: الأولى هي تلك التي تسعى إلى إيجاد علاقة مباشرة بين غياب الديمقراطية داخل الأحزاب وغياب المفهوم الديمقراطي داخل المجتمع، أي أنها تبرر غياب الديمقراطية بنوعية الثقافة السياسية العربية التي لا تلائم الديمقراطية. أما الثانية فإنها تسعى إلى الكشف عن العلاقة بين غياب الديمقراطية وطبيعة الظروف الاقتصادية والسياسية التاريخية التي تعيشها المجتمعات العربية، وهي الظروف التي لا يمكن عزلها عن النظام العالمي وتأثيراته الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية، كما لا يمكن فصلها عن السيرورة التي تكوّنت خلالها هذه المجتمعات كدول أو ككيانات سياسية. وإذا كان من غير الواقعي إنكار نصيبِ ما للثقافة السياسية في نمو القيم الديمقراطية، فإنه من غير المنطقي اعتبار الديمقراطية الأوروبية النتاج المباشر والتلقائي لثقافة الإقطاعية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى. لكن حتى فيما يتعلق بالثقافة السياسية، فليس من الصحيح أن هذه الثقافة في بلادنا هي اليوم الثقافة السياسية العربية الإسلامية التقليدية. إن مشكلة الثقافة السياسية عندنا هي غياب أي مفهوم محدّد وواضح للسياسة والعمل السياسي، وذلك بالضبط بسبب تحريم مثل هذا العمل ومن أجل الحفاظ على السلطات القائمة. وبالمقابل، فإن الثقافة السياسية الموجودة عندنا هي ثمرة التربية العملية والنظرية التي يتلقاها المواطن يوميًا في أجهزة الإعلام والممارسات السياسية، والقائمة على تعميم نزع الشعور بالمسؤولية الوطنية، والتخويف من المشاركة في التفكير أو العمل بالمسألة الوطنية، ومعاقبة كل من يحاول أن يحوِّل السياسة إلى تضحية أو عمل من أجل المصلحة العامة، وعبادة الرئيس وتبجيل الحاكم والتسليم له والاعتماد على إلهامه وعبقريته، وليس لهذا أي علاقة بالثقافة السياسية القديمة أو العربية الحديثة. إن ما تعلمته مجتمعاتنا حول السياسة في العقود القليلة الماضية هو ارتباط السياسة بالأمن، أمن النظام وأمن الدولة وأمن المجتمع، أي بالتعامل مع أجهزة المخابرات والمباحث والميليشيات المرتبطة بالحكم. ومن الصعب أن تقود مثل هذه الثقافة السياسية إلى تكوين علاقة سليمة وديمقراطية بين السياسة ممثلةً بالأحزاب وبين المجتمع ممثلاً بالأفراد العاملين والمنتجين.
إن الديمقراطية ثمرة تطوُّر تاريخي واجتماعي طويل، هو ما نُطلق عليه اسم الثورة السياسية والدولة–الأمة التي نشأت عنها. وهذه الثورة نفسها لا يمكن فصلها كذلك عن الثورة الرأسمالية التي قلبت علاقات الإنتاج. وتفترض هذه الثورة تحلّل العصبيات التقليدية ونشوء الفردية الحرة والمسؤولة، كما تفترض الاندماج الاجتماعي على أسس جديدة وطنية لا علاقة لها بنموذج التوزيع العصبوي الإقطاعي أو الحرفي، وبالتالي تمايز المصالح الاجتماعية والاعتراف بهذا التمايز، وهو أصل التعددية. وتفترض أيضًا نشوء سلطة وطنية تستمد شرعيتها من السيادة الشعبية، ولا يمكنها بالتالي أن تستمر إذا لم تجهد لإرضاء حاجات المجتمع والاهتمام بمصالحه العامة والخاصة، وهو أصل المصلحة الوطنية. وتفترض كذلك حرية التعبير والتنظيم التي تسمح ببلورة المصالح الاجتماعية الخاصة بكل فئة والوعي الطبقي المرتبط بها، وهو أصل التعددية. وتفترض أخيرًا نشوء مفهوم ومنطق تداول السلطة بالطرق السلمية بين جماعات المصالح المختلفة، أي ما يمكن أن تُطلق عليه تسمية "سوق سياسية" للسلطة تسمح عن طريق الاقتراع العام بإعطاء كل قوة سياسية وزنها الحقيقي في المجتمع وتحدّد طبيعة المشاركة في السلطة وقاعدة هذه المشاركة. فبما أن السلطة لم تعد هبة ربانية ولا شأنًا خاصًا حكرًا على أبناء طبقة أو قبيلة أو أسرة ما، بل تحوّلت إلى شأن عام يُشارك فيه كل فرد، لم يعد من الممكن إنتاج السلطة الشرعية إلا عن طريق تحقيق مشاركة جميع الأفراد في تكوين هذه السلطة. وليست التعدّدية، في واقع الأمر، إلا وسيلة للمشاركة الجمعية. وهذه المشاركة والحق فيها، وما تفترضه من مساواة كاملة أمام القانون، وما يرتبط بها من سيادة مشتركة بين جميع المواطنين، هي التي تكوِّن جوهر مفهوم المواطنة بالمقارنة مع مفهوم الرعية والرعاع القديم... وهو الذي بُنيت عليه فكرة الجمهورية، التي تعني الدولة التي تقوم على سيادة الجمهور وإرادته.
وإذا كانت المجتمعات العربية لم تعد تلك المجتمعات التقليدية التي عرفناها في الماضي، فإن الحداثة التي عرفتها ليست عينها الثورة السياسية. بل إن هذه الحداثة تعمل في العديد من أوجهها على خلق قيم مناقضة تمامًا للقيم التي كانت تقوم عليها في مكان نشأتها. وينطبق ذلك على الحداثة السياسية كما ينطبق على الحداثة الثقافية والاقتصادية. فالرأسمالية، وهي نموذج ومصدر الحداثة الاقتصادية، قد فرضت نفسها على مجتمعاتنا ولكنها لا تفرز قيم الإنتاج والتراكم والاستثمار بقدر ما تدفع إلى نمو قيم الاستهلاك والتبعية والاعتماد على الخارج وتصدير الرساميل إلى الدول الصناعية الكبرى. والسلطة المركزية المرتبطة بالدولة الحديثة وإدارتها وخدماتها لا تعمِّق من آلية الاندماج والمساواة والمشاركة الشعبية في الحكم بقدر ما تعمل على خلق نخبة متميزة وتوسيع الهوّة بينها وبين الأغلبية الساحقة. وهي لم تعمل على خلق شروط الحرية والتداول السلمي للسلطة، ولكنها عمَّقت في كل الأقطار النامية النزعات الاستبدادية بما أعطته للدولة من آليات للسيطرة والتحكّم الاقتصادي والعسكري والأمني. وقد بيَّنت التجربة التاريخية، ومثال الجزائر الأخير خير معبِّر عن ذلك، على أن العائق الأول للتحوّل الديمقراطي في العالم العربي هو هذا الشرخ الاجتماعي بين النخبة والطبقات الوسطى وبقية أبناء الشعب، وهو الشرخ الذي يقود نحو تنمية مفهومين ومنظورين متناقضين للحكم والحياة والمجتمع، ويصبح من الصعب معه إيجاد أي تسوية ممكنة، وبالتالي أية ممارسة سياسية سلمية. وهكذا، أدى خوف الطبقات الوسطى في الجزائر من سيطرة الجبهة الإسلامية إلى وضع نفسها تحت حماية الجيش وبالتالي الموافقة غير المعلنة، وأحيانًا المعلنة، على قطع المسار الديمقراطي.
إن الديكتاتورية ونظام القهر السياسي لا يجدان تفسيرهما إلا في نمط التنمية الاقتصادية والاجتماعية ذاته بما يشمله من تمايز أو تقسيم اجتماعي بين نخبة متميزة لا حافز عندها إلا التميّز في المكانة ونمط الاستهلاك والموقع والفكر والعقيدة، وشعب مهمَّش لا حافز لديه للعمل والنضال إلا الدفاع عن حقه في الاندماج الوطني ورفض التهميش ومقاومة النزعات التميُّزية للنخبة الجديدة.
وليس من الممكن تحرير دينامية التحوّل الديمقراطي التي بدأت تفرض نفسها في مجتمعاتنا في إعادة النظر الجدّية في نمط التنمية هذا، واختارت منطق الاندماج الوطني بدل منطق نظام "الأبرتايد" الداخلي. ولا يمكن لعلاقات الأحزاب المختلفة بالمجتمع أن تقوم، بأية صورة من الصور، بمعزل عن موقعها هي نفسها من هذا النضال، والقوى التي تمثّلها، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها.
4- أما فيما يتعلق بالعلاقة بين الأحزاب والدولة، فإنها مرتبطة بنوعية هذه الأحزاب وبالدولة ذاتها. فالحزب، مثله مثل تنظيمات المجتمع المختلفة، لا يعيش خارج الدولة ولا يستطيع أن يقاوم التأثر بها وبالقيم التي تتداولها وتفرضها على المجتمع. وهو ليس نقيض الدولة، ولكنه الأداة المكمِّلة للدولة الحديثة، أو هو جزء من أدوات تحقيق السياسة التي تقوم عليها وتعيش منها هذه الدولة بالمقارنة مع الدولة القديمة التي لم تكن تعرف أي شكلٍ من أشكال السياسة الوطنية، أي الشعبية الجماهيرية. ومن الصعب أن نتصوّر وجود الحزب من دون التطوّر المسبق للقيم والبنيات الأساسية التي تشكّل جوهر الثورة السياسية الحديثة. كما أنه من الصعب أن يتجاوز الحزب الدولة التي يعمل فيها، فهو مصغّر الدولة في المجتمع، ولابد له من أن يعكس نمط ممارسة السلطة عامةً. إن علاقة الأحزاب بالدولة مرتبطة بشكل رئيسي بالمفهوم الذي تطبّقه وتمارسه الدولة في السياسة، سواء كانت دولة ديمقراطية تقبل التعددية أم لا.
إن مشكلة الأحزاب مرتبطة بمشكلة الدولة ولا يمكن فصلها عنها. وهي لا يمكن أن تنمو بدون نمو الدولة التي تشكِّل مثالها ونموذجها. فالمجتمع والنظام السياسي ليسا ثمرة عملية تلصيق لماهيات وكيانات مختلفة، ولكنهما نتاج دينامية وقيم واحدة تحرّك جميع الأدوات والتنظيمات التي تدخل في تكوينهما. إن نمو النزوعات المتطرفة والعنيفة في حضن الأحزاب المعارضة ليس إلا رد فعلٍ على نمو التطرّف والعنف لدى أحزاب السلطة أو الدولة مباشرة. ولا يُمكن أن نحلم بنشوء أحزاب قوية ديمقراطية في نظام عام يقوم على التعسف والقهر وانعدام الحرية وسحق الفردية. ولو جنحت بعض الأحزاب إلى ذلك لبدت غير فاعلة وفقدت شعبيتها. إن الأحزاب لا يمكن أن تقوم وتؤدي وظيفتها وتتطوّر إلا إذا كان النظام السياسي الاجتماعي يقدّم لها فرص هذا التكوين ويحدّد لها دورًا وصلاحيات محددة. وهذا ما يقتضي أساسًا وجود فسحة من الحرية التي تسمح بتكوُّنها وممارستها لدورها، وإلا فإنها سوف تتحول بالضرورة إلى أحزاب هدفها الوحيد تأكيد نفسها ووجودها ضد السلطة وبالرغم من القانون.
والمشكلة أن الدولة العربية سواء كانت ملكية أو جمهورية، ترفض مفهوم التعدّدية من الأصل وتعتبره تهديدًا لمشروعيتها وسيطرتها. ولا يغير من ذلك وجود بعض الواجهات الانتخابية أو الحزبية، فهي إما تكون أحزابًا منزوعة الشوكة ومسلوبة الإرادة، أو تضطر للدخول في صراع مستمر مع السلطة المركزية حتى تعلن خضوعها الرسمي أو تنجح السلطة في تدميرها وإجبارها على العيش تحت الأرض. ورفض التعدّدية هو جزء من رفض الفكرة الديمقراطية نفسها باعتبارها تشكّل تهديدًا لاحتكار السلطة وبالتالي لاحتكار المنافع المرتبطة بها من قِبل النُخب الحاكمة.
ويرتبط رفض السلطة الحاكمة لوجود الأحزاب ذات الفاعلية والسيادة برفض الأحزاب نفسها -مهما بلغ صغرها- لهذه السلطة، حتى وإن تعاملت معها وتزلفت لها. والحقيقية أن هذه العلاقة السلبية بين الأحزاب والسلطة المركزية ليست، في النهاية، إلا نوعًا خاصًا من العلاقات بين الأحزاب المختلفة، الحاكمة وغير الحاكمة. الأولى لهذه العلاقة السلبية هي الدولة ذاتها، فهي تتحوّل بالضرورة في هذا المناخ من التنافس والرفض المتبادل إلى أداة لتأكيد وتعظيم سلطة حزبية، وتفقد شيئًا فشيئًا كل طابعها الوطني، أي محتواها كدولة قانونية وكأساس لعلاقة مساواة جوهرية هي أصل المواطنة.
5- في إطار الردّ على هذا الوضع المسدود للتحوّل الديمقراطي، أو ما يمكن أن نسميّه باختطاف الدولة ومصادرتها وتحويلها إلى إطار لتنظيم المصالح الخاصة، تطورَّ في العقد الأخير مفهوم جديد للعمل الاجتماعي يلح على ضرورة التركيز على إحياء المجتمع المدني. وفي هذا الإطار سعت بعض فئات المثقفين من الطبقات الوسطى إلى تنمية العمل في مجال حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية والقانونية المشابهة، في حين انكفأت القوى الاجتماعية الأقلّ نفوذًا على التكوينات القديمة للمجتمع المدني ونجحت من خلال تعبئتها في بناء حركة اجتماعية دينية ما لبثت أن تحوّلت إلى أهم حركة سياسية في كل الأقطار العربية. ولكن، كما وَجدت جمعيات حقوق الإنسان نفسها محاصرة من قِبل السلطة وغير قادرة على القيام بأي عمل جدي في اتجاه فرض المسار الديمقراطي، وتحوّلت ببساطة إلى إدارة ضحايا العسف المستمر، وجدت الحركة الإسلامية نفسها بالمثل في مواجهة سلطةٍ مصمّمةٍ على القضاء عليها بأي ثمن. وهكذا، لم تستطع البوادر الجديدة للتعدّدية أن تقاوم دبابات العسكريين الذي اضطروا -وسوف يضطرون أكثر من قبل- إلى الحكم بصورة مباشرة وعلنية منذ الآن، بعد أن انهارت الواجهات المدنية أو بالأحرى المكونة المدنية للحكم المطلق.
والخلاصة، أن مشكلة الأحزاب كامنة في انعدام وجود السياسة الوطنية واستمرار سلوك الدولة وتصرّفها كدول سلطانية تستبعد السياسة الشعبية من اللعبة العامة، وذلك في الوقت الذي لم تعد فيه الدولة مجرد أداة لحفظ الأمن، وإنما أصبحت -خاصةً مع نمو الريع المحليّ- أداة جبارة للسيطرة والتحكّم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتغيير المواقع وتوزيع الثروة كما لم يحصل في أي حقبة من حقب التاريخ.
وتحتاج الحزبية، بوصفها أداة من أدوات السياسة الوطنية الحديثة، أي كمكون من مكونات السلطة الديمقراطية، إلى نمو الشروط الرئيسية لقيام مثل هذه السياسة. ومن هذه الشروط: نشوء المواطنية، أي الفردية الحرة التي تحمل في ذاتها فكرة المسؤولية الجماعية والمشاركة العملية في إنتاج السلطة السياسية أو العامة، ووجود وسوق حقيقية للسلطة، أي وجود منافسة حرة ونزيهة بين فئات النخبة الاجتماعية على احتلال موقع القيادة، وهو هنا الدولة. ومن الصعب تصوّر وجود الفرد الحرّ المبادر أو الحزب السياسي الحديث الذي يُعبِّر عنه ويجسِّد حريته من دون وجود هذه الفسحة الأساسية من الحرية التي نسميها حرية العمل السياسي الفكري والتعبيري والتنظيمي، أي وجود الدولة الديمقراطية.
والحال أن ما حصل في مجتمعاتنا هو أن نشوء هذا الفرد الحر، أي المسؤول، المستعد للقيام بدوره كمواطن، لا يجد مرتكزًا له في مكان؛ لأن الدولة لا تزال عصبوية عائلية أو ديكتاتورية معادية للسياسة ولمفهوم العمل الشعبي المستقلّ. بل إن الفرد الذي تحرّر فعلاً من شروط التبعية التقليدية غالبًا ما يجد نفسه مضطرًا لحماية نفسه من الدولة العسفية أو من مراكز القوى ومجموعات الضغوطات والعصبويات المتجددة الحديثة، والانطواء من جديد تحت راية القبيلة والعائلة والوجاهة.
وهذا هو الذي يجعل من التحرر الفعلي في بلادنا، وهو غير الانحلال الذي يعني التخلي عن كل مسؤولية، محنةً حقيقيةً. ومن الطبيعي أن يعيق هذا الوضع عملية بناء الأحزاب الحديثة بوصفها شكل التنظيم الجديد للأفراد باعتبارهم أفرادًا أحرارًا ومسؤولين. فشرط تطوّر تنظيم هذه الفردية الحرّة هو وجود دولة الحرية. والأصل أن الفرد لا يستطيع أن يعيش بدون إطار تضامن جماعي، والدولة الأمة (أو دولة الحرية والديمقراطية) هي هذا الضامن للفرد الحرّ، في مقابل القبيلة والعائلة في التنظيم المدني القديم.
وفي حال غياب إمكانية بناء هذه الأحزاب، أي بناء نظام يجمع الأفراد المتحرّرين وينسّق فيما بينهم ويشكّل إطارًا جامعًا لهم، لا يعود من الممكن بناء فضاء الحرية الذي تتغذى منه السياسة الحديثة، أي الديمقراطية، وإنْ كان من الممكن التقدم بسرعة على طريق حلّ وتفكيك العصبيات المتعددّة، وهو ما حصل بالفعل. لكن نتيجة ذلك لن تكون تحرّرًا سياسًا، وإنما انخلاعًا فرديًّا بالمعنى الحرفي للكلمة. ولابد لهذه الفردية الحرّة من أن تجد نفسها ضحية تلاعب الدولة أو العصبيات "المافيوزية" التي تنمو على هامشها. إن غياب هذه الحرية السياسية الأساسية يعني أن الأحزاب حتى لو وُجدت كتنظيمات للأفراد، فإنها لن تجد هذا الرأسمال الأول الذي تحتاج إليه كل سياسة حديثة، في مستوى علاقة الدولة بالأحزاب وعلاقة الأحزاب بالمجتمع.
ومأساة الأحزاب العربية بالضبط، سواء في علاقتها مع السلطة أو مع بعضها البعض أو مع الفرد المنتمي إليها، نابعة من تشويش وضعها الوجودي ذاته ومقامها داخل بنية سياسية حديثة على أكثر من مستوى، ولكنها لا تزال تفتقر إلى الدينامية السياسية التي تضع المواطن والحزب والدولة في علاقة تبادل وتفاعل وتواصل. فهناك مواطن اليوم في العالم العربي، أي هناك فرد حرّ لا يتماهي ولا يقبل أن يكون امتدادًا لطائفة، وله بالتالي شخصيته وذاتيته التي يدافع عنها ويريد لها أن تجد مكانها في النظام القائم. وهناك أحزاب تجهد كي تبلور برامج ورؤى سياسية وعقيدة، وتضع نفسها في موضع الوسائل الجماعية التي تساهم في بناء السلطة، لا كسلطة سلطانية فردية ومطلقة ولكن كسلطة وطنية نابعة من مشاركة المجتمع المباشرة في تكوين السلطة المركزية. وهناك أيضًا الدولة الحديثة التي لم تعد تقبل أن تكون أداة الجماعة الدينية أو الأقوامية، وتقدّم نفسها على أنها دولة التدخّل الإيجابي في تسيير وإدارة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولكن ليس هناك بعد أي مبدأ أو قاعدة مستقرة تسمح بتعامل هذه العناصر الثلاثة للحداثة السياسية فيما بينها وإتاحة الفرصة لها بالتالي كي تعبِّر عن نفسها وتحقّق ذاتها.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما تعبر عن رأي أصحابها
بحث قدمه كل من د. رغيد كاظم الصلح ود. علي خليفة الكواري، تحت عنوان: الممارسة الديمقراطية في الأحزاب العربية، في اللقاء السنوي الثاني، في مقر جمعية الطلاب البروتستانت في باريس في سبتمبر 1992.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما تعبر عن رأي أصحابها
المزيد...
كان موضوع اللقاء الأول لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية هو:
"كيف تعزز المساعي الديمقراطية في البلاد العربية؟"
وقد انعقد اللقاء في كلية سانت كاثرينز، جامعة أكسفورد بتاريخ 24 أغسطس 1991، وحضره لفيف من الباحثين والكتاب والمهتمين بقضايا الديمقراطية في الدول العربية.
وتضمن الموضوعات التالية:
1- نكسة الديمقراطية في البلدان العربية - د. برهان غليون.
2- مشروع لتعزيز المساعي الديمقراطية في البلدان العربية - د. علي خليفة الكواري ود. رغيد كاظم الصلح
3- لماذا مركز دراسات الديمقراطية في البلدان العربية؟ - د. رغيد كاظم الصلح
4- كيف تُعزز المساعي الديمقراطية في البلدان العربية تقرير "ورشة عمل" - د. رغيد الصلح ود. علي خليفة الكواري
المقدمة التي كتبها الدكتور برهان غليون لكتاب "حوار من أجل الديمقراطية" والذي حرره الدكتور علي خليفه الكواري وصدر عن دار الطليعة، بيروت، 1996.
نكسة الديمقراطية في المنطقة العربية
ليس ما تعيشه المجتمعات العربية اليوم، وفي جميع الأقطار، تحولاً فعليًا وأصيلاً نحو الديمقراطية بقدر ما هو تفجُّر أزمة نظام الاستبداد البيروقراطي العسكري أو الأبوي العائلي أو العشائري الريعي. ومن الطبيعي أن تفتح هذه الأزمة المتفجّرة الباب أمام تنامي جميع الآمال، وفي مقدمتها تلك المتعلقة باستبدال النظام القائم بنظام ديمقراطي حقيقي، ليست كافية لتحقيق هذا التحول العميق، والعديد من القوى الاجتماعية والسياسية التي اعتقدت أنها انحازت للديمقراطية أو آمنت بها، في لحظة من لحظات هذه الأزمة، بدأت تتراجع عن موقفها عندما أدركت حجم التنازلات التي يفرضها عليها تفكيك نظام القهر الأقلّوي القائم.
وهكذا، بعد مرحلة الإجماع الشكلي واللفظي الأول حول الشعار الديمقراطي، بدأت المعركة الحقيقية تتبلور بين التيارات والقوى الاجتماعية لفرض نمط الخروج من النظام المأزوم القائم وطريقته، أي معركة تحديد طبيعة النظام القادم الذي سوف يحلّ محلّه. وفي هذا المجال، ليس من الصعب إدراك أن المعركة الأساسية قد انتهت أساسًا إلى خيارين رئيسيين هما اللذان يتواجهان اليوم: الأول خيار النظام الإسلامي الذي يتميز بطابع شعبوي من دون شك، ولكنه يفتقر إلى الوضوح الدستوري، ويكاد يكون إحياءً لنموذج نظام الحزب الواحد الثوري القومي الماضي، لكن على أسس عقيدية مختلفة. أما الثاني فهو ليس خيارًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكنه مجموعة الإجراءات والسياسات الأمنية والاجتماعية التي تتضح في المواجهة مع الخيار الشعبوي الأول، من أجل منعه من التحقق؛ وهو أميل إلى أن يكون، من حيث التركيز المُبالغ على الأمن الداخلي، وأسلوب بناء القوى السياسية والاجتماعية التي يُعتمد عليها في مواجهة القوى الشعبوية، إعادة إنتاج لنموذج الأنظمة الفاشية التقليدية لكن على أسس اجتماعية جديدة. فهو نظام يجمع بين الانفتاح الاقتصادي ودعم أصحاب المصالح الكبرى من جهة، وبين خلق قاعدة اجتماعية مواجهة للطبقات الاجتماعية الأساسية من بقايا النخب والقوى الهامشية أو المعزولة الملتفة حول الدولة والمستفيدة منها.
وهكذا أدى تبلور الصراع وما رافقه من استقطاب ووعي أنضج بالمصالح، وبعكس المظاهر، إلى تراجع الخطاب الديمقراطي وتحول الخيار الديمقراطي إلى خيار ثانوي أو أقلّوي، وأصبح الطرف الأضعف في المعركة السياسية القائمة اليوم للخروج من النظام الاستبدادي. وهذا الضعف هو الذي يسمح للطرفين الأساسيين المتنازعين باستغلاله والتمسح بأفكاره ومفاهيمه واستتباعه لاستخدامه في معركة الشرعية التي يحاول كل طرف أن يكسبها وهذا ما سيُبقى المعركة الأساسية بالنسبة لكليهما إلى وقت طويل.
لكن إذا كان من الخطأ الجسيم أن يستبعد المؤرخ والمحلّل أي احتمال، إلا أن علائم كثيرة تدلّ على أن هناك صعوبات كبيرة تعترض تحقُّق أو على الأقل ترسُّخ أي من الخيارين المذكورين.
وفي هذه الحالة سوف يقود الانسداد واستمرار الأزمة والعنف المرافق لها إلى عودة تدريجية ومتزايدة للرأي العام المنقسم اليوم بقوة نحو الخيار الديمقراطي، وسوف يتحوّل هذا الخيار وما يجسده من معايير وقيم وسياسات إصلاحية، إلى مرجعية مشتركة تمهّد الطريق نحو فتح معركة الانتقال الحقيقي والفعلي نحو نظام ديمقراطي عربي حقيقي.
وهذا يعني أن ما شهدناه في السنوات القليلة الماضية من آمال ديمقراطية لم يكن أكثر من حَمْلٍ كاذب، وهو كذلك بالفعل. وما نشهده من تفجُّر للعنف والاقتتال والفوضى والضياع لهو البرهان الساطع على ذلك. لكن ليس هناك شكٌ في أن تفجُّر العنف واستمرار المعركة الطاحنة بين القوى السياسية الكبرى، هما بعض النتائج السلبية لإخفاق الموجة الأولى من معارك تفكيك نظام الاستبداد القائم على اتساع الإقليم العربي، وهي المعارك التي تفجرت منذ بداية الثمانينيات من هذا القرن في معظم الأقطار العربية. وإذا كانت الأسباب العميقة لهذا الإخفاق كامنةً في حدّة التناقضات والتوترات التي أنتجها النظام القائم، فليس من المبالغة القول إن ضعف الوعي بالديمقراطية وبمشاكل التحوّل الديمقراطي ومضمونه، وبالصعوبات المتعدّدة الموضوعية والذاتية، كان من العوامل الرئيسية أيضًا في إيجاد مخرج ديمقراطي لأزمة نظام الاستبداد.
ولم يكن الهلع الذي أصاب الطبقات الاجتماعية الوسطى أمام احتمال فقدان السيطرة على الموقف وانتقال السلطة إلى القوى السياسية والاجتماعية الأكثر تطرفًا وهامشية وفقرًا إلا إحدى ثمرات هشاشة هذا الوعي السياسي ومظهرًا من مظاهر الضعف النظري والفكري الذي تجلى كأكبر عثرة في السنتين الماضيتين في طريق أي تغيير. فمن خلال استغلال مشاعر الخوف والهلع هذه، وبالعمل على تضخيمها والنفخ فيها، انطلقت السلطات القائمة في حملتها العقائدية والسياسية لاحتواء المطلب الديمقراطي وتبرير التجديد إلى أجل غير مسمى للوضع السياسي الراهن، أو حصر التحوّل المنشود في نطاق التصور الذاتي والضيق لعملية لا تتعدى إضفاء صيغة من التعددية الكاذبة على نظام حكم لا يزال يرفض التعامل مع الوقائع السياسية الجديدة بالرغم من عجزه المتزايد عن أن يثبت قدرته على الاستمرار كحكم مطلق... أي بالرغم من اهتراء أسسه ومرتكزاته الحقيقية في أرض الواقع. وقد قاد نظام الحكم المطلق هذا والضعيف في الوقت نفسه إلى تعميق مشاعر الإحباط بقدر ما زاد من آمال التغيير وحدّ من إمكانياته بدل أن يفتح القنوات السليمة والتدريجية الضرورية وتنظيمه. وكان لابد أن ينتهي إلى تفجير العنف والفوضى وما يحملانه من تهديدات جدية للأمن الاجتماعي والوطني في الوقت نفسه.
وليس هناك شك في أن هذا العنف، الجديد على المجتمعات العربية، يلقى صدى إيجابيًا لدى بعض الأطراف الحاكمة التي بدأت منذ الآن الإعداد لربح معارك الموجة القادمة والتي لا مهرب منها من أجل الإصلاح السياسي الذي لا ينفصل عن الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي. وهي وإن لم تشارك في تغذيته فإنها تنفخ حتمًا في ناره كي تُرهب الطبقات الوسطى وتُظهر لها أن طريق التحوّل الديمقراطي الذي تُنادى به لن يقود إلى تعظيم مشاركتها في السلطة، وإنما إلى سيطرة الأجنحة المتطرفة من المعارضة الاجتماعية على الدولة وتدمير الأسس المادية التي يقوم عليها وجود هذه الطبقات نفسها.
وعلى صعيد ثانٍ، تقوم أجهزة الإعلام الأجنبية والمحلية بحملة شاملة من أجل تشكيك العرب في المعركة الأولى لتزرع في ذهن العربي، مهما كانت طبقته وثقافته وميوله، فكرة أن السبب في ما آل إليه الوضع هو ثقافة العرب أنفسهم أو دينهم أو تكوينهم القبلي والعائلي والعشائري الثابت.
وفي هذه الحالة لن يعود أمام العربي إلا الاختيار بين الديمقراطية، وشرطها الخروج من ذاته، أو القبول بالوضع القائم كما هو، والبقاء أسير العقليات والبنيات والأحوال السائدة التي لا تنافي الديمقراطية فحسب وإنما تقضى أو تكاد تقضي على معنى الإنسانية فيه.
أما الأطراف الأكثر اعتدالاً في هذه النخب الحاكمة والتي يصعب عليها طرح الموضوع على أساس معادلة المقايضة بين الذات والحرية، وهي مقايضة فاسدة لأن فاقد الذات لا يُمكن أن يكون حرًا على حال، فإنها تتخندق وراء نظرية عدم نضوج المجتمع سياسيًا واقتصاديًا للدخول في نظام الحرية والتصرف حسب مبادئ المسؤولية الوطنية.
والنتيجة التي يريد أن يخلص إليها هذا الخطاب هي أن السلطات المستبدة ليست هي المسؤولة عن إخفاق التحول الديمقراطي، ولا عن إيصال الوضع العربي إلى المأزق السياسي الراهن، بما في ذلك تدعيم العصبيات الطائفية والعشائرية والعلاقات الزبائنية والعائلية لتحقيق التوازنات الداخلية الضرورية لاستقرار سلطة لا سياسية ولا إنسانية سادت في العقدين الماضيين، وإنما المسؤول عن الأوضاع هي البنيات الاجتماعية والعقليات التاريخية والثقافات والأديان، أي هو المجتمع كله من دون تحديد. وبدل أن تحاسب السلطات الحاكمة والحزبية الملتفة حولها على إخفاقها في بلورة الخطط والاستراتيجيات اللازمة لتحقيق الانتقال السلمي والتدريجي نحو الديمقراطية وتجاوز عيوب البنيات الاجتماعية ومعالجتها، تجعل من إخفاقها ذاته برهانًا على خطأ المنادين بالإصلاحات الاجتماعية والديمقراطية. وهكذا لا يصبح أنصار الاستبداد هم الذين على صواب فقط، ولكن تتحوّل الوصاية على المجتمع من قِبل نخبة "قومية" أو علمانية إلى رسالة تاريخية وطنية.
وليس من الصعب إدراك أن هدف هذا المنطق هو الالتفاف على المطلب الديمقراطي، وما يتضمنه من مطالب اجتماعية واقتصادية وأخلاقية، ومن وراء ذلك تجديد عقيدة السلطة الاستبدادية والتعسفية التقليدية، أي استبعاد أي تغيير.
وليس من الصحيح أن النخب الحاكمة الاستبدادية سوف تستفيد من التحذير الشعبي ودرس العنف الحالي حتى تغيّر من سياستها بصورة جدّية، كما ليس من الصحيح أنه ليس من الممكن التقدم منذ الآن على طريق الديمقراطية ولابد من انتظار نضوج الظروف الموضوعية. ذلك أن هذه النخب سوف تفقد بسرعة حافز التعديل في سياستها، والإصلاح السطحي الذي بدأت التفكير فيه لمواجهة الأوضاع المتفجرة والخطيرة منذ اللحظة التي ستنجح فيها في تدمير قوى المعارضة وإعادة سيطرتها المطلقة على المجتمع، وهذا أمر أصبح مستحيل المنال على كل حال. ثم إن الديمقراطية ليست ثمرة تُقطف أو نظامًا جاهزًا يُقام في لحظة يحددها حاسب اليكتروني. إنها معركة اجتماعية وسياسية طويلة ومستمرة لا تنتهي ولن تنتهي، تواكب تطور المجتمعات وتتقدم مفاهيمها ونظمها مع تقدمها. فبالرغم من أن الديمقراطية أصبحت راسخة الجذور في الدول الصناعية الغربية التي تعيش تجربتها منذ عدة قرون، لم ينته النقاش فيها والحوار حولها، ولا تزال الأحزاب تتنافس على تعميق مدلولاتها وقيمها ونظمها. ولكل مجتمع - حسب مستوى نضجه ونضج قواه السياسية الاجتماعية وتوازناته - مطاليبه الديمقراطية ومستوى المشاركة الشعبية الضرورية لتطوير نفسه، ودرجة التمتع بالحريات الفكرية والتنظيمية الجماعية والفردية التي لم يعد هناك اليوم إمكانية بناء مجتمعات سياسية ومدنية بالمعنى الحقيقي للكلمة من دونها. إن مفهوم الديمقراطية قد ارتبط بمفهوم المواطن، وبناء المواطنية، ولا جماعة وطنية من دون مواطنية، ولا مواطنية من دون حرية ومسؤولية جماعية. وفي غياب هذه العوامل المترابطة معًا تكمن أزمة التشكيلة الوطنية العربية جميعها، وفي كل مكان.
لا ينبغي أن نعتقد إذن أنه من الممكن توليد الديمقراطية في أنبوب اختبار، وتحت مراقبة الخبراء والعلماء والحكماء. إن التحوّل نحو الديمقراطية يُشكّل في كل المجتمعات، ومهما كانت ثقافتها ودرجة نموها، مغامرة تاريخية، أي عملية ذات مخاطر على المجتمع والدولة، ولكنها مخاطر مقبولة بالمقارنة مع الفوائد المنتظرة منها. بل إن ظهور هذه الفوائد، وفي مقدمتها الشعور الحقيقي بالكرامة والحرية، هو العنصر الأساسي الذي يراهن عليه الديمقراطيون لتنمية روح المسؤولية والالتزام بالمصالح الوطنية من أجل مواجهة هذه المخاطر والحدّ منها.
والسبب في أن الديمقراطية ترتبط بقبول حدٍّ أكبر من المخاطر هو أنها - بعكس النظام المطلق - لا تعني شيئًا آخر سوى إطلاق الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي بصورة حرّة، وجعل نتائج هذا الصراع الحرّ القاعدة وبالتالي الشرعية لإعادة تكوين التوازنات الاجتماعية، توازنات المصالح والقوى والأفكار. فالصراع فيها شرط لإعادة توزيع القوى والسلطات، وللوصول إلى السلام الأهلي والتسوية المطلوبة لكل سياسة، ولا يمكن أن تولد من توازنات مفروضة مسبقًا من دون أن تفقد مبرر وجودها نفسه. والمهم في الأمر هو ضبط هذا الصراع، أي إيجاد الصيغ القانونية، وليس العسكرية، والتوازنات السياسية من تحالفات وتآلفات، والكشف عن القواسم المشتركة الفكرية والعقائدية والاجتماعية التي تسمح بأن ينتهي هذا الصراع الذي تفتحه لا محالة الديمقراطية ويُشكّل جوهرها، إلى نتائج إيجابية، أي إلى تسوية يُعبّر عنها في صورة إفراز أغلبية سياسية أو حكومة وحدة وطنية.
وليس هناك ما يمنع الخائفين على الاستقرار من بلورة قانون انتخابي يدعِّم من فرص نشوء أغلبية سياسية قوية كما هي الحال في النظام الفرنسي مثلاً، وهو الذي يرفع عمليًا عدد نواب الحزب الغالب إلى أكثر من الضعف. وليس هناك ما يمنع من إبداع صيغ أخرى يقوم فيها بناء التوازن النهائي على الجمع بين الأغلبية السياسية النابعة من الصراع السياسي المباشر، وتلك المعبرّة عن المصالح الاجتماعية المستقلة، كأن يكون مثلاً للنقابات عدد معين من الممثلين في المجلس، أو أن يعدِّل وجود مجلس شيوخ من وزن المجلس النيابي، وكلها صيغ أولية تجريبية خاضعة لا محالة للتغيير وتحتاج باستمرار إلى التطوير مع تطور المشاركة الشعبية وتبدُّل روح المطالب الاجتماعية التي ينبغي على النظام الديمقراطي أن يردّ عليها. المهم هو أن نبدأ في وضع الإطار السياسي المبدئي الذي سوف نراكم فيه ونقوم بإصلاحه مع الزمن، وبحيث يصبح الإصلاح هو هدف الصراع ومحور النزاع الاجتماعي وليس كما هي عليه الحال الآن تدمير النظام أو الثورة عليه. وفي هذا الدفع في اتجاه العمل الإيجابي يمكن تحويل الصراع نفسه إلى وسيلة للتجديد والتطوير، وفيه أيضًا يكمن المكسب الأول للديمقراطية، أعني تجنب الحروب الأهلية وما تجرّه من دمار شامل على البلاد والاقتصاد.
إن نظام الحزب الواحد والسلطة المطلقة أسهل بالنسبة للحاكم وللطبقات السائدة من دون شك من نظام الديمقراطية؛ فهو يغلق الطريق على أي نقاش أو صراع أو تنافس، ويفرض مناخًا من الاستقرار والأمن الثابتين. ويمكن لهذا الخيار أن ينجح لبعض الوقت عن طريق تأمين وسائل قوية كافية للسيطرة والمراقبة والقمع. لكن هذا التجميد ليس ممكنًا للأبد، وليس ممكنًا بالوسائل نفسها؛ إن الصراع لابد أن ينفجر وهو ينفجر، اليوم في المجتمعات العربية كما لم يحصل في أي حقبة من قبل. وأهمية الديمقراطية نابعة بالضبط من أنها تقدم الإطار الممكن لمعالجة النزاعات الاجتماعية معالجة سياسية، أي لتقديم الإطار القانوني المناسب لضبطها وفتح القنوات الشرعية الضرورية لتصريفها، وبالتالي لبناء الاستقرار والأمن الأهلي وضمان استمرارهما.
ويبدو لي أن رجال النخب العربية، الحاكمة والمعارضة معًا، لم يدركوا بعدُ ما طرأ على المجتمعات العربية من تبدلات في البنى والعقلية والنفسية تجعل منها مادة ملتهبة قابلة للاشتعال والدخول في دوامة العنف والحروب الأهلية التدميرية في أي وقت. فهم لا يزالون يتصرفون في مشاعرهم العميقة كما لو أن عصبية الجماعة التقليدية، واستقرارها وركودها، تلك العصبية التي كانت تجعل من الثورة أو الفتنة أو التمرد عملاً من أعمال العصيان المرفوض والمنبوذ، هي التي لا تزال تتحكم بالموقف الفردي والعام. وهم يراهنون على تعبئة المخاوف التقليدية من الفوضى الاجتماعية والسياسية لوقف احتمال تجدّد الانتفاضات الشعبية الشاملة. إن فكرهم السياسي لا يزال ملغومًا بالخبرة التاريخية الماضية التي تنظر إلى المجتمعات كجماعات صلدة طائفية أو قبلية تتحرك بالمخاوف والشعارات والرموز ولا تدرك عمق الرهانات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الحديثة... وهم في ذلك مخطئون كل الخطأ.
إن المطالب التي تقف وراء المعارضة والثورة في المجتمعات العربية، مهما كانت المظاهر السطحية، مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية حديثة لا تختلف عن أي مطالب تطرحها الشعوب الأخرى المتقدمة وغير المتقدمة على نفسها ونخبها السياسية. والسبب في ذلك أن المصالح السائدة والمحركة فعلاً للنزاع هي مصالح حديثة أيضًا مرتبطة بقوى اجتماعية حديثة برجوازية وعمالية وفلاحية وحرفية وغيرها. ولا يمكن إيجاد التوازن بينها كما كان يحصل في نظام القرون الوسطى من خلال ما يقرره حسب مزاج الحاكم الفرد، الأب والسيد المطاع. وإذا كانت الديمقراطية قد تطوّرت في المجتمعات الحديثة الغربية فذلك لأنها كانت ضرورية للرد على هذا النوع نفسه من التطور الاجتماعي ومن توزيع المصالح والقوى الجديدة. أما ما يبدو على بعض المجتمعات العربية من سيطرة المافيات الخاصة التي تقوم باحتواء هذه المصالح الاجتماعية أو تحاول أن تقطع الطريق عليها وعلى سعيها للتعبير الواضح والصريح عن نفسها، فهو مظهر آخر من مظاهر فساد النظام الاستبدادي الراهن؛ إنه أحد منتجاته الرئيسية لا ثمرة لتطبيق الديمقراطية. وهو من مستلزمات الانفتاح الاقتصادي على السوق العالمية ولا يُعبِّر عن تطور نظام الحرية والمسؤولية والمكاشفة الشعبية. ومن المعروف أن المافيات لا تنمو إلا في الظل، ولا يمكن مقاومتها إلا بالسماح للمصالح الاجتماعية الحقيقية والشرعية في التعبير الفعلي والصريح عن نفسها. وليس من الغريب أن تكون هذه المافيات هي أكبر قوى معارضة للديمقراطية ولأي تحوّل ديمقراطي اليوم. إن وجودها لا يرتبط فقط بمنع المصالح الاجتماعية الشرعية من الإفصاح عن ذاتها فقط، ولكن بسيطرة أجهزة الدولة -التي تتلاعب بها وتستخدمها - على العملية الاقتصادية ذاتها.
ربما لا تكون الظروف الموضوعية، والمقصود هنا بالدرجة الأولى ظروف الأزمة الاقتصادية واستمرار التحديات القومية المتجسدة في الصراع العربي الإسرائيلي وتفاقُهم النزاعات العربية، مواتية تمامًا لإطلاق دينامية التحوّلات الديمقراطية النهائية، لكنها لا تمنع بالتأكيد من اتخاذ الإجراءات الضرورية لبدء تفكيك نظام الاستبداد والعنف والسلطة المطلقة والتهميش الشعبي الكلي القائم. بل إن مواجهة الأزمة والحدّ من مخاطر هذه الظروف الموضوعية الصعبة تحتاج هي نفسها، وأكثر فأكثر، إلى تجاوز حدود الممارسة التقليدية للسلطة اللاشعبية، والعمل على بث روح جديدة في السياسة المحلية. ومن الأحق أن تقول إن السبب الرئيسي للنكسة التي نشهدها في الأقطار العربية في موضوع الديمقراطية هو إرادة الاحتفاظ بالامتيازات الكبرى التي تستدعي الإبقاء على سلطة مطلقة، لا تقبل الحساب ولا المسؤولية سواء من قِبل النخبة الضيقة الحاكمة أو من قِبل النخبة الوسيطة التي تحيط بها وتتلقى بعض فُتات موائدها.
وفي سياق هذه المقاومة المستمرة للتغيير الاجتماعي والاقتصادي تبرز اليوم وتتبلور في أوساط القوى المعادية للديمقراطية ملامح خطاب القمع الذي لا يسعى إلى تبرير نظام الحزب الواحد والسلطة المطلقة - كما كانت عليه الحال في السابق - بقدر ما يعمل على تبرير القمع نفسه وسياسة التطرف والتهميش الاجتماعي، أي على بلورة نموذج عربي معدّل للفاشية الاجتماعية.
ويستقي هذا الخطاب عناصره من تسويد قيم الامتياز واحتقار الشعب والتراث والثقافة المحلية والماضي، وتمجيد الفطرية المتطرفة والاستعلائية التي تهدف إلى عزل كل قطر عمّا حوله أملاً في الحدّ من انتقال الخبرات الإيجابية من بلد إلى آخر، ورفض القبول بأي تنازل للأغلبية الشعبية.
ولأن من المستحيل إيجاد حجج منطقية وعقلانية وأخلاقية لمثل هذا الخطاب، فإن النخب الجديدة تهجر كليًّا تراث العقل والعقلانية والحداثة لتبنى عملها على تنمية الهواجس وتهييج المخاوف وتأجيج العواطف السلبية، الفردية والجمعية، القطرية والقومية والدينية. ومجموع هذه المواقف التهييجية والتأجيجية والمنطق الذي يحركها ويسيِّرها ويضفي عليها في نظر أصحابها الحدّ الأدنى من الاتساق، هو المضمون الحقيقي لهذا الخطاب الجديد. فهذه هي الوسيلة الوحيدة التي بقيت في يد النظام التمييزي القائم لإعادة بناء العقيدة السياسية ولحم التآلف الاجتماعي والسياسي والثقافي السائد كبديل عن بعض العقائديات اليسارية المتراجعة أو التي فقدت صدقيتها وبعض عقائديات اليمين التي اندمجت اليوم كليًّا مع سياسات الدول الغربية والمؤسسات الدولية العالمية.
إن تنمية المخاوف وتضخيم المخاطر والتهويل والتحذير من الكوارث، قد أصبحت الأطروحات والأفكار الأساسية للنخب الاجتماعية العربية على اتساع الساحة الوطنية والدولية. إن منطق العقيدة الجديدة هو التالي: ليس من الممكن، بعد التضحية بنظام الحكم المطلق والتعسفي، لا بسبب رفض النخب الحاكمة فكرة الديمقراطية أو عدم الاعتراف بشرعيتها، ولكن بسبب الخوف على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية وفي سبيل الحفاظ على القانون والنظام.
وإذا كان لابد من التعيير للتخفيف من هجومات الرأي العام الدولي والتأقلم مع المناخات العالمية، فمن الضروري أن يبقى التغيير المقصود في النطاق الشكلي والسطحي الذي لا يمسّ حقيقة السلطة...، أي أن لا يكون تغييرًا أساسيًا وعامًا، بل تغيير اقتصادي أو إداري محض. ويتضمن التغيير الاقتصادي تغيير قوانين الاستثمار (الانفتاح على السوق العالمية) وتغيير أسس توزيع المنافع المرتبطة بالدولة...، أي إعادة غربلة النخب الحاكمة وبما يسمح بإدخال أو إخراج عناصر وفئات جديدة منها. والواقع أن التحوّل السياسي المقترح هو ذاك الذي يرد على حاجات إعادة التحالف بين النخب المحلية والنظام العالمي الذي نجح في استتباعها من جديد بعد تلاشى قيم مرحلة التحرر والاستقلال الوطني وانتهائها. وهذا ما جعل هذه النخب تنظر إلى مسألة الديمقراطية على أنها بالدرجة الأولى مسألة التفاوض على تنازلات يفرضها الغرب، وهي مقدمة أساسًا له وليس للمجتمعات المحلية.
إن جوهر هذه العقيدة ومحرّكها الرئيسي ليس في الواقع إلا الخوف من المشاركة الديمقراطية وما تعنيه وتتضمنه من إعادة توزيع للسلطة والثروة الوطنية لغير صالح الطبقات المتنفذة والمستفيدة من نظام الاحتكار والدولة القهرية. وإذا كان معسكر الاستبداد يتظاهر أحيانًا بأنه لا يفعل ذلك إلا من قبيل الحرص على نجاح العملية الديمقراطية، فذلك من قبيل كسب الوقت. وليس هذا من الأمور الغريبة أو الشاذة في المعارك السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكنه التكتيك الوحيد الممكن في ظروف افتقار الطبقة أو النخبة السائدة إلى عقيدة ذاتية مقبولة ومعترف بها.
وهكذا شهدنا في العقود الماضية كيف نجحت أحزاب سياسية قومية، فقدت سيطرتها على الموقف وانهارت عقيدتها الوحدوية، في ضرب الوحدة القومية باسم الوحدة الصحيحة، وشهدنا محاربة التعريب باسم التعريب السليم والمتدرج، ومحاربة الطبقات الشعبية باسم الاشتراكية، ومحاربة القضية الفلسطينية باسم فلسطين.
ولأن معركة الديمقراطية قد أصبحت معركة إصلاح النظام وليست معركة فريق اجتماعي أو تعبيرًا عن مصالحه، ولأن مستقبل المجتمعات العربية يتوقف على قدرتها على إيجاد الإطار القانوني والسلمي لامتصاص التوترات والتناقضات الاجتماعية المتفاقمة وخلق القنوات التي تسمح بتحويل الصراع من صراع تدميري وتخريبي إلى صراع سياسي بنّاء... صار التفكير في طبيعة الأوضاع السياسية القائمة وأسباب انسدادها ومقاومتها لكل تغيير، والبحث عن وسائل تطوير الحركة الديمقراطية من حيث هي فكرة ومن حيث هي ممارسة سياسية ومن حيث هي نظام محتمل، أقول أصبحت شرطًا لإعادة بناء الحركة الاجتماعية وتأسيس مفهوم الوطنية ذاته.
فإذا لم ننجح في فهم كل هذه المشكلات وأخفقنا مرة ثانية في عملية التحول والانتقال السياسي نحو أنظمة مقبولة من قِبل الرأي العام وتتمتع بالحد الأدنى من الشرعية، سوف نخسر لا محالة معركة الإصلاح الاقتصادي والاستقلال الثقافي والنفسي، وسوف ندخل في حروب أهلية تتجاوز بكثيرٍ في آثارها وعواقبها آثار الحركات الإرهابية التي نجمت عن إجهاض المحاولة الأولى لهذا الإنجاز التاريخي المطلوب والمنتظر. ولابد من أجل تجنب ذلك من فتح النقاش الواسع في جميع الملفات والقضايا العالقة، وعدم تجاهل أي عنصر فيها، بما في ذلك التحفّظات والاعتراضات التي يثيرها تيار العداء أو الخوف من الديمقراطية بمن يضمّه من قادة ومسؤولين ومثقفين سواء أكان دافعه في ذلك عن مصالح جزئية أو الحرص على نجاح نظام الديمقراطية ذاته وضمان قيامه واستقراره في المستقبل... بالرغم من أنه لم يحدد هو نفسه متى تبدأ إقامته ولا يقدم أي رؤية للوسائل والمناهج التي يريد أن يتّبعها لتحقيق شروط قيامه.
فليس من الممكن بناء حركة ديمقراطية حقيقية من دون توضيح الأفكار وتحديد المفاهيم وتعيين المشكلات ودراسة الوقائع. وليس من الممكن الوصول إلى إجماع وطني حول صيغة الديمقراطية والتنظيم السياسي من دون طرح هذه المفاهيم والدراسات والأفكار للنقاشات المعمّقه. وليس من الممكن كذلك بلورة استراتيجية عربية فعّالة وعقلانية لتعزيز المسار الديمقراطي على المستويين القطري والقومي من دون حوار وطني دائم ومستمر.
المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
بحث قدمه كل من د. رغيد كاظم الصلح ود. علي خليفة الكواري، تحت عنوان: كيف تُعزز المساعي الديمقراطية في البلدان العربية، في اللقاء السنوي الأول، تحت عنوان: مشروع لتعزيز المساعي الديمقراطية في البلدان العربية، وقد انعقد اللقاء في كلية سانت كاثرينز، جامعة أكسفورد بتاريخ 24 أغسطس 1991.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما تعبر عن رأي أصحابها
بحث قدمه د. رغيد كاظم الصلح، تحت عنوان: لماذا مركز دراسات الديمقراطية في البلدان العربية؟، في اللقاء السنوي الأول، تحت عنوان: مشروع لتعزيز المساعي الديمقراطية في البلدان العربية، وقد انعقد اللقاء في كلية سانت كاثرينز، جامعة أكسفورد بتاريخ 24 أغسطس 1991.
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما تعبر عن رأي أصحابها