اسم الكتاب: سياسات النظم الحاكمة في البحرين والكويت والعربية السعودية في التعامل مع المطالب الشيعية (2003ـ 2008) دراسة مقارنة.
اسم الكاتب: شحاته محمد ناصر
دار النشر: مركز دراسات الوحدة العربية
عن كيفية تعامل النُظُم الحاكمة في البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية مع تنامي مطالب وطموحات الشيعة لديها، قدّم الباحث إجابات (مركز دراسات الوحدة العربية) على سؤال ملحّ، بدءاً من تحديد مطالب الشيعة في هذه البلاد، وتأثير الصعود السياسي لشيعة العراق في أوضاعهم، وكيفية تأثير علاقات البلاد المذكورة بإيران، ودور العامل السنّي السلفي في تشكيل ردّ فعل النظم الحاكمة، وتأثير الاختلاف بين نظم الحكم والبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومستوى التوازن العددي بين السنّة والشيعة.
------
المصدر: السفير ـ 16يونيو 2011
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما تعبر عن رأي أصحابها
اسم الكتاب: مفهوم الحرية في التاريخ
اسم الكاتب: راتب الحوراني
دار النشر: دار الفارابى
راتب الحوراني: "مفهوم الحرية في التاريخ"على الرغم من كثرة الأسئلة المطروحة في الكتاب، والمتعلّقة بالتاريخ، خاض الباحث في شجون هذا العلم، مستعيناً بمفرداته وبالفلسفة والفكر السياسي، متناولاً الدولة العثمانية والثورة الروسية وروما الجمهورية والمدن الحرّة في أوروبا القرون الوسطى والثورة الفرنسية، وبريطانيا "مهد الديموقراطية الحديثة"، مروراً بالعرب قبل الإسلام وتجربة الشورى في الدولة العربية الإسلامية: عناوين "تطمح إلى حثّ القارئ المهتم بالتاريخ على البحث عن معنى التاريخ، وعن الحقيقة الأولى والأخيرة له".
-----
المصدر: السفير ـ 23يونيو 2011
اسم الكتاب: الدولة والكنيسة
اسم الكاتب: طارق البشري
دار النشر: دار الشروق, القاهرة
الطبعة: الأولى 2011
عدد الصفحات: 104
يناقش هذا الكتاب أسباب وأبعاد التغير الذي طرأ على علاقة الكنيسة القبطية بالدولة في مصر, خصوصا في الأربعين عاما الأخيرة, أي منذ تولى الأنبا "شنودة الثالث" كرسي البابوية في العام 1971م.
ويتساءل المؤلف عن الأسباب التي تدفع بالكنيسة إلى الانسحاب من "الدولة", ومحاولات التقوقع والاحتماء داخل خندق "الطائفة", رغم تطور مفهوم "الدولة العصرية" من نظام "الملة", الذي كان معمولا به قبل أكثر من قرن من الزمان, إلى نظام "المواطنة", الذي يتعامل مع جميع أبناء الوطن على قدم المساواة.
و"الدولة والكنيسة" هو الكتاب الثالث للمستشار طارق البشري, القاضي والباحث والمؤرخ المعروف, الذي يتعرض فيه للشأن القبطي في مصر, بين أهمية "الاندماج" و"المشاركة" في مؤسسات الدولة وتياراتها السياسية العامة, وبين خطورة "الانعزال" و"التقوقع" داخل "الطائفة" أو "الملة", سواء في الحاضر أو في المستقبل.
وتتميز كتابات البشري بوجه عام, بالأسلوب الموضوعي الذي يجمع بين دقة الباحث المتمرس, وحيادية المؤرخ الرصين, وعدالة القاضي الخبير, وحرص الوطني الغيور.
رفض أحكام القضاء
ويتكون الكتاب من خمسة فصول، حيث يناقش الفصل الأول ظاهرة نزوع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية خصوصا في السنوات العشر الأخيرة, إلى رفض أحكام القضاء المصري, حتى ما كان منها يتفق مع أحكام لائحة "المجلس الملي" التي أقرت في العام 1938, ومن بين الأحكام التي رفضت الكنيسة قبولها الحكم بأحقية أحد الرعايا الأقباط في الحصول على تصريح بالزواج بعد أن طلق زوجته وفقا للقانون الكنسي, وحكم آخر في نفس المجال, رد عليهما الأنبا شنودة بأنه "لا أحد يلزمنا بغير تعاليم الإنجيل"، وقال أسقف عام الجيزة أيضا "نعلن رفضنا لأي قوانين وقرارات وأحكام تلزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمخالفة شرائع وتعاليم الكتاب المقدس".
لكن المؤلف يرى أن هذه الأحكام ليست بذات شأن في حجمها, لكن الكنيسة استغلتها لإعلان الخروج على الشرعية التي تقوم عليها أجهزة الدولة المصرية, وبالتالي فالمسألة هي مدى خضوع الكنيسة المصرية, بوصفها إحدى هيئات المجتمع المصري, لسلطة الدولة المصرية, ولا شك في أن أحكام الإنجيل تسري في العبادات على المسيحيين, ولكن الكنيسة أطلقت الأمر إلى بقية الجوانب التي ينظمها القانون المصري.
ويلحظ البشري في هذا الإطار شدة الحرص من جانب الكنيسة على الاستحواذ على أرض واسعة تضمها للأديرة, فهناك مثلا دير "الأنبا أنطونيوس" على ساحل البحر الأحمر استحوذ على 1500 فدان (الفدان 4200م2), واستحوذ دير "أبو مقار" في وادي النطرون على 2700 فدان, ودير "مار يوحنا" بطريق القاهرة-السويس مساحته مائة فدان, ودير "أبو فانا" بمحافظة المنيا ضم إلى مساحته 552 فدانا, وهكذا, فما السبب الواضح لضم كل تلك المساحات لأماكن العبادة؟!
وتحت عنوان "الكنيسة والانعزال القبطي"، يتحدث المؤلف في الفصل الثاني عن الحساسية المفرطة التي تواجه بها الكنيسة ما تعده مساسا بعقائدها, مثل ملاحقة المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة قضائيا على رأي نقله عن المستشرق المعروف "مونتغمري وات", ثم لا تتعامل بنفس المنطق مع ما يمس المسلمين وعقائدهم من جانب الأقباط, ومنها ذلك العرض المسرحي الذي قامت به كنيسة في منطقة "محرم بك" بالإسكندرية, وسجل ونشر على أسطوانات مدمجة, وهذا العرض "مليء بالكراهية والسخرية، مما يعتبره المسلمون مقدسات, بل على رأس مقدساتهم, مما يفتح بابا للفتنة لا يمكن تجاهله".
الانعزال القبطي
وتوحي ممارسات الإدارة الكنسية أنها تقيم من الأوضاع ما يحجب شباب القبط عن الاندماج في الجماعة الوطنية (الدولة), أي أنها تقوم بتكريس عوامل الانعزال القبطي عن المجتمع, وهذا ما يفسر كيف أن شباب القبط عندما تثيرهم ثائرة, يهرعون إلى ساحة "الكاتدرائية" دون غيرها من مؤسسات الدولة.
ويشير المؤلف في الفصل الثالث إلى أن "المسألة القبطية" كان يوظفها العلمانيون في الجدل الدائر مع الإسلاميين حول موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية, حيث كان العلمانيون يرون أن الشريعة الإسلامية لا تضمن المساواة بين مختلفي الديانة من المواطنين, وهو استخدام -كما يقول المؤلف- يصدر عن عدم المسؤولية في مراعاة موجبات التماسك الوطني, لأن الإسلام في مصر ثابت وباق, ودعوة تطبيق الشريعة الإسلامية كلما قمعت لا تلبث أن تقوم من جديد أقوى مما كانت.
وهذه الحقيقة توجب على المنشغلين بأوضاع المواطنة وتماسك الجماعة السياسية أن يساعدوا الإسلاميين في الوصول إلى الحلول, لا أن يضربوهم بسلاح "القبطية"، ويؤججوا الوقيعة بين من يستحيل أن يتنازلوا عن أصل إيمانهم من المسلمين والأقباط, ويثيروا العداء بينهم.
وكان الأقباط يميلون إلى أصحاب التوجه العلماني في هذا الموقف, لكنهم لم يظهروا بوصفهم قبطا في مسألة تطبيق الشريعة, وبدأ هذا الأمر يتغير في الفترة الأخيرة, وأسفر عن نفسه سفورا لا يحتمل شكا بأن "رفض تطبيق الشريعة الإسلامية وإسلامية الدولة المصرية" هو موقف يصدر عن "مطلب قبطي", وأن الشريعة الإسلامية تتناقض مع مبدأ المواطنة, رغم أن النص الدستوري على "إسلامية" الدولة, تكرر في دساتير مصر على مدى القرن العشرين, وبقي نص المادة الثانية على حاله لم يشمله التعديل طيلة الفترات التي تم فيها تعديل أو إنشاء دستور جديد, لكن اطراد حديث الجانب القبطي يفيد الإصرار على نفي دلالات المادة الثانية باسم "المواطنة"، وإثارة التناقص بين المواطنة وإسلامية الدولة.
ويكاد يكون هذا هو الموقف الذي تسوّده الكنيسة بين الأقباط, وكان تركيز المطالب القبطية حسب السائد في فترات التاريخ الماضية, متعلقا في الأساس بموضوع المساواة والمشاركة في الشؤون الوطنية العامة وفي التوظيف وفرص العمل, وكان وضع المسألة في هذا الإطار يبعد العلاقة الإسلامية المسيحية من جوانب التناقض والاحتكاك العقيدي.
المعبر عن الأقباط
ويشير الكتاب إلى أن الإدارة الكنسية، في سعيها لأن تكون المعبر الوحيد عن الشأن القبطي في مصر منذ تولي الأنبا شنودة كرسي البابوية, تعمل على جذب الأقباط في مجالات الأنشطة التي ترعاها الكنيسة, ليتجمعوا وحدهم فيها, وليتحقق التشكيل الجمعي المغلق على نفسه تحت سيطرتها المنفردة, وهذا الأمر يستوجب تكاثرا في عدد الكنائس والمحال الملحقة بها لأنشطة الرياضة (بدلا من النوادي) والتعليم (بدلا من المدارس العامة) والتدريب على المهن والحرف (بدلا من المعاهد العامة) والتجمعات (بدلا من الجمعيات المشتركة).
ويشدد البشري على أن العلاقات الخاصة بالجماعة الوطنية لا يجوز النظر إليها في إطار أوضاع سياسية تتعلق بنصر أو هزيمة في ظروف قصيرة المدى, لأن حساباتها ينبغي أن تكون على أساس الآماد البعيدة.
ويتحدث الفصل الرابع عن المادة الثانية من الدستور المصري التي تنص على أن "الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع", مؤكدا أن هذه المادة بصيغتها تلك تحقق "الإسناد الشرعي الإسلامي لمبدأ المساواة التامة بين المواطنين, المسلمين والمسيحيين, في تولي الوظائف العامة، والمشاركة الكاملة في ممارسة الولايات العامة, وفي تولي المناصب ذات الشأن العام.
وهذا النص أيضا يشكل مرجعية إسلامية لكل المبادئ الواردة بالدستور، المتعلقة بالمساواة وحقوق المواطنين, ومبدأ المواطنة يجد دعامته المستقاة من أحكام الشرع الإسلامي بموجب المادة الثانية, ويستبعد أي زعم بأن مبدأ المساواة بين المواطنين متعارض مع الشرع, وأنه مبدأ لا يميله إلا الفكر الوضعي المنفصل عن الدين, ومن ثم فهو يقيم بناء المواطنة بعيدا عن التوترات العقيدية.
ويضيف البشري أن وجود نص المادة الثانية بين نصوص الدستور إنما يجعل حكم الدستور دائرا في تفسير كل نص بما يفضي به النص الآخر، ومن ثم يكون ملزما -من وجهة النظر الدستورية في تفسير مصدرية الشريعة الإسلامية للقوانين- أن يكون ما هو دستوري من هذه المصدرية ما يتجانس مع مبادئ الدستور وأحكامه الأخرى, في نطاق ما تسعه مبادئ الشريعة الإسلامية من وجهات نظر.
أما إذا ألغينا هذه المادة, فإن الدستور يفقد هذه الصلة الوثيقة بين المبادئ, التي يحرص على تثبيتها لدى الجماعة السياسية، وبين مبادئ الشريعة الإسلامية فيما تسعه من أحوال ومبادئ.
نفس الأجواء
ويشير المؤلف في الفصل الخامس الأخير إلى ملاحظة هامة، وهي أن الأجواء التي استقبلت بها مصر القرن العشرين فيما يتعلق بالمسألة القبطية هي نفس الأجواء التي استقبلت بها القرن الحادي والعشرين, ومن يطالع صحيفة "وطني" التي تصدر في هذه السنين الأخيرة عن المسيحيين, ويقارن ما تكتبه مع ما كتبته صحيفتا "مصر" و"الوطن" في بدايات القرن الماضي, يلحظ أن النغمة واحدة, من حيث التهييج والإثارة, كما يلحظ أن العنصر الإثاري الأجنبي واحد, الأول كان بريطانيا، والأخير صار أميركا, ويلحظ توجه حركة الإثارة إلى الخارج في الحالين.
ويقول البشري إنه من طول دراسته لموضوع الأقباط وعلاقتهم بالدولة، أدرك أن مثيري الشقاق كانوا دائما موجودين وخططهم هي هي, وعدم مراعاتهم لضوابط الوجود الوطني وحدود الصالح العام, كل ذلك هو هو, ولكنه في الأغلب يحدث في دوائر النخب من المثقفين أو الساسة أو رجال الأعمال, أما القسم الآخر وهم الكثرة الغالبة من الأقباط فهم مندمجون مع المجتمع والدولة.
الكتاب إذن هو صرخة تحذير من انعزال الكنيسة القبطية المصرية عن مؤسسات الدولة والمجتمع، ومحاولة الدخول في قوقعة الطائفة, والتعامل بشيء من الاستقلالية عن مؤسسات الوطن, وهذا هو الخطر الحقيقي الذي ينبغي الالتفات إليه في مصر في هذه الفترة.
------
المصدر: الجزيرة ـ 20يونيو 2011
اسم الكتاب: بين الدين والسياسة، الإسلاميون في البرلمانات العربية
اسم الكاتب: ناثان ج. براون، عمرو حمزاوي
دار النشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
عن جهد مشترك لناثان ج. براون وعمرو حمزاوي صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب: «بين الدين والسياسة» الإسلاميون في البرلمانات العربية، وفيه يغوص براون وحمزاوي في التجربة البرلمانية للإسلاميين: ما الذي جعلهم يقررون مضاعفة انخراطهم في السياسة البرلمانية؟ وكيف تصرّفوا بالمقاعد التي فازوا بها.. إلى الكثير من الأسئلة مع استعراض الكاتبين في فصول الكتاب نوعاً من سياسة «المنزلة بين المنزلتين» للأنظمة التي تتلاعب بالإجراءات الديموقراطية.
------
المصدر: السفير ـ 15 يونيو 2011
اسم الكتاب: المملكة من الداخل (تاريخ السعودية الحديث: الملوك– المؤسسة الدينية– الليبراليون والمتطرفون)
الكاتب: روبرت ليسي
ترجمة: خالد العوض
دار النشر: مركز المسبار للدراسات والبحوث
عدد الصفحات: 698
الطبعة: الأولى: يناير/2011
أثارت النسخة الإنجليزية لكتاب "المملكة من الداخل" الصادر في نهاية 2009، للمؤرخ والصحفي البريطاني روبرت ليسي، الكثير من الحديث داخل أوساط "النخب الثقافية والسياسية في المملكة"، ومنع من التداول في ذلك الوقت، ومنعت النسخة العربية أيضاً التي صدرت حديثاً، ولم يسمح بدخولها في المعرض الدولي للكتاب بالرياض الذي نظم في مارس/آذار الماضي.
وكان ذلك المنع قد حدث مع كتاب ليسي الأول عن السعودية بعنوان "المملكة" الذي نشره عام 1982، وحظرته حينها الحكومة السعودية، وسجلت عليه وزارة الثقافة والإعلام 97 ملاحظة واعتراضاً، تركزت على جوانب دينيةٍ وثقافيةٍ وسياسية.
وبدوره رفض المؤرخ البريطاني حذف فقرات تتناول بعض "الحقائق التاريخية"، خاصة حول الاختلافات التي حدثت بين أبناء عبد العزيز (الأمير فيصل والملك سعود)، والتي انتهت بخلع الأخير من العرش 1964.
تفاصيل حيوية
ذلك الحظر الحكومي أبعد ليسي عن السعودية لمدة 25 عاماً، ليعود إليها في 2006، ويمكث فيها ثلاث سنوات لاستكمال مشروع كتابه الجديد "المملكة من الداخل"، موثقاُ فيه تاريخ السعودية الحديث، لثلاثين سنة مضت (1979-2009)، محاولاً العيش والدخول بين دهاليز نسيج المجتمع المحلي بأكثر ما يستطيع فعله أي أجنبي، دون أن يفقد وجهة نظره كأجنبي –كما يقول- وبمساعدة شخصية من نائب وزير الداخلية الحالي الأمير أحمد بن عبد العزيز الذي رتب له "إقامة نظامية" بمهنة "مؤلف"، والتي قال عنها ليسي "بحسب ما أظن أنها المرة الأولى والأخيرة التي تُمنح فيها الإقامة السعودية تحت هذا المسمى.
عشت سنتين في جدة، وسافرت في أنحاء المملكة، وعاصرت اللحظات المهمة في تاريخ السعودية في نهاية السبعينيات، الثورة الإيرانية، احتلال المسجد الحرام، بدء الغزو السوفياتي لأفغانستان وبداية فترة الجهاد".
من يقرأ تفاصيل الكتاب، يجد -من "قريب أو بعيد"- أن الكتاب ربما كما يقول البعض عنه إنه يحمل "تلميعاً أو تحسين الصورة الذهنية للأسرة السعودية المالكة"، إلا أن ليسي يدافع عن ذلك بقوله "ليس صحيحا، لو امتدحت المملكة بالشكل الذي يصوره البعض، لكان الكتاب مسموحا ببيعه منذ أول يوم لصدوره، لكنه حتى اللحظة ممنوع من البيع والنشر داخل السعودية".
ويلخص المؤرخ البريطاني رأيه في تلك الفترة من تاريخ السعودية بقوله: "لقد كان تطور السعوديين خلال العقود الثلاثة الماضية نهضوياً في بعض المجالات، إلا أنه صادم ومدمر في مجالات أخرى، إنها قصة دراماتيكية مهمة".
الاهتمام بتاريخ المملكة
ويقول ليسي -في حوارات أجرها في ديسمبر/كانون الأول في عامي 2009، و2010- "بدأت قصتي مع السعودية عندما كتبت كتاب "ماجيستي" عام 1977، كسيرةٍ ذاتية للملكة إليزابيث الثانية، وصار الأكثر مبيعاً في وقتها والأشهر عن طبيعة الملكية في المملكة المتحدة".
ويضيف "اعتبرت الملكيات والعائلات المالكة حول العالم شيئاً ممتعاً ومثيراً للاهتمام، يحب الناس قراءته والاطلاع على تفاصيله".
وأضاف ليسي "أنه مع بداية السبعينيات، بدأ العالم في تسليط الضوء على الرياض، فالنفط كان محور الاهتمام، وارتفاع أسعار النفط من دولارين في بداية تلك الفترة إلى 34 دولارا جعل العالم يتحدث عن السعودية والنفط السعودي، وانطلقت المقالات في وسائل الإعلام تكتب عمن أطلقت عليهم لقب "شيوخ النفط"، وبدأت في إثارة المخاوف حولهم وحول دولتهم التي تملك معظم نفط العالم، عندها شعرت بأن الموضوع ممتع وجديد وتمكن الكتابة عنه، فالملكية في السعودية لم تكن رمزية بل كانت قوية وتملك نفوذاً كبيراً".
سرد ليسي قصة السعودية على شكل بانوراما ضخمة من الأحداث في سياق تاريخي حي، بكل أنماطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبدقة متناهية جداً.
قدم المؤرخ البريطاني شخصيات كتابه "كأبطال أو شهود عيان" اعتمد عليهم في رواية تفاصيل أحداث "القصة الكاملة الحقيقية" عن هذا البلد، الذي ظل إلى هذا الوقت تحت عدسات "الإعلام العالمي"، ومنهم جمال خاشقجي، ومنصور النقيدان، وخالد باحادق، وفؤاد الفرحان، و"الجهادي" خالد الحبشي، وزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن الذي كان حاضراً بشكل واسع في كتاب المؤرخ البريطاني.
قوة الكتاب تتمحور في المزج "بين المعلومات ورسم تفاصيل المشاهد الواقعية، التي أشارت إليها مصادر الكتاب الحيوية من الشخصيات"، والذي نجح من خلاله ليسي في إضفاء حالة من "الدراماتيكية والاستمرار"، في إثارة الانتباه من قبل القراء.
عودة المعارضة الشيعية
ولعل الجديد الذي أتى به الكتاب، هو انعدام أو -على أقصى تقدير- عدم شيوع الكثير من التفاصيل التي حواها الداخل السعودي، والتي يعد بعضها في خانة "الممنوع سياسياً تداوله"، عبر دوائر النشر المحلية أو حتى الرسمية.
ومن تلك التفاصيل المهمة -التي تعد ذات مغزى وأهمية في تاريخ المرحلة السياسية المعاصرة للمملكة السعودية- ما يتعلق بالمعارضة الشيعية وهروبها إلى الخارج، وتصعيدها وتيرة معارضتها "للنظام السعودي"، والمراحل التي مرت بها خارجياً وحتى عودتها بعد اتفاق مباشر، مثله حينها رئيس دائرتها السياسية الدكتور توفيق السيف، والعاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز في 22 سبتمبر/أيلول 1993 بمدينة جدة.
ويقول الكتاب إن "الشيخ حسن الصفار قاد في صيف 1990 أشرس معارضة واجهها النظام السياسي في المملكة بفضل التغييرات التي أحدثتها حركته في أعقاب مغادرتها إيران، إذ ترك الصفار وأتباعه فكرة الثورة الإسلامية التي ترتبط بحركة الخميني، وقدموا أنفسهم بمصطلحات عالمية، (بعد أن غيروا مسماهم السابق "منظمة الثورة الإسلامية") إلى اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في الخليج والجزيرة العربي، وهو وتر حساس عزفوا عليه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي".
ويستشهد صاحب الكتاب بمقولة مؤرخ الحركة الشيعية فؤاد الإبراهيم عن أن المصطلح الجديد جذب الإعلام الأميركي مثل المغناطيس، ووصلت استفسارات من الأمم المتحدة، وبدأت منظمات عالمية -كالعفو الدولية، وحقوق الإنسان- تتعاون مع الحركة في التصعيد.
ويستذكر الكتاب موقفا حدث في الشهور الأولى من 1990 في افتتاح معرض دعائي للسعودية بعنوان "المملكة العربية السعودية بين الأمس واليوم"، في عدد من المدن الأميركية، إلا أن الناشطين الشيعة في واشنطن أسسوا جهازا جديداً للمعارضة متخصصا في حقوق الإنسان، وفاجؤوا الأمير سلمان بن عبد العزيز حاكم الرياض والرجل القوي بمظاهرات وترديد شعارات معادية لهم في كل مدينة أقيم فيها المعرض، مثل "سلمان يا سلمان.. فين حقوق الإنسان"، هكذا يصرخ الشيعة السعوديون بغضب -وفقاً للكتاب- ويخفون صورهم خلف أشمغتهم.
إلا أن تغييراً تدريجياً حصل بعد حرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت)، فأوقفت جميع نشاطات الحركة الشيعية المعارضة، ودعم تحالف الرياض العسكري المثير للجدل مع أميركا، وهو الذي فجر الأوضاع داخلياً بعد رفض من يطلق عليهم "مشايخ الصحوة" لهذا الاتفاق وقدموا الالتماسات والمعاريض التي تحوي نقدهم الشديد له، لتجري بعدها حوارات غير مباشرة بين ممثلين للمعارضة وطرف حكومي.
جرت المقابلة الأولى في عاصمة الضباب لندن في عام 1992، للوصول لصيغة مشتركة وحلول وسط مع الرياض، ثم تقدمت المفاوضات خطوة إلى الأمام في عام 1993، عندما تم إبعاد عبد العزيز التويجري كمحاور واعتماد آخر محله هو عثمان العمير، رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط الأسبق (يعمل حالياً رئيس تحرير شبكة إيلاف الإلكترونية)، والذي جاء إلى الشيعة كممثل شخصي للملك فهد، وكانت مهمته هي أن ينقل الفريق المفاوض إلى جدة من أجل حديث مباشر وجهاً لوجه مع الملك.
ويقول عضو في الفريق المفاوض يدعى صادق الجبران إنه "كانت لدينا ثلاثة شروط أولية قبل الذهاب"، منها "إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، وإعادة جوازات السفر المصادرة والملغاة، وعفو عام عن جميع المنفيين الشيعة، وعودتهم للوطن من دون استجواب"، ويضيف "لم نصدق، وافقوا على جميع الشروط".
وفي جدة تم اللقاء مباشرة مع الملك فهد بحضور نجله الأكبر محمد أمير المنطقة الشرقية، والأمير بندر بن سلطان سفير الرياض السابق في واشنطن، والأمين العام للمجلس الوطني الحالي.
وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز كان لديه تحفظ على الاتفاق، وكانت عنده تقارير استخبارية تفيد بمساعدة الإيرانيين للحركات الشيعية داخل المملكة، فيما رأت أطراف شيعية أخرى أن الشيخ الصفار –بعد مرور سنوات- ضحى بجهود المتظاهرين بشكل سريع وثمن بخس.
الملك الحالي ورؤيا بن لادن
يشير ليسي -في صفحة 308، نقلا عن أحد مصادره- إلى "رؤيا منام" رواها أسامة بن لادن لأبي رضا السوري -وهو من أصحابه "المجاهدين" الذين بقوا معه فترة طويلة- عن الملك الحالي عبد الله بن عبد العزيز، وهي أنه بينما كان أسامة يمشي في حلمه حول مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ سمع فجأة أصوات احتفال في الخارج، فحاول أسامة أن ينظر فوق جدار طيني ليرى أمامه وصول ولي العهد السعودي للحشد، الذي يستقبله بالفرح والاحتفال والغناء".
وتفسير أسامة للرؤيا هي "أن عبد الله سيصبح ملكاً وسوف يريح الناس ويجعلهم سعداء، وإذا أصبح ملكاً فسأعود بعدها". وفي محور يؤكد ليسي أن حملات المعارضة الشرسة التي قادها الشيعة في التسعينيات الميلادية استثنته من هجومها الحاد.
الكتاب يحمل العديد من التفاصيل المهمة خاصة في علاقة السلطة بالعلماء السلفيين، الذين خصص لهم ليسي مساحات واسعة في كتابه، إلى جانب تفعيل القيادة السياسية مبدأ "البراغماتية النفعية"، في تعاملها مع العديد من المواقف.
أيضاً يبرز مفاصل أخرى من العلاقات الأميركية السعودية، ومواقف "الطلاق الرجعي" في مواقف الدولتين، ويسلط الضوء أيضاً على عملية الإصلاح الداخلي وما تعرض له بعض المطالبين به في الداخل من حملة اعتقالات سياسية، ويغوص ليسي في عدة موضوعات اجتماعية يبرز من خلالها آلية التفكير الاجتماعي التي تمر بها المملكة في تاريخها الحديث.
-----
المصدر: الجزيرة ـ 10يونيو 2011
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما تعبر عن رأي أصحابها
اسم الكتاب: في المعرفة والثقافة والعولمة
اسم الكاتب: عاطف عطية
دار النشر: دار نلسن
قدم الكاتب عاطف عطية، في إصداره الجديد الصادر عن «دار نلسن» «في المعرفة والثقافة والعولمة» دراسات في سوسيولوجيا المعرفة والثقافة، لكون العنوان يوحي بالعمومية أكثر مما يوحي بالخصوصية. فصول الكتاب تتناول مسائل معرفية محلية ووطنية أكثر مما تتناول مسائل عالمية، أو مسائل تهم المعرفة الإنسانية بشكل عام.
----
المصدر: السفير ـ 1يونيو 2011
لماذا فشلت بلدان المجلس التعاوني الخليجي في تحقيق التنمية والأمن عبر أكثر من أربعة عقود؟ لماذا ظلت في مؤخرة الدول المتحضرة فيما كان يمكن أن تكون في مقدمة هذه الدول لو هي استخدمت ثرواتها النفطية الهائلة في صالح نهضة شعوبها وتقدمها؟ كيف تهدر هذه الثروات وتتبدد فيما الشعوب متخلفة ومفتقدة حقوقها الانسانية والسياسية والاجتماعية؟
أسئلة إشكالية تصدى للإجابة عنها يوسف خليفة اليوسف في كتابه "مجلس التعاون الخليجي مثلث الوراثة والنفط والقوى الأجنبية" مركز دراسات الوحدة العربية 2011، حيث ذهب الى ان فشل بلدان المجلس يمكن اختصاره في نظمها السياسية الوراثية وافتقاد هذه النظم للرقابة المجتمعية واعتمادها على القوى الأجنبية.
فالنظم السياسية التي تحكم بلدان المجلس تركز السلطة والثروة في يد أسرة واحدة على أساس الوراثة، لا على أساس الجهد والكفاءة، حيث ثمة ازدواجية في المواطنة بين مواطنة من الدرجة الأولى لأبناء الأسر الحاكمة، ومواطنة من الدرجة الثانية لبقية أفراد المجتمع، وتنص دساتير هذه البلدان على أن الحكم حكر على هذه الأسر، وعلى امتيازات مالية تختص بها دون سواها، في ما يعتبر استحواذاً غير شرعي وغير مبرر على ثروات الشعوب. ففي الكويت مثلاً تصل مخصّصات أسرة الصباح الى 173 مليون دولار من دون أي مبرر. أما في بقية البلدان كالإمارات وقطر والسعودية وعمان والبحرين، فالصورة أسوأ، حيث تنهب ثروات هذه الشعوب من غير علمها حتى انه ليست هناك حدود ولا ضوابط على عملية النهب، إذ تصل في بعض البلدان الى استباحة تامة لثروات المجتمع من غير حسيب ولا رقيب. ويقدر الباحث الخليجي علي خليفة الكواري نسب الأسر الحاكمة من الموازنات بـ25,7 في المئة في أبو ظبي و29,3 في المئة في البحرين و32,8 في المئة في قطر و12 في المئة في السعودية. بل إن هناك من يعتقد أن النسب الحقيقية أعلى بكثير من النسب المذكورة. وقد أشارت بعض المصادر الى أن أحد أفراد الأسرة السعودية الحاكمة كان يتسلم نصف مليون برميل نفط في اليوم، والى ان بعض الأمراء السعوديين الذين يتقلدون وظائف رئيسية كانوا يحصلون على 100 مليون دولار في العام. ويشير باحث غربي في بداية الألفية الثالثة الى ان ما يُدفع الى الأمراء السعوديين ورؤساء القبائل المتحالفين معهم يصل الى ما بين 15 و20 في المئة من ميزانية الدولة. وفي دراسة لعلي الكواري أن المبالغ التي لا تدرج في الموازنات العامة في أربعة من بلدان مجلس التعاون تقدر بالمليارات وقد وصلت في السعودية في العام 2007 الى 56,4 مليار دولار أو 27,4 في المئة من قيمة صادرات النفط والغاز. أما في الإمارات فقد بلغت 14.6 مليارا أو 17,3 في المئة، وفي قطر 20,5 مليارا أو 50,4 في المئة من هذه الصادرات.
هذه البلدان التي تنعدم فيها الرقابة الفعلية وتغيب فيها الشفافية ويتعدى صانعو القرار على ثروة المجتمع، ليس مستغرباً أن تكون مرتعاً للفساد. وقد جاءت في مستويات عالية من الفساد بين دول العالم الـ180 ـ السعودية 83 الكويت 66 البحرين 43 عمان 42 الإمارات 35.
ويستنزف الإنفاق العسكري ثروات بلدان المجلس من دون مبرر منطقي، حيث بلغ متوسط هذا الإنفاق بين عامي 1990 و2000 نسبةً الى الناتج المحلي 11 في المئة في السعودية و25,3 في المئة في الكويت و13,9 في المئة في عمان بينما لم تتجاوز هذه النسبة 4,5 في المئة في تركيا، الدولة الإقليمية المحورية لحلف الناتو.
وما كان لهذا الهدر للموارد والطاقات أن يتم لو كان ثمة مساءلة ديموقراطية في بلدان المجلس التي هي أقرب الى دولة الحزب الواحد منها الى بلدان عصرية، حتى إن العلاقة بين الحاكم ونخب المجتمع الخليجي اتصفت قبل النفط بشيء من التوازن على عكس ما هو حاصل بعد النفط حيث استخدم الحاكم الثروة النفطية في تهميش بقية شرائح المجتمع.
في تقييم السياسات النفطية رأى المؤلف أن العلاقة غير متكافئة بين البلدان المنتجة للنفط وشركات النفط العالمية التي جهدت لإبقاء الصناعة النفطية تحت هيمنتها من خلال عقودها المجحفة في حق البلدان المنتجة، كما أن الكيفية التي أُنفقت بها إيرادات النفط لم تحقق التنمية المستدامة وبناء إنسان خليجي منتج يستطيع أن يعيش كريماً بعد نضوب النفط، بل إن اقتصاديات بلدان المجلس ما زالت اقتصاديات نفطية معتمدة على النفط كمحرك أساسي لنشاطها الاقتصادي، وما ذلك إلا لأن جهود حكومات المجلس ظلت مشوبة بالحذر وعدم الاطمئنان الى شعوبها.
إصلاحات
ثمة إصلاحات يتطلبها تصحيح مسار بلدان مجلس التعاون الخليجي لها أبعاد محلية وإقليمية وعالمية. فمن الضروري اولاً ترميم العلاقات بين الحكومات وشعوبها والتشديد على الوحدة الخليجية وتعميقها لما لذلك من مكاسب اقتصادية وأمنية. إلا أن الوحدة الخليجية وإن كانت تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح تبقى غير كافية لتحقيق الأهداف التنموية والأمنية المنشودة لاعتبارات سكانية واقتصادية، ما يجعل الالتحام بالنظام الاقليمي العربي ضرورة للبقاء وشرطاً للتنمية المستدامة في بيئة مستقرة من غير أخطار وحروب متتالية. بهذا يتحقق الوجود الفاعل في المنظمات الدولية التي تؤدي دوراً متزايداً في عالم متعولم ومتجه الى مزيد من الاندماج والتفاعل، ما يجعل هذه المؤسسات الدولية أكثر تفاعلاً مع القضايا العربية الإسلامية.
لكن قبل هذا كله يتحتم على حكومات بلدان مجلس التعاون الخليجي، كما يتحتم على غيرها من أبناء المنطقة، التحول من الاستبداد الى الحرية، وأن يكون مثقفونا قدوات تضيء دروب الأجيال بدل أن يكونوا وصوليين، وان يكون رجال أعمالنا رواداً في الصناعة والتجارة والتقدم العلمي، وفي بناء الثروات النافعة، بدل ان يكونوا سماسرة للشركات الدولية، وأدوات للأنظمة المستبدة. وأخيراً يتحتم على شعوبنا أن تصبح واعية وعاملة، تكسب رزقها بعرقها، وتطالب بحقوقها كاملة غير منقوصة، بدل أن تنتظر الهبات والعطايا، في وقت تسطّر فيه شعوب العالم صفحات من الجهد المثمر والنضال المشرف من أجل الحقوق المشروعة.
ختاماً نرى أن الكاتب يقدّم إسهاماً فعلياً في قراءة إشكالية الدولة العربية وعلاقتها المأزومة مع شعوبها وقصورها في الارتقاء بمجتمعاتها نحو الحرية والانتاج والاندراج في العالم المعاصر من خلال دراسته الشاملة والموثَّقة لدول مجلس التعاون الخليجي. إلا أننا نرى في المقابل أن إشكالية الفساد والاستبداد والاستئثار بالسلطة وهدر الطاقات ليست حكراً على هذه الدول، وهي السمة العامة والسائدة في الأنظمة العربية عموماً، بل إن دولاً مسماة "جمهورية" مارست وتمارس انتهاكات للديموقراطية وتعديات على المال العام واستئثاراً بالسلطة قد يتجاوز ما هي عليه الحال في مجلس التعاون، ولعل في نظامي مبارك وبن علي الآفلين خير مثال على ذلك. الأمر الذي يتطلب في رأينا تحولاً جذرياً في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية، وكذلك في الثقافة العربية بالذات، ورؤية الانسان العربي للسلطة السياسية ومصدرها وموقع الفرد والجماعة من شرعية الدولة والحكم.
-----------
السفير - 12 مايو 2011
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما تعبر عن رأي أصحابها
اسم الكتاب: كيف ينظر الإسلاميون إلى بعضهم
الكاتب: مجموعة من الباحثين
دار النشر: مركز المسبار للدراسات والبحوث
عدد الصفحات: 698
الطبعة: الأولى - 2011
يستعرض الكتاب الخامس والخمسون لمركز المسبار للدراسات والبحوث نظرة بعض الحركات والجماعات الإسلامية إلى بعضها، ومدى تعايشها مع التعدد وانسجامها معه، سواء في مصر أو تونس أو إيران أو غيرها.
وتبقى القضية التي يتناولها الكتاب حساسة نتيجة لصورة الكمال التي حاولت الحركات والتيارات الإسلامية تقديم نفسها فيها، ولكن الانضباط الخلقي وتفادي إعلان الخلاف للجمهور لم يكن دائما محل إجماع عند نظرائهم وأقرانهم في الضفة الأخرى من المنشقين.
وبالإضافة إلى الأبحاث التي تناولت الفكرة الرئيسية للكتاب والتي أعدها مجموعة من الباحثين، فهو يضم أيضا فصلا عن التباين بشأن مفهوم الدولة في مقالات الإسلاميين، وآخر يعرض كتاب "الإخوان المسلمون.. رؤية اشتراكية" للمؤلف سامح نجيب، والحديث عن تداعيات مقتل أسامة بن لادن.
التيارات الإسلامية في مصر
يتناول الباحث أشرف عبد العزيز عبد القادر في بحثه الرؤى المتبادلة بين التيارات الإسلامية المختلفة في مصر، وقسمه إلى ثلاثة محاور رئيسية، يتناول أولها موقف حركات الإسلام السياسي التي تمثلها بالأساس جماعة الإخوان المسلمين، تجاه الإسلام التقليدي الذي يقوده الأزهر.
ويذكر الباحث أن جوهر الخلاف بين الإسلام التقليدي والسياسي أن الأول لا يمارس السياسة ويقوم على طاعة ولي الأمر، ويحصر وسيلة التغيير في الدعوة عبر الخطب والدروس الدينية، في حين ينخرط الثاني في العمل السياسي بهدف الوصول إلى السلطة.
واتسمت العلاقة بين جماعة الإخوان والأزهر بداية بالتأييد المتبادل، ولكنه تغير وبرز التناقض بينهما نتيجة لمحاولات الجماعة فرض رؤيتها على طريقة نهج الأزهر في التعامل مع الشؤون الداخلية، مع محاولات نشر الفكر الإخواني داخل جامعة الأزهر، والمناداة بإصلاحات في مؤسسة الأزهر.
وبما أن إعداد هذا البحث كان قبل ثورة 25 يناير المصرية، فقد أورد الباحث أن المعادلة في طريقها إلى التغير، لما أسماه مؤشرات ضعف جماعة الإخوان في مقابل بدايات لعودة مكانة الأزهر.
وانتقل الباحث إلى الحديث عن المتصوفة في مصر وأنهم يبتعدون عن كل ما له علاقة بالسياسة ويتمسكون بربانياتهم الخالصة، مما جعلهم في الوقت ذاته مستأنسين وينتجون خطابا دينيا تستخدمه السلطة لمواجهة الراديكالية والإسلام السياسي، مقابل الحماية التي تسبغها السلطة على الصوفية.
وفي محوره الثالث، أشار الباحث إلى مختلف الانشقاقات داخل جماعة الإخوان وهي انشقاقات نتج عنها وجود أربعة تيارات مختلفة داخل الجماعة يتبنى كل منها رؤية مختلفة، سواء تجاه الآخر أو بالنسبة لدور الجماعة وشكلها المستقبلي، وهي: التيار التقليدي والإصلاحي والقطبي والتجديدي.
ويرى أن سيطرة التيار المحافظ على شؤون الجماعة من شأنه الدفع بها إلى مرحلة من الانكماش والعزلة عن المجتمع.
الإسلامية الأردنية
وتحت عنوان "الإسلامية الأردنية.. المواقف المتبادلة والدلالات" يرى الباحث محمد مصطفى أن تيارات دينية مختلفة تتكاثف وتتوزع في الأردن، وهي تتبنى أفكارا متنوعة وآراء سياسية متضاربة في كثير من سياقاتها الحساسة، بالنظر إلى الموقف من الأحداث الداخلية والخارجية.
ويستعرض الباحث أولا السلفية الألبانية التي تستند بشكل رئيسي إلى ثلاثة مبادئ رئيسية هي: التصفية والتربية وقانون الاتباع وترك العمل السياسي، وبالتالي فهي تنتقد بشدة مجمل الجماعات الإسلامية السياسية لتقديمها العمل السياسي، كالإخوان المسلمين وحزب التحرير.
ومن جهتها، تتفق السلفية الألبانية مع جماعة التبليغ والدعوة في أطروحتها الدعوية، واتباعها منهجا دعويا إحيائيا طهوريا يركز على القواعد الاجتماعية، مع نبذها العمل السياسي، لكنها تخالفها في علاقتها بالدولة.
فتقوم السلفية على مبدأ طاعة ولي الأمر، في حين تؤكد التبليغ والدعوة على عدم التعرض للدولة في دروسهم ومواعظهم، بينما تصل العلاقة مع الصوفية إلى حد القطيعة الحادة.
وتطرق الباحث إلى وجود ثلاثة تيارات رئيسية داخل الحركات السلفية الأردنية، هي السلفية التقليدية والسلفية الجهادية والسلفية الإصلاحية، وهي تختلف في توصيف الواقع وفهمه، وبالتالي كيفية تغيير هذا الواقع.
ويؤكد أن التيارات السلفية بالأردن تعيش حالة احتقان فيما بينها، فبينما تنافس السلفية التقليدية على كسب القاعدة الجماهيرية بسبب موقفها الإيجابي من النظام، يكون هذا سببا كافيا عند السلفية الجهادية لقطع أوصالها المعرفية معها.
وبينما تقوم السلفية الجهادية بسلسلة من المراجعات في قضايا استخدام العنف، يرى الإخوان أصالة منهجهم أمام التحولات في الخطاب السلفي بشقيه التقليدي والجهادي، وفي ظل هذا التدافع لم تجد السلفية الإصلاحية مكانا لها، ولم تقابل بنوايا حسنة من النظام.
وأبرز الباحث جماعات إسلامية أخرى في الأردن ليست لها مكانة سياسية، وإنما لها اهتمامات ثقافية واقتصادية واجتماعية، أبرزها جماعة الأحباش والطباعيات، حيث تتسم علاقة الأولى بالتصادم مع جميع التيارات لموقفهم التكفيري لمخالفيهم وتساهلهم الفقهي.
وتنطبع الطباعيات بخلفية صوفية نقشبندية، وأغلب أعضائها من النساء الثريات، وتلقي مواعظها خلال جلسات البيوت، وهو ما شجع الحكومة على تأييدها، لأنها مناكفة للتدين السياسي.
الإسلاميون التونسيون
وتحت عنوان "الإسلاميون التونسيون.. من الاختلاف إلى التعايش" يقول صلاح الدين الجورشي في بحثه إن التحدي الرئيسي الذي واجهته الجماعات والحركات الإسلامية التونسية يتمثل في مدى قدرتها على إدارة التنوع الذي تتسم به، وهل ستجعل منه عنصر إثراء أم تحوله إلى نقمة، وذلك باللجوء إلى الخصام والقطع والانشقاق والحرب الكلامية.
واستعرض الباحث في البداية ظروف نشأة الحركة الإسلامية التونسية مطلع سبعينيات القرن الماضي، إذ ولدت دون أن يكون لها علاقات فكرية أو سياسية مع النخب الحديثة، ولكنها ما لبثت أن واجهت بعد سنوات قليلة من الميلاد أول خلاف في صفوفها.
وانتقل الخلاف من كونه فكريا ليشمل أيضا منهج العمل وأسلوب التنظيم، لتبدأ عملية تشكيك واسعة في نموذج الإخوان، وصل إلى حد الدعوة إلى مراجعة منهجية التعامل مع النصوص المرجعية للإسلام والتجربة النبوية والتاريخية.
وأوضح الباحث أن الحركة الإسلامية التونسية رغم فشلها بداية في إدارة الخلاف داخل صفوفها، أوجدت من هذا الصراع الأيدولوجي حالة من الثراء غير المسبوقة لدى المجموعات المتنافسة. وانعكس ذلك إيجابيا على الحالة الإسلامية الناشئة بتونس، وعلى الساحة الوطنية، ووصل إلى نوع من الإقرار من قبل معظم التيارات الإسلامية بواقع التعددية في صفوف الإسلاميين.
ويرى الباحث في قيام الثورة الشعبية التونسية التي أطاحت بالرئيس بن على وتغير المناخ السياسي، فرصة للحركة الإسلامية لإعادة تنظيم صفوفها والتمتع بحقها في الوجود القانوني والمشاركة في صياغة المرحلة القادمة، مما اعتبره اختبارا حقيقيا لمدى قدرتها على التعايش مع بقية الأطراف الفاعلة في المجتمع التونسي.
السنة في لبنان
وينتقل بنا الباحث عبد الغني عماد للحديث في بحثه عن "الجماعات والتيارات الإسلامية السنية في لبنان.. المواقف والانقسامات والاصطفافات"، معتبرا أن اغتيال رفيق الحريري لحظة رأى فيها سنة لبنان أنفسهم مستهدفين في الصميم، دفع بالذاكرة السنية المكبوتة إلى العلن.
ويرسم الباحث خريطة القوى الإسلامية السنية وفق التجاذبات الراهنة على ثلاثة خطوط: الأول يضم خليطا من قوى سلفية وتجمعات إسلامية محلية وشخصيات وجمعيات، وهي تنظر بقلق إلى تنامي دور ونفوذ الشيعة في لبنان، خاصة في المناطق السنية سواء مباشرة أو عبر الحلفاء من الحركات الإسلامية السنية سياسيا وأمنيا، وتقابله بأعنف الحملات ضد معاوني الحزب في المناطق السنية.
وهذه المجموعات تدعم تيار المستقبل بمقدار دفاعه عن المناطق السنية وتنتقده حين يتخاذل عن هذا الدور، لكنها تعتبره المكلف بمهمة الدفاع السياسي عن الطائفة.
ويرى الباحث أن حزب الله نجح في اختراق بعض هذه المجموعات، وفتح حوارا مع بعضها، مما أدى إلى انقلاب بعض مواقف هذه المجموعات وأصبحت إلى جانبه.
أما الخط الثاني فيضم قوى وحركات إسلامية سنية متحالفة مع 8 آذار وحزب الله، وأبرزها جبهة العمل الإسلامي التي تضم في صفوفها حركة التوحيد الإسلامي بجناحيها، وبعض الهيئات قليلة الفاعلية، وجمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش)، رغم خطوط الصراع والتنافس السياسي بين الحركتين.
أما الخط الثالث فهو يحاول أن يميز نفسه بخطاب سياسي مستقل إلى حد ما، ويضع الباحث ضمنه الجماعة الإسلامية التي تتميز بعدم اتخاذ مواقف حادة، وبسعيها الدائم لفتح حوار مع حزب الله والحركات الإسلامية الأخرى، محاولة تشكيل خطاب وسطي في ظل التجاذبات التي تشهدها الساحة اللبنانية.
ويخلص الباحث إلى أن الانقسامات في صفوف الحركات والتنظيمات الإسلامية السنية بلبنان سابقة على حالة الاصطفاف الحاد التي تسود الساحة السياسية اليوم، إلا أنها لم تكن بهذه الحدة، وهي في كل الأحوال مرشحة للمزيد من التوظيف السياسي لدى الأطراف المتصارعة.
الجماعات الإسلامية في الهند
يشرح لنا عبد السلام أحمد من خلال بحثه بعنوان "الجماعات الإسلامية في الهند.. محاسن ومآخذ" وضع الأقلية المسلمة داخل المجتمع الهندي، علما بأن نسبتها تبلغ نحو 15% وبعدد يقارب 200 مليون نسمة، والأعباء الهائلة الملقاة على كواهل الجماعات الإسلامية فيها.
ويرى الباحث أن هذه الجماعات رغم تعددها وتنوع نشاطاتها وانبثاقها من الواقع المحيط بها، لم تحقق المرجو منها، ملقيا بالمسؤولية في ذلك على الجماعات وعلى الأمة الإسلامية عموما.
واستعرض أهم مآخذ الجماعات الكبرى بالهند، منها المبالغة في الانغلاق والاقتصار على الجوانب الروحية كجماعة التبليغ، وأخرى اتسمت بتبعيتها لحزب المؤتمر رغم سياساته الضارة بالإسلام والمسلمين كجماعة العلماء، إضافة إلى افتقار جامعتها للعلوم العصرية.
وقد كانت إنجازات ندوة العلماء محدودة وضمن دائرة ضيقة، بالإضافة إلى عدم تطويرها لمنهج دار العلوم التابعة لها وفق متطلبات التغيرات والمستجدات في العالم، وعدم امتلاكها إستراتيجية للعمل الاجتماعي والثقافي والسياسي، ناهيك عما وصفه الباحث بالتناقض والازدواجية في المواقف.
أما الجماعة الإسلامية فيصمها الباحث بالبطء في التطوير، وعدم الانتباه إلى تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وكذلك اتخاذ القرارات بعد فوات الأوان والبطء الشديد في تنفيذها، بينما عنيت جماعة أهل الحديث بالمبالغة في الأخذ بالمنهج السلفي، وهدر طاقتها في المعارك الكلامية ومسائل العقيدة وتشددها في الفروع والخلافيات.
الإسلام السياسي السني الإيراني
وتحت عنوان "ولاية الفقيه والأخوة الإسلامية في منظور الإسلام السياسي السني الإيراني"، جاء بحث محمد حسن فلاحية فأعاد الخلافات بين السنة والشيعة إلى أسباب سياسية وثقافية واجتماعية وغيرها، وأرجع فشل مساعي ردم الهوة بينهما إلى إصرار كل طرف على أن يتبع الطرف الآخر مذهبه دون قيد أو شرط، مما أوصل الخلاف في بعض مراحله إلى القتل على الهوية.
ويقسم الباحث واقع السنة في إيران إلى فريقين: أحدهما يتعامل ضمن الأطر الثقافية والمفاهيم السائدة -مثل ولاية الفقيه والثورة والأخوة الإسلامية- بشكل حازم، ويلقى مواجهة حادة من قبل الحركات والجبهات الثورية السنية، كجماعة جند الله وحزب الفرقان.
والثاني يتعامل بمرونة أمثال الشخصيات والعلماء والمجتمع المدني السني، ووفق المفاهيم السائدة يستغل الإصلاحيين والمؤسسات المعنية بحقوق الإنسان للوصول إلى حقوقهم وتخفيف وطأة القمع ضدهم.
ويرى الباحث أنه من غير الممكن دراسة العلاقة بين السنة والشيعة خصوصا بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بمعزل عن السياسة والموقف السياسي، خاصة مع اعتبار إيران نفسها ممثلا للشيعة في العالم، بينما يطالب علماء السنة بمراعاة العدل في حقهم وتجنب فرض التمييز ضدهم باعتبارهم مواطنين.
-----------
الجزيرة ـ 28يوليو 2011
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
اسم الكتاب: النظام العالمي ورياح التغيير
اسم الكاتب: غالب أبومصلح
دار النشر: دار الفارابي
في ستة فصول شكّلت متن الكتاب (دار الفارابي)، غاص الكاتب اللبناني في تفاصيل «الليبرالية الجديدة ـ الإمبراطورية الأميركية وأزمة النظام الرأسمالي العالمي». وذلك ارتكازاً على ما مثّلته الليبرالية الجديدة التي حملها المحافظون الجدد: أي إيديولوجية النظام الرأسمالي العالمي في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة: «مثّلت (أيضاً) ثورة رؤوس الأموال على القوى العاملة»، وجدّدت «الهجمة الإمبريالية على دول العالم الثالث»، ودعت إلى «إسقاط الدولة الحاضنة وقيم العدالة والتكافل الاجتماعي».
------
المصدر: السفير ـ 28 يوليو 2011
اسم الكتاب: ثورات القوة الناعمة في العالم العربي
اسم الكاتب: علي حرب
دار النشر: الدار العربية للعلوم
سنة الإصدار: 2011
عدد الصفحات: 120
عرض/محمد تركي الربيعو
يرى الفيلسوف والمفكر اللبناني علي حرب في كتابه الصادر حديثا والساعي إلى تقييم الحراك الثوري العربي أن هذه الانتفاضات الراهنة ما هي إلا ثمرة فتوحات العولمة التي كانت مصدر فزع -وهنا تكمن المفارقة- لدى الخائفين منها على هوياتهم الثقافية أو المتمسكين بعقائدهم القديمة والحديثة.
بالتالي فإن ما قدمته العولمة من الإمكانات الهائلة بأدواتها الفائقة وشبكاتها العنكبوتية ووقائعها الافتراضية، باتت معطيات لا غنى عنها في فهم الواقع وإدارته وتغييره لإعادة تركيبه وبنائه، إذ هي غيرت نظرة الإنسان إلى نفسه وبدلت موقعه في العالم بقدر ما غيرت علاقته بمفردات وجوده سواء تعلق الأمر بالهوية والثقافة والمعرفة أو بالحرية والسلطة والقوة.
لكن برأيه لا يعني ذلك أن الثورة في مصر وتونس وبقية الدول العربية التي لم تكتمل فيها الثورة بعد هي ثمرة الآلات الصماء، فالتقنيات ثمرة للعقول والأفكار، ولكنها تفتح بدورها إمكانات للتفكير والتدبير.
من هنا تحتاج الآلات لكي تستثمر بصورة نافعة وملائمة إلى عقول فعالة تحسن قراءة المجريات ورصد التحولات، كما تحتاج إلى فكر حي وخصب يقدر أصحابه على ترجمة المعطيات إلى إنجازات تتجسد في مبادرات فذة أو أحداث خارقة أو أعمال مبتكرة، في غير مجال سياسي أو اقتصادي أو ثقافي.
وعليه فإن الثورات الجارية متعددة الأبعاد، إذ هي سياسية بقدر ما هي فكرية، وتقنية بقدر ما هي ثقافية، وخلقية بقدر ما هي اقتصادية، فهي في جوهرها تجسد ولادة فاعل جديد على المسرح، هو الإنسان الرقمي ذو الاختراع والابتكار والتحويل والبناء والتجاوز.
عصر الليكزس واقتلاع شجر الزيتون
جزم علي حرب في هذا الفصل بأن نجاح الثورات في العالم العربي سوف يطوي حقبة فكرية ويفتتح أخرى، وما سيطوى ويجري تجاوزه هو عصر الأيديولوجيات الشمولية والأصولية التي استمرت عقودا والتي تجسدت في عدة نماذج أهمها:
- النموذج النضالي الآفل لحركات التحرر الوطني التي أخفقت في شعاراتها سواء تعلق الأمر بالوحدة والاشتراكية والتقدم أو بالتحرير والممانعة والمقاومة.
- النموذج النخبوي الفاشل الذي اشتغل أصحابه بتلفيق النظريات وفبركة الأوهام، لكي ينتجوا عزلتهم وهشاشتهم وهامشيتهم على مسرح الأحداث.
- النموذج البيروقراطي العاجز الذي يستخدم أصحابه في الإدارة أساليب مستهلكة أو بائدة تولد هدر الجهد والوقت والثروات.
وإذا كان العالم العربي قد تأخر عن الانخراط في العالم الجديد بثرواته وتحولاته وانعطافاته التقنية والعلمية والمعرفية كما فعلت أكثر المجتمعات، فإنه يستدرك الآن ما فات عبر الأجيال والقوى الجديدة التي انخرطت في سباق العقول بعدة مستويات.
الأول: خلع عباءة الأيديولوجيات المقدسة بثوراتها ومقاومتها وانقلاباتها وأحزابها.
الثاني: كسر عقلية النخبة والانتقال إلى المجتمع التداولي حيث كل الناس فاعلون ومشاركون في أعمال البناء والإنماء، كل من موقعه وبأدوات اختصاصه وإبداعاته في مجال عمله.
الثالث: التخلي عن منطق العنف للعمل على تغيير الأوضاع وتحسين الأحوال بأساليب ووسائل سلمية مدنية وتواصلية، خاصة أن الميل إلى السلم يقوى يوما بعد يوم على وقع الأزمات وعلى نحو تزداد معه القناعة بحاجة البشرية إلى الانضواء تحت سقف رمزي خلقي يستبقي أو يستنجد بقيم التقى والتواضع والاعتراف والزهد.
وبرأيه فإن لكل عصر ثوراته وقواه، وهذا ما لم يكن واردا في حسبان القوى المهيمنة القومية واليسارية، الحداثية والتراثية، الدينية وغير الدينية، لأنها كانت ولا تزال تقرأ المجريات أو تدير الشؤون بأدوات العصور الآفلة وثوراتها الفاشلة بشعاراتها ونماذجها ولجانها ومليشياتها.
وهكذا فبينما كان الحاكم والداعية والمثقف أو المتلاعب والمضارب يتربع في سلطته المغتصبة، أو يتنعم في ثروته غير المشروعة، أو يتشبث بعقائده البائدة وأفكاره المستهلكة أو يدافع عن هويته العاجزة وثوابته العميقة، كانت تعتمل وتتشكل في رحم المجتمعات العربية قوى صاعدة جديدة بصورة صامتة وغير مرئية من غير ادعاء، استفاد أصحابها من التحولات التي صاحبت الموجة الحداثية الجديدة، بأدواتها الفائقة ومعطياتها السيالة ووقائعها الافتراضية.
وهكذا فإن العولمة بتقنياتها وثرواتها وتحولاتها أدت إلى تشكل فاعل جديد على المسرح يمثله نموذج الإنسان الرقمي، الذي بدأ يتصدر الواجهة منذ عقدين لكي يسهم في صنع العالم وتغير الواقع كما هي حال العاملين على الشبكات بمختلف منوعاتها.
وبالتالي إذا كان للثورات الجديدة بطابعها السلمي والمدني أن تفيد من إخفاق ما سبقها، فعليها أن تعمل بالتحرر من الشعارات ذات الطابع الطوباوي، بحيث يجري التركيز على ما يتعلق بالوجود اليومي المعيش والآني بمشاغله وهواجسه.
ولعل المفارقة العجيبة برأي حرب تبرز أيضا من ناحية التأثيرات المتبادلة بين انتفاضة وأخرى. بذلك تثبت الشعوب العربية من جديد أنها تمارس وحدتها من غير ادعاء أو تنظير.
وتلك هي المفارقة، إذ بينما كان دعاة الوحدة ومنظروها من حكام ومثقفين يدمرون فكرة الوحدة من فوق بفكرهم الأحادي الفئوي والطائفي، الذي لا يتسع لتوحيد حي في مدينة كانت المجتمعات العربية تنخرط في صنع عالم عربي مشترك بتشكيل بناه التحتية وفتح ما يحتاج إليه من الأسواق والمساحات أو تشكيل ما يتأسس عليه من اللغات والقواعد الجامعة والمشتركة، كما تشهد اللقاءات والندوات والمؤتمرات والمعارض في كل المجالات والميادين.
وهكذا فما يجري من ثورات عابرة يحطم الحدود المادية والرمزية لكي يفسح المجال واسعا للتبادل بين بلد عربي وآخر.
سقوط أوهام المثقف
بالطبع المثقفون هم أول من تفاعل مع الأحداث على هذا الوجه أو ذاك، ليس فقط لأن الأحداث شكلت مادة دسمة للكتابة والتعليق والتحليل، بل لأنهم يتصرفون دوما بوصفهم الأوصياء والوكلاء الحصريين على القيم العامة المتعلقة بالحقيقة والعدالة والثورة والهوية والأمة.
وهم إلى ذلك قد فقدوا المصداقية والمشروعية والفاعلية منذ زمن طويل، سواء من حيث نماذجهم في فهم العالم أو من حيث برامجهم في تغيير الواقع.
فالعالم تغير ويتغير بعكس تصوراتهم وخططهم، والأهم أنه يتغير على يد قوى جديدة كانت مستبعدة أو مهمشة وربما محتقرة من جانب المثقفين الذين يدعون احتكار الوعي والعلم والمعرفة بأحوال العالم، فإذا بهذه القوى تبدو حية ناشطة فعالة أكثر مما يحسب دعاة التقدم والتغيير.
ومن المفارقات أن فلاسفة العرب ومفكريهم ما زالوا يثيرون أسئلة النهضة ومشكلات الحداثة، في حين أن الفاعلين العرب الجدد قد تجاوزوا الحداثة إلى ما بعدها بانخراطهم في الحداثة الفائقة والسيالة للعصر الرقمي والواقع الافتراضي.
ولذلك يرى حرب أنه لا بد أن نعترف بفشلنا وإفلاسنا، وبأن جيلنا قد أورث الأجيال الجديدة كل هذا التردي والتراجع. ومؤدى هذا الاعتراف أن المثقف العربي ما هو إلا الوجه الآخر للأنظمة التي يدينها وينتشي لانهيارها.
فالحاكم والمثقف كلاهما متأله وعاشق لذاته نابذ لغيره، الأول ينفرد بالسلطة والثاني يحتكر الحقيقة، وبالتالي فإن ما جرى في تونس ومصر وغيرها من البلدان العربية، إنما يفكك ثنائية النخبة والجماهير بقدر ما يكسر عقلية الوصاية على القيم والمجتمعات بعقل نرجسي وفكر أحادي.
ويتابع الكاتب نقده لأوهام المثقف ليفاجئنا بالقول بأن من المفارقات الفاضحة أن يتوجس تشومسكي أو غيره من الكتاب اليساريين ونظرائهم العرب من العولمة والليبرالية الجديدة، فيما هي فتحت الإمكان الواسع لولادة نظام عربي جديد ديمقراطي بكسرها للحواجز والحدود على النحو الذي يتيح بث الصور والحصول على المعلومات بسرعة البرق والفكر.
ومن هنا فإن الانتفاضات الجارية تعطي مصداقية لفوكوياما وليس لهنتنغتون، لأن الأول نظر بعين الذاكرة الموتورة المشدودة إلى الماضي، كما تشهد مقولته "صدام الحضارات"، أما الثاني فقد نظر بعين البصيرة العاقلة فتوقع انتصار الديمقراطية في ظل تحولات العولمة الليبرالية.
من الأمني إلى المدني
إن مفهوم القوة أخذ في التغير، إذ القوة العارية بعنفها وحروبها وأبطالها وكوارثها بالطبع، لم تعد تغري العقلاء الذين استفادوا من دروس الحروب التي لا تنتج في عصر سمته "التشابك والتواطؤ" سوى الدمار المتبادل.
هذا التغير تعبر عنه ولادة مفهوم "القوة الناعمة" كما تتجسد في الإبداعات والاختراعات التي تتجسد إنجازات ومآثر سواء في مجالات العلم والأدب والفن والثقافة عموما، أو في عالم الأدوات والتجهيزات النافعة أو في نماذج التنمية وأساليب العيش وأنماط الحكم الرشيد.
من هنا فإن أنظمة الاستبداد والفساد التي يشتغل أصحابها بقمع الحريات وانتهاك الحقوق أو يخفقون في تحديث الاقتصاد وتحسين مستوى المعيشة لا تشكل دولا قومية أو مقاومة بل هي "تدمر مصادر القوة والمنعة" لدى شعوبها بقدر ما تشوه سمعتها في الخارج.
وبالعكس فإن الدول التي تحسن إدارة الشؤون ورعاية المصالح واستثمار الموارد سواء على صعيد اقتصادي ببناء نماذج تنموية ناجحة أو على صعيد سياسي بالتحول من كونها أنظمة أمنية بوليسية إلى مجتمعات ديمقراطية، تصبح محط النظر والتقدير في العالم بقدر ما تصبح أقوى وأكثر فاعلية في مواجهة التحديات والضغوط والعواصف التي تهب من الخارج.
من البطولات إلى الثورات
ترى العديد من الدراسات أن البطل يعرف دوما بوصفه من يضحي بنفسه من أجل سواه أو من أجل قضية يرفعها إلى مرتبة القداسة، ولكن هذا التعريف برأي حرب يغفل الوجه الآخر للعملة، وهو كون "البطل يملك القدرة على أن يموت، بقدر ما يملك القدرة على أن يقتل غيره".
وبهذا القول لا بد من أن يتم إنزال البطل عن عرشه وتجريده من طهره لكي يبرز وجهه الآخر الذي يتم طمسه، وهو أن البطل ليس إلا "قاتلا" في النهاية، وذلك لأنه لا يقتل دوما في حالة الدفاع المشروع عن النفس، وإنما قد يمارس العقيدة لنشر عقيدة يعدها صحيحة أو لتطبيق نظرية يعدها عادلة وقد تكون غير ذلك في نظر سواه.
بهذا المعنى فإن تمجيد البطولات مديح للعنف وحض على ممارسته، رغم أن العنف ضرورة لا مهرب منها، يلجأ إليها الواحد في الحالات القصوى، التي هي الدفاع المشروع عن النفس أو الأهل أو الوطن، ولكن ذلك لا يعد بطولة، وإنما ضرورة من أشنع الضرورات.
ولذلك يرى الكاتب أنه لا بد من أن نعترف بذلك إن شئنا التخفيف من منازع العنف، فلا نمتدح القتل أيا كانت مشروعيته ومبرراته.
ومن هذه الرؤية الجديدة للعنف تكمن أهمية الثورات العربية من ناحية تأكيد مطلقيها على عدم استخدام العنف، فهي انتفاضات سلمية وليست كالثورات والبطولات التاريخية والدموية التي تجسد في وجه من وجوهها الوجه البربري للبشرية.
بل ما تحاوله الثورات الجديدة هو افتتاح عصر جديد من عناوينه الحياة والنماء والفرح والجمال والمستقبل، ولذلك استحقت ثورة مصر أن تدعى بـ"ثورة النيل"، كما استحقت تونس أن تكون "ثورة الياسمين"
-----
المصدر: الجزيرة ـ 28يوليو 2011
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
المزيد...
- اسم الكتاب: القرصان
- اسم الكاتب: عبد العزيز آل محمود
- الناشر: بلومزبري/ مؤسسة قطر للنشر
- تاريخ النشر: 2011
- عدد الصفحات: 411
عرض: حسين جلعاد
ما الذي يدفع كاتبا يعيش على أعتاب القرن الحادي والعشرين -بكل عولمته وتكنولوجيته التي فتحت العالم على جهاته الأربع- ليعود إلى تاريخ انتهى منذ مائتي عام؟ وأبعد من ذلك، ما الذي سيدفع قارئ عصرنا -الضاج برفاهية التكنولوجيا- ليقرأ كتابا تزيد صفحاته على 400.
هذا تحد يتصدى له الكاتب والصحفي القطري عبد العزيز آل محمود في روايته "القرصان" الصادرة حديثا عن دار بلومزبيري -مؤسسة قطر للنشر في الدوحة.
يرى الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل (1770 - 1831) أن التاريخ مليء بالمؤامرات، لكن التاريخ نفسه ليس مؤامرة، بل إن له صيرورة تحكمه.
وفي هذه الرواية سيجد القارئ مصداق ذلك، فالخط العام لـ"القرصان" يسير وفق مؤامرات لعبة الأمم، لكن ثنايا الأحداث يخلقها أفراد تصطرع أقدارهم على خط واحد من صراعات الأمم والإمبراطوريات بكل منعرجاتها المعقدة.
تجري أحداث الرواية في بدايات القرن التاسع عشر وتحديدا في العقد الثاني منه حين تتحول السيطرة البريطانية في الشرق إلى قوة عظمى تمد هيمنتها بقانون الدم والتسلط على الخليج العربي وإيران، بعد أن ضمنت شركة الهند الشرقية السيطرة على شبه القارة الهندية.
أحداث ومؤامرات
تنفتح الرواية حين تبدأ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في إقامة تحالفات جديدة في الخليج، فتسعى إلى بناء حلف ضد الحركة الوهابية التي مدت سلطانها في نجد والحجاز حتى وصل إلى ما بات يعرف الآن بالإمارات العربية المتحدة، وتحديدا في مشيخة القواسم برأس الخيمة، علاوة على بسط سلطتهم في البحرين التي يحكمها آل خليفة اسميا، في حين يدير شؤون المشيخة ابن عفيصان وهو الرجل القوي القادم من نجد والحاكم الفعلي باسم الوهابيين.
وكعادة الإنجليز، فإن الحيلة دائما تسبق السيف وتعقبه أيضا، فيوفد الحاكم البريطاني في بومباي (مومباي) الضابط الإنجليزي سيدلر بهدية ثمينة هي سيف مهدى إلى إبراهيم باشا نجل محمد علي حاكم مصر الذي يكون منشغلا حينها باقتراف أبشع جرائمه في الحجاز ونجد لإخضاع جزيرة العرب تمهيدا لإلحاقها بالعرش الأرناؤوطي في مصر المحروسة.
وفي موازاة ذلك ينسج رجال صاحب الجلالة البريطانية خطة لتغيير مصائر الشعوب فتبعث البحرية الملكية القبطان "لوخ" على رأس أسطول غايته المعلنة تخليص طرق التجارة من القراصنة، في حين أن هدفه الحقيقي انتزاع الموانئ على ضفتي الخليج، إذ تقتضي خطة الحلف التخلص من سيطرة الوهابيين وطردهم من كل مراكز قواهم في الخليج العربي.
ولذلك تسعى العقلية الإمبراطورية إلى نسج تحالف يضم بريطانيا وسلطان عُمان وإبراهيم باشا كي يطبقوا فكي الكماشة على الوهابيين وحلفائهم من مشايخ الخليج.
لكن سفن بريطانيا العظمى لن تجري بما يشتهي صاحب التاج، فحين يتحرك الضابط سيدلر من الهند إلى جزيرة العرب يقع مصادفة في يد القرصان أرحمة بن جابر فيسلب السيف وهو لا يدري أنه بقيامه بفعل قام بمثله قبل ذلك آلاف المرات يكون قد فتح أبواب الجحيم وعطل خطة عظيمة اسمها لعبة الأمم فيطارده، الأسطول البريطاني، وهنا تبدأ المصائر التشكل وتنعطف حركة التاريخ في واحدة من أهم انعطافاته في المشرق فينتهي بخضوع الخليج بقوة المدافع البريطانية.
لعبة الأمم
هذه هي الحبكة الرئيسية التي تدور فيها الحكاية وتمتد بنا الرواية لنعيش تفاصيل لعبة الأمم التي تمتد خيوطها من إنجلترا إلى الهند مرورا بأرض الجزيرة العربية وما يقابلها من موانئ إيران.
ينسج الكاتب أحداث روايته على مستويات عدة معقدة ودقيقة تتشابك فيها مصائر الشعوب والدول بقصص الأفراد، فمن جهة هناك الإمبراطوريات التي تصارع أمما ناشئة ومشيخات على أطراف الخليج، ومن جهة أخرى هناك مستويات فردية وشخصية للصراع لا تقل أهمية في نسج التحولات. إنها تناقضات الإقليم العربي وشخصياته، فالقرصان يعيش شهوة انتقام تحرك حياته ضد آل خليفة حكام البحرين الذين هم في الوقت ذاته أبناء عمومته.
وفي الخضم ثمة حبكات فرعية منسوجة بعناية يضيق السياق عن تلخيصها رغم أهميتها، ونلحظ مستويات درامية تنمو تدريجيا حتى نجد القرصان يرمي ولديه في البحر نهبا للموت، وحين ينجو ابنه بشر بالصدفة يدخل في صراع مع شخصية أبيه فيتبع الضابط الإنجليزي ويكون معه صداقة عميقة، على أن التبسيط هنا مجرد تقريب للصورة لكن الشخصيات ومستويات الصراع الدرامي مرسومة بحرفية عالية.
في الجانب الفني يندهش القارئ حقا من ثراء الشخصيات الروائية ونموها الدرامي المضطرد وفق سيناريو سينمائي يواصل حبس الأنفاس.
واللافت أن الروائي لا يتدخل في شخصياته، فهو لا يصدر أحكاما قيمية على الأحداث ومجريات تطور الشخوص ولا يربك القارئ بحضوره، وهو بذلك ينجو مما يقع فيه كثير ممن يكتبون روايات التاريخ التي تفسد غالبا بسبب القصد الغائي أو التصور الذاتي، فتنزلق من كونها مادة فنية وتتحول إلى وعاء أيديولوجي محكوم بلغة الصراع أو حتى إلى التبرير القصدي في أبسط صوره.
إن من أهم ما يلفت النظر في "القرصان" هو أن مؤلفها قد نسج بناء دراميا مكتوبا بوعي سياسي وعقل تاريخي بامتياز، ولكن دون أن يفسد ذلك بمقرعة الذات الراوية، حتى ليندهش القارئ من تطور الشخصيات في منطقة الظل بين الأسود والأبيض.
فلا تنميط هنا، بل ثراء الشخصية البشرية بكامل تناقضها، بأرقى مستوياتها الأخلاقية ولكن في الوقت ذاته بأخس نوازعها الغريزية، علاوة على أن كل تلك الأقدار قد صيغت بقالب فني درامي فلا يسع قارئها إلا ملاحقة تناميها وتطور أحداثها وشخصياتها.
ولعل أهم ما نجح فيه عبد العزيز آل محمود هو أنه نزع الصورة النمطية عن شخصية حددتها الثقافات السائدة، فما تزال هذه المنطقة من الأرض العربية محكومة بنظرتين لا ثالثة لهما، إما التبخيس الظالم وإما التمجيد المتعالي المنزوي على ذاته.
في رواية "القرصان" سيتعرف القارئ على إحداثيات حقيقية وملموسة في هذه المنطقة من العالم غيبها الإعلام والنسق الاستهلاكي المعاصر، وتركها على رفوف التاريخ تماثيل مصنوعة من خشب التراث، لا تراها إلا عدسات السائحين.
في الرواية شخصيات تنمو وتصطرع وتتحرك كما لو كانت مرسومة بريشة فنان، لكنها في الوقت ذاته تتنفس في سياق واقعي من لحم ودم، ونزعم أن هذا النوع من الكتابة الروائية ينزع عن الإنسان التنميط والتشييء وبذلك ينجح الكاتب في أن يضيء مناطق معتمة قلّ الاقتراب منها، سوى أن عبد العزيز آل محمود نأى عن المباشرة أو القصدية الأيديولوجية، وترك لشخصياته أن تتحرك تحت الشمس مانحا القارئ كتابا مفتوحا ليعيد النظر مرارا وتكرارا ويصل إلى استخلاصاته الفكرية الخاصة، فيعود غير مرة إلى القراءة والتأمل. وهذا حسب ظني مرتقى صعب لا تبلغه كثير من الروايات التاريخية وحتى الحداثية.
بناء هندسي
أنشأ المؤلف في روايته بناء هندسيا مركبا، فمن جهة عليه أن ينصت إلى صوت التاريخ والمآلات الحقيقية للوقائع، كما أن عليه من جهة أخرى أن يصور شخصيات وينسج حبكات تقوم فقط على الخيال الروائي.
إنه التخييل الفني، وهي لعبة خطرة وقاسية خصوصا أن القارئ سيحاكم الكاتب وفق السجلات التاريخية، ومع ذلك فقد نجح عبد العزيز آل محمود بحق في أن يقدم لوحة ثرية للمنطقة بصخب أمواجها ونعومة رمالها وخطورة كثبانها، مستخدما تقنية الموزاييك أو بناء الصورة العامة قطعة قطعة، قبل أن تنبجس شلالا هادرا في قالب من التشويق الدرامي.
وعمد الروائي في كتابته إلى التخلص من الفائض اللغوي والمعلوماتي الذي يرهق الوصف عادة، فقدم الأحداث بلغة مقتصدة وفق السيناريو السينمائي، فثمة حبكات وعقد رئيسية تنجدل من حبكات فرعية تدفع القارئ إلى مطاردة الأحداث ثم التوقف بين فصل وآخر لالتقاط الأنفاس والتأمل في فرادة النفس البشرية وغرابتها.
ليست الأحداث فقط هي التي تفاجئ القارئ بل الشخوص وتطوراتها التي تنكشف لنا رويدا رويدا مع توالي السرد وانعقاد الحوارات.
إن المهارة التي تحسب للروائي هنا هي أنه كان كاتبا غير مرئي، فما نراه يدور أمامنا تفعله شخصيات، نعيش معها المؤامرات وقعقعة السيوف وهدير السفن الحربية وتلاطم الأمواج، ثم نهبط معها في أدق تفاصيل النفس البشرية بفرديتها وتناقضاتها، لكن دون أن نشعر بثقل قلم كاتب يتلو علينا دروسا أو يلقي مواعظ.
وعودا على بدء، فإن كتابة التاريخ يستتبعها سؤال الحاضر والمستقبل، بل وتستتبعها أيضا أسئلة الوجود الإنساني ذاته، وهي أسئلة ستبقى تقرع فوق رؤوس البشر ما دام في البحر موج، ولنتأمل على سبيل المثال موقف بشر بن أرحمة حين شهد معركة بين جيش إبراهيم باشا وبضع مئات من الوهابيين:
"بشر الذي كان مصدوما من كثرة القتلى.. لم يأخذه من تفكيره سوى صوت الأذان الذي كان يتردد بين المعسكرين، فكان أن سأل نفسه، هل هؤلاء وهؤلاء على حق فيما يفعلون، فهم يعبدون نفس الرب، ويصلون لنفس القبلة، وبعد ذلك يسفك بعضهم دماء بعض؟"
إنها رواية تاريخية بامتياز، لكنها كتابة تطرح أسئلة السياسة والقوة والسيطرة وما يتفرع عنها من أسئلة الصراع والهويات. ببساطة إنها كتابة تناقش أسئلة الإنسان، فالحكاية تتموضع في سياق تاريخي لكنها تلح علينا بأسئلة الواقع البشري راهنه ومستقبله، وذلك ذكاء يحسب للرواية حين توسع دائرة التأمل من الوقائع إلى المعاني والرموز.
وهنا يأتي دور القارئ فقد سلّمه عبد العزيز آل محمود كتلة ملتهبة من التناقضات السياسية والتاريخية والإنسانية، وهمس له: اقرأ.. تأمل وضع أجوبتك!
يذكر أن الرواية هي الأولى لصاحبها. والمؤلف عبد العزيز آل محمود مهندس وصحفي قطري حاصل على البكالوريوس في الهندسة والدبلوم في هندسة الطيران، وعمل رئيسا لتحرير موقع "الجزيرة نت" وكذلك صحيفة "الشرق" القطرية و"البيننسيولا" الناطقة باللغة الإنجليزية.
---------
المصدر: الجزيرة نت - 17 أكتوبر 2011
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
-اسم الكتاب: التحولات والثورات الشعبية في العالم العربي
الدلالات الواقعية والآفاق المستقبلية
-اسم المؤلف: إبراهيم علوش وآخرون
-دار النشر: مركز دراسات الشرق الأوسط.
-الطبعة: الأولى/ 2011
عرض/ أحمد التلاوي
- نجاح بعض الشعوب العربية في إسقاط أنظمتها الحاكمة يعد إرهاصة جيدة لتأسيس نظام إقليمي عربي جديد.
- الشعوب العربية، والأنظمة الحاكمة، والمؤسسة العسكرية، والقوى الإقليمية والدولية أهم الأطراف الفاعلة في الحالة الثورية العربية.
- رد الاعتبار للعالم العربي، وتصحيح مسيرته سياسيًا وتنمويًا، وتحسين أوضاعه محليًا وعالميًا أهم طموحات الثورات العربية مستقبلاً.
كان العالم العربي على موعد مع انقلاب شامل، كان مفاجئًا في توقيته، وعميقًا في تأثيراته، حيث اجتاحت العروشَ العربية ثوراتٌ شعبية استطاع بعضها اقتلاع أنظمة حاكمة كان من غير المتصور أن تتزحزح من مكانها، مع تسلحها بكل أدوات العصر في القمع والدكتاتورية والاستبداد.
وكان للطابع الشعبي السلمي والنجاح الذي تحقق للشعوب العربية، كما في مصر وتونس وليبيا، في إسقاط أنظمتها الحاكمة، دلالة شديدة الأهمية في أن الشعوب العربية قد بدأت، في إطار سعيها للحرية والكرامة والعدل والمساواة، في مرحلة الفعل والإرادة وتحقيق مصالحها التي سعت إليها منذ عقود، مؤسسة لإرهاصات نظام إقليمي عربي جديد.
ومنذ بدايات هذا الحراك في نهاية عام 2010م، ومطلع عام 2011م، في تونس ومصر، شُغِلَتْ دوائر السياسة والإعلام في عالمنا العربي بالبحث عن أسباب هذا الذي يحدث ومستقبله، على كونه أمرًا مصيريًّا ولا مراء في ذلك، في صدد إعادة تشكيل منطقتنا العربية.
ومن بين المحاولات المبكرة لاستكشاف ما يجري، وآفاق ومستقبل هذا الذي يجري، تلك التي قام بها مركز دراسات الشرق الأوسط بالأردن، حيث عقد المركز ندوة في مارس/آذار الماضي، بعنوان "التحولات والثورات الشعبية في العالم العربي: الدلالات الواقعية والآفاق المستقبلية"، ناقشت الصورة العامة لما يجري في العالم العربي وأسبابه ومستقبله، من مختلف الزوايا السياسية والاجتماعية والثقافية.
الندوة التي أصدرها المركز فيما بعد في كتاب يحمل ذات العنوان، شارك فيها عدد من الباحثين والشخصيات الأكاديمية والسياسية، ومن بينهم مدير المركز الدكتور جواد الحمد، والدكتور أحمد سعيد نوفل -أستاذ العلوم السياسية بجامعة اليرموك- والدكتور علي محافظة -أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية- والدكتور وليد عبد الحي -أستاذ العلاقات الدولية في جامعة اليرموك- والمحلل الناشط السياسي إبراهيم علوش.
ويتكون الكتاب الذي بين أيدينا من مقدمة وفصلَيْن رئيسيَّيْن، يرصد الأول منهما ظاهرة الثورات الشعبية العربية من حيث تداعياتها ودلالاتها المختلفة، والثاني يتناول رؤية مستقبلية حول تطورات الثورات ومآلاتها، مع التركيز على عام 2011م، وغطى كل قسم منها أربعة مباحث تباينت في تناولها الموضوعي للحدث الرئيسي الذي يتناوله الكتاب.
الظاهرة
وفي مقدمته للكتاب، يقوم الدكتور حامد عبد الماجد القويسي، الذي قام بتحرير أوراق الندوة، وتوظيفها في إطار الكتاب، بتصنيف البلدان العربية التي تشهد الظاهرة الثورية في الوقت الراهن إلى ثلاثة تصنيفات رئيسية، الأول، دول عرفت الثورة التي حققت قدرًا مهمًّا من النجاح في حالتها الثورية، وانتقلت في الوقت الراهن إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة تنازع القوى الثورية التي تسعى لاقتلاع النظام القديم، مع الحفاظ على الأوضاع الجديدة التي نشأت، كما في مصر وتونس.
التصنيف الثاني، ويشمل الدول التي لا تزال فيها الثورة مشتعلة ومتنامية، أي إنها لا تزال تعيش المرحلة الأولى من الحالة الثورية، ووضع القويسي ليبيا والبحرين مع اليمن وسوريا في هذا التصنيف، وبالنسبة لحالة ليبيا والبحرين، يجب الوضع في الحسبان أن الندوة عقدت في شهر مارس/آذار الماضي، ولم تكن الأمور في كلا البلدين قد تطورت على النحو الموجود حاليًا فيها، حيث استطاع الثوار الليبيون في الأشهر التالية إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، فيما استتبت الأوضاع في البحرين لصالح النظام الملكي الحاكم بعد الدعم العسكري والسياسي الخليجي له.
التصنيف الثالث، هو الدول التي تعيش مرحلة الترقب للحظة ميلاد ثوراتها الخاصة، ويضع فيه كل الدول العربية الباقية، التي لم تشهد انفجارًا شعبيًّا في وجه حكوماتها بعد.
ولقد رصد المحرر في مقدمته أيضًا مجموعة الأطراف الفاعلة في هذه الحالة الثورية التي يشهدها العالم العربي، وهي: الشعوب العربية، والأنظمة الحاكمة، والمؤسسة العسكرية، والتي كانت أداة قمع في بعض الحالات وأداة شرعية في حالات أخرى، بالإضافة إلى القوى الإقليمية والدولية.
السمات المشتركة للثورات العربية
ولقد اتسمت الثورات العربية بالعديد من السمات المشتركة بينها، أولاها سلمية الحراك الشعبي في مقابل دموية وعنف الأنظمة والنخب الحاكمة، وثانيها هشاشة الأنظمة الحاكمة، التي اتضح أنها باقية فقط على قيد الحياة، بسبب حماية الأجهزة الأمنية لها في مواجهة حركة الشارع.
أيضًا من بين السمات المشتركة للحراك الثوري القائم في عالمنا العربي في الوقت الحالي، أنه أسقط فلسفة "الاستقرار"، و"الحفاظ على الوضع القائم"، لصالح فلسفة التغيير ودور الشعوب والرأي العام، مع الخروج بها من عقلية الوهن والحالة "الغائية" إلى عقلية الفعل والتغيير الحضاري.
ومن بين أهم الأفكار التي تناولها الكتاب دور القوى السياسية العربية المحلية في الثورات الشعبية، وآليات تعاملها معها بين الواقع المعيش والمستقبل، وقيَّم الدكتور صبري سُميرة -أستاذ العلوم السياسية- دور هذه القوى في مستويين:
المستوى الأول قدم فيه سُميرة إطارًا وصفيًّا تحليليًّا فيما يزيد على عشرين عاملاً ومتغيرًا حول دور هذه القوى، وتتمحور جميعها حول فكرة شمول هذه القوى، حيث تتوزع على مختلف طوائف المعارضة والحكم والأطراف المستقلة، كما أنها شاملة بوصفها تضم مختلف الأطياف المؤسسية الموجودة، من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات عامة وخلافه.
القوى الإقليمية والدولية
أما المستوى الثاني من التحليل، فضم تصور سُميرة حول المتوقع والمأمول من هذه القوى في الفترة المستقبلية، والعوامل التي يجب عليها إدراكها وهي تسعى إلى لعب أدوار مستقبلية، ومن بينها أنه يجب عليها العمل من خلال إستراتيجية شاملة، تسعى إلى البناء والتوظيف الجيد لوسائل الإعلام، مع عدم إهمال قضايا الإقليم، وخصوصًا القضية الفلسطينية لحساب إعادة البناء الداخلي.
أما دور القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، في الثورات الشعبية، وكيف تتعامل، وسوف تتعامل معها، فإن الدكتور أحمد سعيد نوفل -أستاذ العلوم السياسية بجامعة اليرموك- اختار الحالة المصرية لمناقشة هذه القضية في الورقة التي قدمها في الندوة، إدراكًا منه لأهمية الحالة ومحوريتها في الإطار العام للحراك الثوري في العالم العربي.
ومبدئيًّا يشير نوفل إلى أن الخاسر الأكبر في الأطراف الخارجية، هو الولايات المتحدة، باعتبار أن الثورات بالأساس قامت ضد أنظمة وصفها بأنها "أميركية بالوكالة"، ووصف الموقف الأميركي مما جرى في مصر منذ بداياته بأنه موقف متخبط.
وبجانب الولايات المتحدة، فإن الخاسر الأكبر أيضًا هو إسرائيل، والتي أشار الكاتب إلى أن حدوث أي تغيير جوهري في النظام المصري يعني انقلاب نظرية الأمن الإسرائيلية.
دوافع الثورات العربية
وعن دوافع الثورات العربية، أشارت بعض الأوراق، ومن بينها ورقة الخبير الإستراتيجي اللواء موسى الحديد إلى أنه لا يمكن تحديد هذه العوامل في بُعد واحد أو في مستوًى واحد.
فعلى المستوى الموضوعي، تظهر الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها الفساد والقمع وسوء توزيع الثروة والإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، أما على المستوى الجغرافي، فهناك عوامل خارجية تتنوع بين داخلي كما تقدم، ومنها ما هو إقليمي، مثل تحقيق عدد من القوى الإقليمية، مثل تركيا، لنجاحات سياسية وتنموية، على الرغم من تواضع قدراتها الاقتصادية مقارنة مع البلدان العربية.
أما على المستوى الدولي فإن العامل الأبرز الذي يمكن التأكيد عليه هو تغير موقف القوى الدولية من دعم الحكومات إلى مواقف أخرى أقرب إلى الشعوب، مع ظهور وانتشار العديد من المؤسسات الإقليمية والدولية التي زكَّت ثقافة الاحتجاج، وكشفت الكثير من الحقائق حول ما يجري داخل المجتمعات العربية وخارجها.
رؤية مستقبلية
أما الجانب الخاص بالرؤى المستقبلية فتنوع بين رصد المستقبل، والأماني والطموحات المأمولة من الثورات العربية، مثل إعادة الاعتبار للعالم العربي، وتصويب مسيرته سياسيًّا واقتصاديًّا وتنمويًّا، وتحسين مستوى حالة المجتمعات العربية، مع إحياء القضايا العربية المهمة في وجدان الشعوب، ومن ثم على مستوى الرأي العام الدولي، وخصوصًا فلسطين.
أهم الجوانب الخاصة بالدراسات المستقبلية هي تلك الخاصة بنتيجة الصراع القائم حاليًا بين الشعوب والأنظمة الحاكمة وبقاياها في البلدان التي تشهد حالة ثورية، وحدد السياسي الأردني عدنان أبو عودة العامل الأكبر الذي ينبغي على الثورات العربية العمل على معالجته لتضمن النجاح والاستمرار، وهو التصدي لحالة التزاوج القائمة بين السلطة والمال، والتي كانت من أهم دعامات بقاء الأنظمة السابقة.
ومن بين العوامل الأخرى المهمة أيضًا لاستمرار ونجاح الثورات العربية، بقاء الحالة الثورية قائمة، وإعادة ترتيب البيت الداخلي، ورفع السقف السياسي المطالب بالديمقراطية، خصوصًا في البلدان التي تشهد مرحلة انتقالية، مثل مصر وتونس، أو في البلدان التي لا تزال في مرحلة الفعل الثوري مثل سوريا.
وحول موقف الولايات المتحدة وإسرائيل مستقبلاً مما يجري في العالم العربي، فإن واشنطن التي بدت متخبطة أولاً، سوف تبدأ في محاولة تقليص مشاركة الإسلاميين في الحكم لصالح التيارات الليبرالية والعلمانية، وذلك في أية انتخابات قادمة، أما إسرائيل، فإنه من المتصور أن تعلي من قيمة الاستقرار على حساب الديمقراطية، مع تخوفها من انتقال ربيع الثورات العربية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
وختامًا فإن أهم رسالة سعى الكتاب لتأكيدها هي أن المهمة الأبرز في الوقت الراهن أمام الشعوب والحكومات التي أفرزتها الحالة الثورية الحالية في بعض بلدان عالمنا العربي، هي أن يتم تحقيق ما وصفه الكتاب بالرؤية الإستراتيجية الكُلِّية لمستقبل منطقتنا العربية، اعتمادًا على ضمان استمرارية الثورات العربية وتأثيرها.
ويشير المشاركون في الندوة إلى أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال مجموعتَيْن متكاملتَيْن من الأعمال: الأولى أعمال "تأسيسية" في مراحل الثورة المتتابعة، وذلك عبر المشاركة الفاعلة، أيًّا كان شكل هذه المشاركة أو مضمونها، والثانية هي أعمال "مساعدة" في مراحل الثورة المختلفة، وذلك عبر المساندة أو الوقوف ضد أطراف معينة، بحسب دور هذه الأطراف، فيما إذا كانت تدعم هذه الثورات أو تسعى لتعطيلها.
كما أن نجاح حركة الشعوب العربية في تغيير الأنظمة مرتبط بالعديد من المتغيرات المهمة، ومن بينها: التحديد الواضح للأهداف وتجديدها والإصرار عليها، ورفع سقف هذه الأهداف باستمرار، مع مواصلة الضعوط، وصولاً إلى تحقيق الغاية النهائية، وهي إسقاط الأنظمة الحاكمة.
أيضًا يجب التأكيد على ضرورة أن تقبل الشعوب العربية بالمخاطرة، والاستعداد للبذل والتضحية على كل المستويات، مع تنويع الوسائل والأدوات المستخدَمة في ممارسة الضغوط خلال عملية التغيير.
-------
المصدر: الجزيرة نت - 28 أكتوبر / تشرين الأول 2011
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
اسم الكتاب: الأبواب المغلقة... دراسة حول أزمة التغيير في العالم العربي
اسم الكاتب: مني خويص
دار النشر: دار الفارابي
تاريخ النشر: 2011
عرض: محمد ولد المنى
لا تزال قضية التغيير في المجتمعات العربية وقدرتها على مواكبة الحركات التغييرية في العالم منذ عصر الأنوار، موضع جدل ونقاش، ولا يزال مفكرو هذه المجتمعات يحاولون الإجابة على السؤال: لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟ في نقد ذاتي يسعى لإيجاد مخارج لتأخر المجتمعات العربية. وفي كتابها "الأبواب المغلقة... دراسة حول أزمة التغيير في العالم العربي"، تقدم منى خويص صورةً عن واقع المجتمعات العربية، وأسباب القصور عن التقدم وبناء الحداثة، وتعرض رؤى لبعض المفكرون حول هذه الأزمة منذ صدمة الحداثة وحتى الآن.
يتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء، أولها عنوانه "العرب أمام التحولات الكبرى في الغرب"، وثانيها عن "واقع العلم والمؤسسات التعليمية في الوطن العربي"، أما الثالث والأخير فيتناول الواقع الاقتصادي والسياسي في المجتمعات العربية.
وترى المؤلفة أنه إذا كان بعض مؤرخي الشرق الأدنى يعتبرون أنه انغلق على نفسه منذ القرن الخامس عشر الميلادي، حيث بدا متجمداً مرة واحدة وإلى الأبد، فإن هذا الانغلاق، وذلك الجمود لم يعودا حالة قابلة للصمود في وجه المتغيرات المستجدة على العالم. فقلاع الجمود الحصينة أصبحت عرضة لتحولات كبيرة اليوم، إن لم يكن بالانهيار الداخلي فبالاختراق الخارجي. لذلك تؤكد المؤلفة على حاجة المجتمعات العربية إلى عملية نقد شفافة كخطوة أولى باتجاه التغيير. وقبل ذلك تتساءل ما إذا كانت هذه المجتمعات قادرة على إجراء تشخيص يحدد مواطن الخلل والضعف الحائلة دون انخراطها في عمليات التغيير التي يشهدها العالم! وفي هذا الخصوص تلاحظ أن تجاوب المجتمعات العربية مع موجات التغيير العالمية منذ عصر الأنوار وحملة نابليون على مصر، لم تزل موضع جدل ونقاش، وإن لم يقد ذلك الجدل إلى عملية تغيير حقيقية، لكن ذلك لا يعني في نظرها أن الحداثة لم ترخ بظلالها على مجتمعاتنا وتحرك ساكناً عند مثقفيها، بل إن حملة نابليون على مصر والصراع العثماني الأوروبي أديا إلى بروز حركة النهضة العربية، حيث شهدت تلك الفترة انفتاحاً على أغلب التيارات الفكرية الغربية، وصعوداً للبعد العقلاني، وبروزاً للهم الإصلاحي السياسي، وانتشاراً لطروحة التقدم.
لكن المجتمعات العربية والفرد فيها لايزال ينظر إليهما على أنهما قاصران عن مواكبة تحولات العالم من حولهما، فالفرد لا يزال ينتمي إلى مرحلة ما قبل العقلانية، و"رحلة عقله لم تزل تدور داخل أسوار مغلقة". لذلك تعتقد المؤلفة أن المجتمعات العربية بحاجة إلى ثورة باتجاه التحديث والتطوير كتلك الثورة الغربية التي حطمت البنى والانتماءات التقليدية ومرجعياتها وأحلت محلها الفردية كوحدة أساس في الفكر والسلوك والإنجاز.
لكن ماذا عن حضور العلم في مجتمعاتنا العربية؟ وهل هناك إنجاز للمؤسسات التعليمية العربية يمكن ذكره؟ هنا تتفق المؤلفة مع كاتب عربي آخر انتهى من دراسته الخريطة المعرفية العربية إلى أن الفكر العربي يتسم بالقصور، وأن عدته المعرفية ناقصة وأقل من الحد الأدنى لمجتمع المعرفة والتعلم وحوار الثقافات. وهكذا تجيب الناحية الثقافية والاجتماعية والنفسية المتحكمة في مفاصل المجتمعات العربية، على جانب من جوانب سؤال التأخر.
أما الجانب المتمم لذلك الجواب فيقدمه الجانب الاقتصادي كمحدد لطبيعة هذه المجتمعات، حيث تستعرض المؤلفة أهم السمات الرئيسية لاقتصادات الدول النامية، لاسيما التفاوت في التوزيع القطاعي للإنتاج، وتفكك النظام الاقتصادي، وتبعيته للخارج، علاوة على التبخيس والتشويه الذين يتعرض لهما مفهوم العمل في البلدان النامية. وإذ تزدهر هذه المواصفات في ظل مجتمعات مبنية على الطائفية والتنظيم الأبوي، وهيمنة الدولة التسلطية، فإن المجتمع المدني المتشكل على هذه الصورة يتحول إلى عقبة في وجه النهوض، بل يصبح سداً منيعاً أمام أي تغيير.
إلا أنه رغم هذا المنطق ذي الطابع الثنائي الصارم، والذي ينبني عليه الكتاب كله، واضعاً المجتمعات العربية كحالة تتصف بالجمود المزمن، مقابل بقية مجتمعات العالم السائرة عبر مسلك تصاعدي متصل... فإنه مما يدحض هذا المنطق أن يأتي صدور الكتاب ذاته بالتزامن مع ربيع الثورات العربية الذي تحول إلى نموذج ملهم لكثير من حركات التغيير والاحتجاج في أوروبا وأميركا وآسيا وإفريقيا... ليقوض مقولات نمطية ما فتئت تصدر عن نفس الرؤية وتستقي من المرجعية ذاتها! وفي ذلك دلالة مهمة على ضرورة توخي الحذر في الأخذ بأي تعميم حول سلوك المجتمعات ذات الثقافة العريقة ومآلات حراكها الداخلي ومصائر أبوابه بين الانغلاق والانفتاح.
--------
المصدر: جريدة الاتحاد الإماراتية - 21 أكتوبر/تشرين الأول 2011
المواد المنشورة لا تعبر عن رأي موقع الجماعة العربية للديمقراطية وإنما عن رأي أصحابها
اسم الكتاب: ثورات القوّة النّاعمة في العالم العربيّ:نحو تفكيك الدّيكتاتوريّات والأصوليّات
اسم الكاتب: علي حرب
دار النّشر: الدار العربيّة للعلوم ناشرون - بيروت
الطّبعة الأولى - 2011
عرض: هيثم أحمد مزاحم
جذبت الثّورات التي تشهدها بلدان عربيّة الكاتب والباحث اللّبنانيّ علي حرب وحملته على التّأمّل فيها وعلى «تفكيك الدّيكتاتوريّات والأصوليّات». وقد صدر له حديثاً كتاب في هذا الصّدد عنوانه "ثورات القوّة النّاعمة في العالم العربيّ: نحو تفكيك الدّيكتاتوريّات والأصوليّات"، وهو مجموعة مقالات تابعتْ هذه الثّورات.
يقول حرب إنّه لم يكن في حسابه إصدار هذا الكتيّب عن الثّورات الجارية في أكثر من ساحة عربيّة، فما يضمّه من مقالات متفرّقة هو قراءات من مداخل متعدّدة وزوايا مختلفة، في الأحداث المتسارعة والمتلاحقة، بمفاجآتها وصدماتها، بتداعياتها ومفاعيلها. وقد وجد أنّ جمْعها في كتاب يشكّل مساهمة قد تُغني المناقشات الدائرة، عربيّا وعالميّا، حول ما يشهده العالم العربيّ من تحوّلات وانعطافات تنْقله من عصرٍ إلى آخر، لِتغيِّرَ وجهَ الحياة فيه، وتحرّره من أسر التّاريخ وحتميّاته ولتشرِّع أبواب المستقبل وتفتح آفاقه.
ركّز حرب على ما جرى في تونس، ثمّ في مصر، لأنّ الثّورة في كلٍّ من هذين البلدين، نجحت بأقصى سرعة، وبأقلّ الخسائر في الأرواح والأرزاق، في تحقيق الحدّ الأدنى من أهدافها، ألا وهو سقوط النّظام السّياسيّ، لأنّ ما يُنتظر من الثّورة هو أن تغيِّر النّظام الفكريّ بعدّته وعاداته وآليّاته.
ويرى حرب أنّ ما يشهده العالم الـعربيّ هو انتـــفاضات متـــعدّدة الأبعاد. إنّها انتفاضاتٌ مدنيّة وسياسيّة واقتــــصاديّة، بقدْر ما هي تــقنــية وعــقليّة وخلــقــيّة، وهــي إلـى ذلك عـــالمــيّة بقدر ما هي عربيّة. إنّها ثورات فكريّة تجسّد نموذجا جديدا تتغيّر معه علاقة الإنسان بمفردات وجوده، بالزّمان والمكان والإمكان، كما بالواقع والعالم والآخر، فهي أتت من فتح كونيّ جسّدته ثورة الأرقام والمعلومات التي خلقت أمام الأجيال العربيّة الجديدة إمكانات هائلة للتّفكير والعمل على تغيير الواقع، بتفكيك الأنظمة الدّيكتاتوريّة وخلخلة المنظومات الأصوليّة.
ستُفضي هذه الثّورات إلى تشكيل عالم مختلف، تتغيّر معه برامج العقول وخرائط المعرفة وقواعد المداولة، وتتغيّر اللّغات والعقليّات والحساسيّات، بقدر ما تتغيّر طرق إدارة الأشياء وممارسة السّلطات وترسيخ الهويّة الوطنيّة.
وهذا ما يؤمل من الثّورات العربية أن تنجزه برأي حرب، فلا تكتفي بإسقاط الأنظمة السّياسيّة، ولا تقتصر على استعادة شعارات الحريّة والدّيمقراطيّة والعدالة وحقوق الإنسان أو تطبيقها، وإنّما تحاول تطوير هذه العناوين وإغناءَها وإعادة بنائها، من خلال ابتكار الوسائل والصّيغ والأنماط الجديدة والفعّالة ، وهي بذلك تشكّل إضافة قيِّمة إلى الرّصيد البشريّ، بقدر ما تغيِّر وجه العالم العربيّ.
الشّعوب العربيّة تخرج من سجونها
يقول حرب: مع أنّ العالم العربيّ بلغ مأزقه الحضاريّ منذ زمن، بمختلف عناوينه ونسخه، فإنّ العرب تأخّروا عن الانخراط في تغيير واقعهم والمشاركة في التّحوّلات العالميّة، على غرار التّغيّرات المتعدّدة الجوانب التي شهدتها مناطق أخرى من العالم.. حتّى عندما انهار المعسكر الاشتراكيّ، بشعاراته ودوله، استمرّت الأنظمة العربيّة التي احتذت نموذجه أو دارت في فلكه ووقفت في صفّه في اتّباع سياستها السّابقة. والنّتيجة مزيد من التّراجع والتّخلّف. ولا غرابة في ذلك، فمن لا يحسن أن يتغيّر بفهم المجريات وإدارة التّحوّلات، لا يحافظ على ثوابته وخصوصيّته، بل يعود القهقرَى في واقعٍ كونيّ سمته الحراك الدّائم والتّغيّر المتسارع.
ويضيف حرب: ولكن ها هي الثّورات تندلع بالجملة في معظم البلدان العربيّة، مطالبةً بتغييرٍ شامل وجذريّ يتعدّى الإصلاحات الجزئيّة أو الشّكليّة، في الدّساتير وأنظمة الحكم، ليطال طريقة الدّول في إدارة الشّأن العامّ وكيفيّة ممارستها للسّلطات، فضلاً عن طريقة تعاطيها مع الحقوق والحرّيّات.
ويرى حرب أنّ الأنظمة أخفقت على المستوى الدّاخليّ في شعارات التّقدّم والحرّية والعدالة الاجتماعيّة، بل حوّلت الجمهوريّات إلى ملكيّات والجيوش إلى ميليشيات تحت اسم الحرس الثّوريّ، والشّرطة المدنيّة إلى أجهزة مخابرات تتجسّس على النّاس، إضافة إلى جيوش العاطلين عن العمل من حملة الشّهادات وسواهم. وبذلك خسرت المجتمعات العربيّة المكتسبات التي كانت تؤمّنها الأنظمة التّقليديّة على محدوديّتها، ولم تربح جديدا، ممّا جعل النّاس يترحّمون على عهود الملكيّة والاستعمار.
وبعد ظهور الموجة الجديدة لعصر العولمة والمعلومة، لم تنجح الأنظمة في تحقيق إنجازات في مسائل الدّيمقراطيّة والتّنمية وتحديث الاقتصاد، بل أضافت إلى آفة الاستبداد آفة الفساد، من هدر للموارد ونهْبٍ للأموال العامّة والخاصّة.
وفي القضايا الخارجيّة، لم تكن الأمور أحسن حالا خصوصا في القضيّة المركزيّة فلسطين والأراضي المحتلّة، إذ تراجعت بعد ستّين عاما من شعارات التّحرير والمقاومة والممانعة.
يضاف إلى ذلك أنّ صعود الأصوليّات الدّينيّة، والتي استفادت من إخفاق المشروع القوميّ والبرنامج الاشتراكيّ، أدّى إلى مزيد من التّردّي والتّراجع، لأنّ الأصوليّات هي موجات ارتداديّة تحكمها الذّاكرة الموتورة والعقائد الاصطفافيّة التي يفكّر أصحابها بعقليّة الثّأر والانتقام ممّا هو حديث ووافد. وما بوسعها أنْ تفعله هو تقويض نظام أو تخريب عمران. ولكنّها لا تقدر على الإصلاح أو تحسين البناء. والأصوليّات في نظر حرب كالدّيكتاتوريّات تأخذ من الغرب التّقنيات والتّجهيزات والأسلحة التي تستثمرها في حروبها، كما تفيد من انفتاح الأسواق غير المحدود لجمع الثّروات الطّائلة غير المشروعة. لكنّها ترفض القيم والمفاهيم والنّظم التي يمكن استثمارها في أعمال التّحديث والإنماء، أو تجسيدها في احترام الحقوق وإطلاق حريّات التّفكير والتّعبير والتّنظيم.
وبذلك جمعت الأصوليّات مساوئ المشاريع السّابقة، القوميّة واليساريّة، فأضافت الإرهاب والفتن المذهبيّة إلى الفقر والتّخلّف والاستبداد، ممّا وضع المجتمعات العربيّة بين فكّي الكمّاشة الخانقة: استبداد مضاعف وفساد منظّم، ثراء فاحش، وفقر مدقع، وجزر أمنيّة ومافيات ماليّة، جحيم المخابرات وجهنّم الإرهاب.
ويرى حرب أنّ هذا الإخفاق المتواصل قد وجد ترجمته في ما وصلت إليه الأوضاع العربيّة من انسداد الأفق واستهلاك الأفكار واستنفاد الوسائل وفشل البرامج وسقوط الدّعوات، سواء على جبهة الدّيكتاتوريّات أو على جبهة الأصوليّات، حيث المعسكران المتناحران متواطئان على ما يشهده العالم العربيّ من العجز والتّخلّف والتّقهقر وسوء السّمعة في الخارج.
وهكذا فالانسداد قد ولّد الانفجار، كما تشهد الثّورات الجارية، التي تعبّر من خلالها المجتمعات العربيّة عن حيويّتها الخلاّقة، بتفجير مخزونها الوجوديّ وإطلاق قواها المعطّلة، على النّحو الذي يمكّنها من استعادة مبادرتها وممارسة فاعليّتها، مستفيدة من الإمكانات التي فتحها عصر العولمة والمعلومة والصّورة.
إنّ لكلّ عصرٍ ثوراته وقواه، حيث أدّت العولمة بتقنياتها وتحوّلاتها إلى تشكيل فاعل جديد على المسرح، يمثّله نموذج الإنسان الرّقمي، والذي بدأ يتصدّر الواجهة، منذ عقدين، لكي يسهم في صنْع العالم وتغيير الواقع، كما هي حال العاملين على الشّبكات بمختلف أنواعها.
ويرى حرب أنّ الحكّام والأصوليّين وكذلك المثقّفين والدّعاة والمنظّرين وأصحاب شعارات التّقدّم والتّحديث لم يحسنوا قراءة المجريات، فمنهم من خشي على هويّته وعقائده وحداثته من المتغيّرات، ومنهم مَن شنّ الهجوم على العولمة بوصفها الشّرّ المحض، ومنهم من دفن رأسه في الرّمال، متعاميا عمّا يحدث، في انتظار حصول المعجزة على يد نبيّ مبشّر أو بطل منقذ.
وكان العالم يتغيّر بأدواته ومفاهيمه وخريطته وقواه والفاعلين على مسرحه، فيما كان أصحاب مشاريع التّغيير خائفين أو غير مصدّقين، فإذا بالثّورات الجديدة توقظهم من سباتهم الأيديولوجيّ والثّقافيّ، وتفاجئهم بأنّ المعطى قد تغيّر بقدر ما تغيّر مشهد العالم.
القوّة الفائقة
إذا كان لكلّ عصر ثوراتُه، فلكلّ ثورة أساليبها ومفرداتها. فمن حيث الأسلوب، نحن إزاء ثورات سلميّة، تشتغل بالقوّة النّاعمة لا بالقوّة العارية، كما كان من أمر الثّورة في تونس ومصر بشكل خاصّ. فالعنف خرّب الثّورات السّابقة وبدّد الأحلام وقوّض الشّعارات وهو لا ينتج سوى الدّمار المتبادل في عصر الاعتماد المتبادل.
وإذا كان للثّورة الرّقميّة دروسها، فهي تعني أنّ القوّة النّاعمة والفائقة هي أقوى من الأنظمة الأمنيّة وأجهزتها المخابراتيّة. وهكذا نحن إزاء ثورات لم تصنعها الرّشّاشات، بل الكتب الرّقميّة والشّاشات الخارقة للجدران الحديديّة والعقائد المغلقة.
وإذا كانت الثّورات السّابقة، بثنائيّاتها المانويّة الضدّية، واستراتيجيّتها القاتلة والمدمّرة، تنظر إلى الفرد، كعبد خاضع يمارس طقوس العبادة للثّورة وآلهتها وأبطالها، فإنّ الثّورات الجديدة النّاعمة المدنيّة تتعامل مع الفرد كمنتج ومشارك في بناء بلاده، كما شارك في صنْع ثورته.
ويقول حرب: كان لافتاً ما أبدعه شباب مصر في ميدان التّحرير من الأساليب والمفردات والطّرائف والقصائد التي جعلتهم يتعاملون مع الثّورة كعمل فنِّي جماليّ أي بوصفها مصدر إبداع وفرح. ولهذا جرى التّركيز على قيم الحرّية والكرامة لكي تتراجع شعارات التّحرير والمقاومة والممانعة، كما رفعت شعارات الدّيمقراطيّة والتّعدّديّة والشّراكة والتّنمية، لكي تتراجع مقولات الأحاديّة والمركزيّة والفوقيّة.
عالم عربيّ مشترك
يرى المفكّر علي حرب أنّنا إزاء ثورات عربيّة وليس ثورة عربيّة كبرى، ثورات متعدّدة تجري في أكثر من بلد عربيّ. وإذا كانت لكلّ بلد خصوصيّته، فالمجتمعات العربيّة تتماهى مع بعضها البعض، بمعنى أنّ الواحد يؤثّر في الآخر كما يفيد منه، يستدعيه كما يعمل على دعمه وتعزيزه، وذلك من جهة التّأثيرات المتبادلة بين الثّورات والانتفاضات. وبذلك تثبت الشّعوب العربيّة أنّها تمارس وحدتها من غير ادّعاءٍ أو تنظير. وتلك هي المفارقة، فما يجري من ثوراتٍ عابرة يحطّم الحدود المادّية والمعنويّة، لكي يفسح المجال واسعاً للتّبادل بين بلد عربيّ وآخر.
ويرى حرب أنّ ما لاقته هذه الثّورات من تأييدٍ عالميّ وخصوصا من الرّئيس الأميركيّ باراك أوباما يسجّل نهاية لنظريّة المؤامرة والأجندات الخارجيّة، كما يسجّل نهاية سيادة الدّول واستقلال الأوطان بالمعنى المطلق أو المقدّس، خصوصا عندما يتحوّل الحكّام إلى جزّارين يسفكون دماء شعوبهم، مستشهدا بالعقيد معمّر القذّافي وحربه على شعبه اللّيبيّ الذي يستغيث بالدّول الغربيّة وحلف شمال الأطلسي لإنقاذه.
ويعتقد حرب أنّ هذه المجازر تعطي الأمم المتّحدة الحقّ في التّدخّل ضدّ أيّ حاكم يعتدي على مواطنيه العزّل، وفي هذا السّياق يندرج التّدخّل الدوليّ في ليبيا من أجل حماية المدنيّين وتجنيبهم تلك المجازر. ولا شكّ في أنّ هذا الكلام مثار جدلٍ وخلافٍ وخصوصا بعدما تجاوزت الولايات المتّحدة وحلف الأطلسي تفويض مجلس الأمن الدوليّ في قراره رقم 1973 الذي نصّ على حظْر جوّيّ فوق ليبيا، حيث قامت بضربات جويّة ضدّ القوّات اللّيبيّة ومنشآت ومواقع تابعة للقذّافي وحكومته، أسفرت عن مقتل مدنيّين. كما لا يمكن استبعاد نظريّة المؤامرة كلّيا مع وجود عامل النّفط في ليبيا وما يثيره من لعاب الدّول الغربيّة. وكذلك لا نرى هذا التّدخّل الدوليّ والغربيّ البتّة ولا حتّى بالإدانات ضدّ العدوان الإسرائيليّ المستمرّ في فلسطين وحصار قطاع غزّة، ممّا يعيدنا إلى مربّع المعايير المزدوجة.
نظام عربيّ جديد
يقول حرب إنّ الأكثريّة من عرب وغربيّين، بينهم مفكّرون كبار، كانوا يخشون على الهويّة والخصوصيّة والحريّة، من العولمة وثوراتها وتحوّلاتها، فإذا بها تفتح الإمكان الواسع لكسْر القيود والتّحرّر من نير الاستبداد. وهذا ما يذهب إليه علماء ومعلّقون اقتصاديّون أمثال الفرنسيّ جاك بوفريس والأميركيّ مارتن وولف. ولا عجبَ، فالاقتصاد الحديث، بنمط إنتاجه وسلعه وأسواقه المفتوحة، يتيح حريّة التّبادل للأفكار والأشخاص والأشياء، في حين أنّ الثّورات العربيّة السّابقة بشعاراتها وأيديولوجيّاتها الجديدة تعمل على تقويض الحرّيات واستعباد العقول.
ويرى حرب أنّ سقوط نظام الرّئيس زين العابدين بن علي في تونس بهذه السّرعة وهو الذي كان يبثّ الرّعب في النّفوس بأجهزته الأمنيّة، معناه أنّه كان نظاما هشّا يخشى شعبه أكثر ممّا يخشاه شعبُه. وما تكشفه ثورة تونس أنّ الأنظمة الاستبداديّة هي أعجز وأضعف من أن تصمد أو تتغلّب على شعبٍ كسر حاجز الخوف وأجمع على تغيير نظامه السّياسيّ وواقعه الاجتماعيّ. ولعلّ هذا هو الدّرس الأوّل من الانتفاضة التّونسيّة والزّلزال المصريّ.
وكان من الطّبيعيّ أن يكون لما حدث في تونس أصداؤه في العالم العربيّ، خشية وتوجّسا، أو استلهاما واحتذاء، سواء لدى الرّؤساء والزّعماء، أو لدى الشّعوب.
ويعتقد حرب أنّ ما يحدث من انتفاضات في أكثر من بلد عربيّ لا يصبّ في مصلحة شرق أوسط إسلاميّ، كما يعتقد الإيرانيّون، لأنّ مفهوم الشّرق الأوسط، الذي هو مفهوم غربيّ أميركيّ، يقوم على استبعاد المصطلح العربيّ. بهذا المعنى يلتقي الأميركيّ والإيرانيّ على استبعاد العرب من الفاعليّة والدّور. وما يجري في العالم العربيّ اليوم من فراغ إستراتيجيّ تسدّه الآن دول إقليميّة تحت شعارات دينيّة، يعود في بعض عوامله إلى ضعف مصر وفقدانها الدّيناميكيّة والحركة والمبادرة. وهو يرى أنّ استعادة مصر لدورها الفعّال سيكون لها أثرها عربيّا، على المستوى الإستراتيجيّ والقوميّ. وإذا قُدّر لهذه الانتفاضات العربيّة أنْ تنجح فسوف تُفضي إلى تغيير وجه العالم العربيّ، بحيث يغادر عجزه ويستعيد عافيته وفعاليّته وحضوره على المسرح العالميّ، بما يعني ذلك من تراجع التّدخّل الأميركيّ والنّفوذ الإيرانيّ على حدٍّ سواء.
صدمة النّخب والمثقّفين
ويوجّه حرب نقده للكثير من المثقّفين الذين لا مصداقيّة لهم في ما يعلنون من مواقف، بحسب قوله. فهم ضدّ الاستبداد في مكان ومعه في مكان آخر. فهم ضدّ المجازر الإسرائيليّة في غزّة، ويصفّقون لمجازر تنظيم القاعدة في العراق بحقّ مدنيّين عراقيّين. وهم مع الحريّة في تونس ومصر، ولكنّهم ضدّها في لبنان. وبذلك يثبت المثقّفون من أصحاب المشاريع الأيديولوجيّة والثّوريّة والتّحرّريّة انكشاف عجزهم وهشاشتهم وجهلهم بالنّفس وبالآخر والمجتمع والعالم.
فما جرى في تونس ومصر وقد يجري في بلدانٍ عربيّة أخرى تنتظر دورها، يفكّك ثنائيّة النّخبة والجماهير، ويكسر عقليّة الوصاية على القيم والمجتمعات بعقل نرجسيّ وفكر أحاديّ. والدّرس المستفاد من الحدث التّونسيّ هو أن لا مجال بعد اليوم لأن تدار الدّول بعقل مركزيّ فوقيّ أو سلطويّ بوليسيّ أو استبداديّ شموليّ، يحوّل المجتمعات والسّلطات والثّروات إلى سجونٍ أمنيّة أو أجهزة مخابراتيّة أو احتكارات ماليّة. ففي عصر القنوات والشّبكات، حيث تنتشر المعلومات وتتعولم الأفكار وتتشكّل الهويّات العابرة والمتداخلة، تنفتح الحكومات النّاجحة والفعّالة على الحراك الاجتماعيّ بكلّ دوائره ومستوياته، بقدر ما تعمل بمنطق أفقيّ ديمقراطيّ تبادليّ.
ومن الدّروس أيضا أن ليس لأحد أن يتعامل مع بلده بوصفه مشروعه الخاصّ، لكي يحتكر شؤون الحقيقة والسّلطة والثّروة والمشروعيّة، وليس لأيّ فئة أو قوّة سياسيّة معارضة أو موالية، أن تحتكر الوصاية على العدالة والتّنمية والحريّة أو على الهويّة والأمّة والمقاومة، وسواها من القيم العامّة. فهذه ليست ملكا لأحد، لأنّ كلّ مواطن له صلة بها، ويشارك في بناء بلده بعمله واختصاصه وإنتاجه وإبداعه. إنّ عصر الأيديولوجيّات الثّوريّة والأصوليّات الاصطفافيّة التي يدّعي أصحابها امتلاك الأجوبة النّهائيّة والحلول القصوى للمشكلات، قد أفضى إلى الإخفاق أو إلى الكوارث.
وما حدث في تونس وترك أصداءه المدوّية وآثاره العميقة في النّفوس، لا يعني أنّه سوف يحدث بحَرفيّته في بلدان عربيّة أخرى تعاني من الفساد والفقر والاستعباد. وإذا كان الحدث لا يتكرّر، فإنّ معنى ذلك أنّ كلّ بلد عربيّ يعاني من القهر والعبوديّة، إنّما يصنع نموذجه ويغيّر واقعه على طريقته.
الفاعلون الجدد
والأهمّ أنّ ما حدث في تونس ويحدث في أكثر من بلد عربيّ، وخاصّة مصر، هو وليد ثورة المعلومات والاتّصالات التي أتاحت البثّ والاتّصال للصّور والمعلومات بسرعة البرق، كما أنّه ثمرة للقوى الجديدة الصّاعدة على المسرح، والتي باتت من معطيات الواقع العالميّ الرّاهن، كالصّين والهند والبرازيل وتركيا، ممّا عنَى كسر النّموذج والقطب والمركز في التّنمية والسّياسة والمعرفة.
وهناك صعودُ الأجيال الجديدة الشّابّة التي استطاعت الخروج من عقال الأيديولوجيّات الإسمنتيّة والمنظّمات الجهاديّة الإرهابيّة. لهذه العوامل وبخاصّة الشّباب، ووسائل الإعلام، الدّور الأكبر في الثّورة الجارية، التي هي ثورة سلميّة مدنيّة لا تشبه ما سبقها.
ويرى حرب أنّ الانتفاضات الجارية تعطي مصداقيّة للفيلسوف الأميركيّ فرانسيس فوكوياما وليس لصاموئيل هانتنغتون، لأنّ الأوّل نظر بعين الذّاكرة الموْتورة المشدودة إلى الماضي، كما تشهد مقولته "صدام الثّقافات". أمّا فوكوياما فقد نظر بعين البصيرة العاقلة فتوقّع انتصار الدّيمقراطيّة في زمن تحوّلات العولمة اللّيبراليّة.
ويقول حرب ثمّة صورة لافتة وسط المشهد هي صورة وائل غنيم النّاشط الإلكتروني في ثورة مصر، فهو لا يهدّد بحرق البلاد والعباد تحت شعار "أنا أوْ لا أحد"، بل يبكي بعد خروجه من السّجن، معترفا بأنّه ليس بطلا بل هو واحد كسواه ممّن يشاركون في صنْع ما يحدث. هذا نموذج لا يشبه النّماذج الثّوريّة السّابقة بأشكالها المختلفة. لا يشبه الحاكم الدّيكتاتوريّ أو السّياسيّ الفاشيّ، ولا المنظّر العقائديّ أو الحداثيّ. إنّه يشبه غاندي ومانديلا، إنّه نموذج الفاعل الجديد الذي يشارك في صنْع عالمٍ مختلف وافتتاح عصر جديد لا تصنعه الكتب السّماويّة ولا الفلسفات المادّية، بل الكتب الرّقميّة والانتفاضات السّلميّة التي تسجّل نهاية زمن البطولات الدّمويّة والبيروقراطيّة الثّقافيّة.
ويأمل حرب أنْ تنجح الانتفاضات الجارية أو التي يمكن أن تحدث في امتحانات الدّيمقراطيّة والتّنمية والعدالة والكرامة، لكي تصنع مستقبلا جديدا تنكسر معه الصّور النّمطيّة السّلبيّة عن العرب، لكي تتشكّل صورة جديدة مشرقة، بوصفهم من بناة الحضارة ومن صنّاع المعرفة والحداثة والتّقدّم، للمشاركة مع بقيّة الجماعات والأمم في رسم مستقبلٍ أفضل للبشريّة.
-------
المصدر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - 12 أكتوبر 2011