يسعى الباحث في الباب الأول إلى تقديم مدخل نظري حول الفكرة الأساسية للدراسة، والمتمثلة في تحديد العلاقة بين الأمن القومي والديموقراطية في أوقات الأزمات، وتوضيح ما إذا كانت العلاقة بينهما تتسم دائماً بالتصادم سواء في الدول الديموقراطية أم في الدول غير الديموقراطية، بالإضافة إلى تحديد ما إذا كانت النظم الديموقراطية أكثر نجاحاً في التعامل مع أزمات الأمن القومي من النظم غير الديموقراطية.
ومن هنا يتضمن الباب الأول فصلين، يتم في الفصل الأول التأصيل النظري للمفاهيم الأساسية التي تستخدمها الدراسة، وهي مفاهيم الأمن القومي والديموقراطية والأزمة، وذلك بهدف التعرف على العلاقات المحتملة بين تلك المفاهيم.
أما الفصل الثاني، فيتضمن خلفية تاريخية لبدء الاهتمام الأكاديمي بدراسة العلاقة بين الأمن القومي والديموقراطية، على اعتبار أن القضية قديمة ولكن الاهتمام الدولي بها لم يصبح موضوعاً للنقاش العام سوى في عقد السبعينيات من القرن العشرين، وهو العقد الذي شهد موجة من التحول الديموقراطي شملت العديد من الدول النامية التي كانت تحكمها أنظمة سلطوية.
الدراسة كاملة مرفقة بالأسفل
ألقيت هذه المحاضرات في مناسبات مختلفة، ومدن مختلفة، على مستمعين مخالفين. إلا أن ما يجمع بينها كلها هو ذلك التقاطع بين العولمة، ومتطلباتها الكثيرة، والهوية الوطنية، ومستلزماتها العديدة.
إن العلاقة الجدلية التي قد تكون سلمية وقد تكون عنيفة بين العولمة والخصوصية ستكون عاملا من العوامل الأساسية المؤثرة في العلاقات الدولية في السنين المقبلة. هذا الجهد المتواضع يثري النقاش حول موضوع يحتاج المزيد من النقاش.
المقالات كاملة مرفقة بالأسفل للإطلاع.
الحزب السياسي هو، في الاعتبار النظري العام، مجال تعبير الأغلبية عن رأيها، وفرصة اضطلاع هذه الأغلبية بالمسؤولية في اتخاذ القرارات، أو في توجيهها، أو في العون على اختيار أمثلها أو أنسبها، وفقا للظروف التاريخية السائدة وللوسائل التنفيذية المتاحة.
وهو ميدان السعي المشترك لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي المنشود المتلائم مع التصورات المختارة لمستقبل المجموعة، ويخلع على هذا التغيير شرعية القرارات الصادرة عن الأغلبية ويكسبها سداد المبادرات الناجمة عن اجتهادات النخبة، ويضمن للمصلحة المطلوبة فرص التعديل لهذه المبادرات وتصحيح تلك القرارات بحسب العوامل المستجدة والظروف الطارئة.
دراسة الحالة كاملة مرفقة بالأسفل.
في إطار البحث عن ما أصاب العلوم الإجتماعية العربية من مأزق وضعنا أمام حاجة ملحة لإعادة النظر في النظرية الاجتماعية المعاصرة والبحث في إمكانية صياغة منظور حضاري معاصر قادر ليس فقط على علاج ما نراه من قصور وتناقضات وانما على المشاركة في المشهد الاجتماعي الحضاري باستكمال أهم مراحله البنائية التي تطلب إستدعاء العلم بقيمه وأخلاقياته . ومن خلال التعرف والإطلاع على محاولات التعامل مع تلك الأزمة والتي تراوحت ما بين الثورة على المنظور المعرفي القائم وتقديم الجديد وبين تجديد القائم وإصلاحه يمكن تحديد المشكلة الأساسية للدراسة في :
“من خلال التتبع لحركة التاريخ الاجتماعي يمكننا إستنتاج أن العلوم الإجتماعية في العالم الغربي ما قامت إلا لبناء المجتمعات وإعادة التوازنات وضبط لسلوك الأفراد بعد ما أحدثته فيها الثورات والصراعات الإجتماعية ، إلا أنها عجزت أو لربما لم ترق حتى الآن إلى القيام بهذا الدور في مجتمعاتنا العربية ذلك على الرغم من تبنيها لهذا العلم الغربي ، فكان لزاماً التساؤل لماذا أخفقت هذه العلوم في الواقع العربي وإختلاف نتائجه عنه في الغربي على الرغم من تماثل المناهج والأدوات ؟ ”
وفي إطار الإشارة إلى وجود عدد من النماذج المعرفية والبدائل المنهجية للبحث في هذه التساؤلات بل ومحاولة معالجة الأسباب ، إلا أننا سرعان ما نكشف عن قصور هذه المحاولات أيضا ، فيبقى هناك حاجة ملحة إلى السعي نحو إستعادة هذه العلوم لجانبها القيمي والأخلاقي بحيث تسهم بشكل فعال في الواقع الاجتماعي المعاش بتوجيه مساره وتعديل حركته ، ومن خلال التعرف على طبيعة التطور التاريخي للنظرية المعاصرة وإختلاف مآلاتها ونتائجها ، فإننا نحاول أن نطرح رؤية جديدة قد تسهم بشكل أو بآخر في إعادة الفلسفة الكلاسيكية في ثوب معاصر .
هذا المنهج الذي يجب وأن ينطلق من البحث في الاخلاق وكيفية إستعادة الجانب القيمي الذي أودت به الوضعية الغربية ، وذلك ما يدفعنا إلى تناول السؤال البحثي التالي :
“هل يمكن الاعتماد على الخبرة الروحية للحضارات – الحضور الروحي – أو ما يطلق عليه بالتصوف في إستعادة الدور البنائي والإرشادي للعلم الاجتماعي خاصة في مراحل ما بعد الثورات ؟
الدراسة متاحة للتحميل بالأسفل
- أولاً المقدمه:
تحاول هذه الورقة معالجة قضية الأقليات الإثنية والصراعات لذلك توضح العلاقة بين التعددية الإثنيهوطبيعة النظام السياسي والعوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية وأثرها علي تطور الصراعات الأمازيغيه في المغرب.
- ثانياً إشكالية الدراسة: فالسؤال الرئيسي هنا:
- هل أثرت التعدديه الإثنيه علي الاستقرار السياسي في المغرب الفتره من 2001_2015
- التساؤلات الفرعيه:
- الي أي مدي أثرت الاوضاع الإقتصادية والسياسية علي الإثنيات في المغرب؟
- هل هناك سبيل لإدارة التعددية الإثنيه ومؤسساتها وسياساتها؟
- هل النزاع في المغرب بين الأمازيغ والحكومه نتيجه للتهميش أو لتدخل أجنبي؟
- ثالثاً أهميه الدراسة:انطلاقاً مما سبق فإن هذه الدراسه تقوم علي جانبين من الأهميه الجانب الاول وهي:
الأهميه النظرية ” العلمية”:تدور هذه الدراسة حول المقولات النظريه المتعلقة بالصراعات الإثنية والنظرية الواقعية التي حدث بعد الحرب البارده وظهور عدد منالانقساماتوالصراعات داخل الدول وتحللاً لظاهره العنف الإنساني وظهور النعرات العرقية.
والجانب الثاني من الأهميه هو الأهميه العمليه ” التطبيقية”:
فالتطبيق العملي لهذه للدراسة كيف أن ملك المغرب إهتم بالحديث عن الثقافة الأمازيغيةوأن الدستور المغربي أدرك بعد ثورات الربيع العربي,وقام بإدخال اللغة الأمازيغية في الدستور تجنباً للنزاعات الإثنية والصراعات .
خامساُ الإطار المنهجي: المنهج المستخدم هنا إقتراب الدور هو عبارة عن مجموعة من التفاعلات والسلوكيات المتكاملة والمنظمة لشخص يشغل مكانة في المجتمع يؤديها أتجاه شخص واحد أوكثر حسب القيم والمعاير في المجتمع .(1) ويطبق في البحث عن طريق الدور الذي يشغلة الأمازيغ في المغرب وقدرتهم علي التأثير في المجتمع سواء بالسلب أو الإيجاب.
- سادساً تقسيم الدراسه:تقسم هذه الدراسة إلي ثلاث محاور وهي,المحورالأول: الإطار النظريللجماعاتالإثنيهوالعرقيه, المحور الثاني الأبعاد المؤثره في النزاعات الإثنيه والاستقرار السياسي في المغرب ,المحور الثالث: استراتيجيات أدارة الأثنية “الأمازيغ” في المغرب.
الدراسة كاملة مرفقة بالأسفل للتحميل
تعاني الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة منذ تشكّلها من أزمة الهويَّة. بل إنَّ هذه المشكلة صارت في القرنين الأخيرين قضيَّة كيانيَّة أصليَّة. غير أنَّ خطاب الهويَّة ظلَّ مرتكزاً بالأساس على معيارَي العروبة والإسلام ومشحوناً بالانفعالات. وقد أدَّى تغييب التّشخيص العقلاني إلى تفاقم الأزمة على جميع الأصعدة، كما حال الاعتقاد بوجود هويَّات صافية دون ممارسة النّقد الموضوعي للأنا وللآخر، ووضع محدّدات واضحة وتصوُّرات تفضي إلى هويَّة مستقرَّة ومتوازنة. وبما أنَّ مسألة الهويَّة وجوديَّة في نهاية المطاف، فإنَّه لا بدَّ
من الوعي بالذَّات وبالآخر في الوقت ذاته ومن مساءلة مفهوم الهويَّة باستمرار.
إنَّ التشخيص السّليم لمأزق الهويَّة في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة يقتضي التنقيب عن الأسباب الكامنة وراء الأزمة والكشف عن تجلياتها في شتَّى الميادين تمهيداً لمجابهتها وإيجاد الحلول الكفيلة للخروج منها. لذلك سينكبُّ البحث في مرحلة أولى على رصد أسباب الأزمة الدَّاخلية كالعوامل العقديَّة الفكريَّة والسّياسيَّة والاقتصاديَّة الاجتماعيَّة من ناحية، ثمَّ الأسباب الخارجيَّة مثل الاستعمار والحرب الباردة والعولمة والصّراع العربي الإسرائيلي من ناحية أخرى. كما سيسلّط الضَّوء في مرحلة ثانية على تداعيات الأزمة على أهمّ المستويات الحضاريَّة الثقافيَّة والاقتصاديَّة الاجتماعيَّة والسيّاسيَّة العسكريَّة. أمَّا المرحلة الأخيرة من العمل فإنَّها ستستشرف الهويَّة باقتراح خطوتين متزامنتين: أولاهما نقد الذات، وثانيتهما نقد الآخر.
النص كاملا مرفق بالأسفل للتحميل
دراسة حالة: حزب النور، المصريين الأحرار
تعد الأحزاب السياسية أحد أهم مظاهر الحياة السياسية خاصةً في النظم الديمقراطية نظرًا لما تقوم به من أدوار هامة سواء المنافسة للوصول إلى السلطة أو تحقيق لمبدأ المشاركة السياسية أو تمثيل لإرادة الشعب من خلال تحديد الخيارات والبدائل التي يفاضل بينها المواطنون في الانتخابات، وبناءً على ذلك فيكون لها دورًا هامًا في تعزيز أو الانتقاص من شرعية النظام السياسي.
وبالنظر إلى تطور حالة الحياة الحزبية في مصر نجد أنها بدأت في مطلع القرن العشرين من خلال ميلاد الحزب الوطني لمواجهة الاحتلال البريطاني، إلا أن البعض يرى أن الميلاد الحقيقي للتجربة الحزبية جاء بنشأة حزب الوفد عقب ثورة 1919 للتعبير عن مطالب الثورة، ولكن حدث تعثر للحياة الحزبية في مصر بقيام ثورة 1952 وذلك من خلال إصدار قرار بإلغاء جميع الأحزاب السياسية نتيجة لفشلها في حل القضايا الوطنية، ولكن بحلول عام 1976 عادت الأحزاب مرة آخرى ولكن يرى البعض أنها كانت عودة شكلية لإضفاء شكل التعددية على النظام الحاكم واستمر الوضع هكذا حتى قامت ثورة يناير في 2011 والتي تلاها ظاهرة “الانفجار الحزبي” المتمثلة في صدور عدد كبير من الأحزاب المختلفة في خلفيتها الفكرية والايديولوجية.[1]
ولكن بعد ثورة 30 يونيو نجد تغيرًا واضحًا للحياة الحزبية في مصر متمثلًا في اختفاء الأحزاب الكبرى سواء القائمة على أساس ديني مثل الحرية والعدالة وبذلك احتكر حزب النور تمثيل الاسلام السياسي في النظام الحزبي، هذا بالإضافة لضعف معظم الأحزاب المدنية مما أدى لضعف النظام الحزبي في مصر.
وبناءً على ماسبق سوف تسعى تلك الدراسة للمقارنة بين فاعلية أداء الأحزاب في الفترة من (2011-2016) ومحاولة معرفة أسباب تغير دور الأحزاب بشكل ملحوظ بعد 30 يونيو مع المقارنة بين أداء الأحزاب في برلماني 2012 و2016 لمحاولة التنبؤ بكيفية بناء نموذج حزبي فعال قادر على تلبية مطالب الأفراد.
يمكن تحميل باقي الدراسة من المرفقات بالأسفل
المصدر: المركز العربي الديمقراطي
تعد مسألة الهوية من أهمّ القضايا التّي لاقت اهتمام العديد من المفكرين والسياسيين في ظل فشل بعض الدول والنخب السياسية في التوليف بين الهويات وتشكيل ما يعرف بالتعايش الهوياتي، خاصة في دول العالم الثالث[1].
ففي أي إقليم نجد مجموعة من الأفراد يسكنون ويمثلون صفات عددية (العدد، الكثافة، الحركية، النمو الديمغرافي)، وصفات أو ميزات نوعية (اللغة، الدين، الثقافة، مستوى المعيشة) فكلمة فضاء اجتماعي ثقافي تعني خصيصاً الميزات النوعية للشعوب. ولهذا قد نجد في إقليم واحد شعب داخل حدود دولة واحدة. ولكن تفرق بينه حدود اجتماعية وثقافية تعطينا في الأخير عدة شعوب داخل إقليم واحد.
ونشير إلى أن هذه الفضاءات لم يشر إليها راتزل في كتاباته وإنما اهتم فقط بالدولة، لكنها أصبحت اليوم من صميم موضوعات الجغرافية السياسية، خاصة بعد طرح مقاربة صامويل هنتنغتون سنة 1997 في ما يسمى ب”صدام الحضارات.
وأول من تبنى دراسة هذه الفضاءات الاجتماعية الثقافية هو كنافو Cnafouعام 1997 من خلال مقاربة ديمغرافية، في حين نجد معظم الجغرافيين والدراسات البشرية منذ سنين لا تهتم إلا بالصفات العددية لهذه الفضاءات لأنها أكثر استخدام وأسهل، وهذه الفضاءات قد نجدها في شكل مهني كالنقابات واتحادات العمال، الفلاحين …الخ. وقد نجدها في شكل ديني من خلال وجود معتقد واحد كمسلم، مسيحي وبوذي…الخ، وقد نجدها في شكل أيديولوجي كاشتراكي، شيوعي أو رأسمالي…الخ[2]. وحتى في شكل فكري إعلامي، مثل ما يوجد الآن من فضاءات للتواصل الاجتماعي كالفيسبوك، التويتر…الخ[3].
وقد أعد تيفي وسميث فرضيات حول الدولة والأمة تصلح للتحليل والقياس، وهي[4]:
- يتألف العالم من فسيفساء من الأمم.
- يتوقف النظام والاستقرار في المنظومة العالمية على التفاعل الحر لهذه الأمم.
- الأمم هي الوحدات الطبيعية للتعبير عن المجتمعات.
- تتمتع كل أمة بثقافتها الخاصة القائمة على نسب وتاريخ مشترك.
- كل أمة تحتاج إلى دولتها السيادية التي تعبر من خلالها عن ثقافتها.
- تتمتع الأمم (وليس الدول) بالحق المطلق في أرضها أو وطنها.
- لابد لكل إنسان فرد أن ينتمي إلى أمة.
- الولاء الأول لكل إنسان فرد إلى أمته.
- لا حرية حقيقية للإنسان الفرد إلا من خلال أمته.
وتعمل الدولة- الأمة في جوهرها على تزويد مواطنيها وقومها بالمتطلبات الأساسية التي تؤكد لهم هويتهم المكانية- الزمانية وتحدد لنا الأبعاد الزمانية والمكانية التي تنتمي إليها.
وقد ترتب على التقدم الكبير في تقنيات الاتصالات، وخاصةً الفضائيات، تحطم الحواجز الجغرافيّة والحدود السياسية أمام الوارد الثقافي من خارج البلاد، ولم يعد أمام الدول التي تحرص على الحفاظ على هويتها الثقافية إلا أن تتقدم في العلم لتقديم بديل ثقافي أرقى، أو لسد منافذ الاقتحام الثقافي والإعلامي الخارجي غير المرغوب فيه
الدراسة كاملة مرفقة بالأسفل للتحميل
المصدر: المركز العربي الديمقراطي
فـي حـيـاة الأمــم والـشـعـوب وعـلـى َّسـلـم الـتـطـورالـتـاريـخـي لـلـبـشـريـة، ثـمـة مـحـطـات رئيسة لتحولات عميقة أصابت صيرورة هذه الشعوب نحو تطورها وتقدمها،على الرغم من التباين والاخـتـلاف بينها فـي الـزمـان والـمـكـان، وفـي طبيعة التحول ذاتـه، إذ شهدت المرحلة الحالية مـن تاريخنا المعاصر ً تناقضا بين مـسـاراتـهـا الـمـتـعـددة، وعـلـى الـرغـم مـن الـمـخـاض الصعب والمتناقض هذا، يبدوأن صوت الحرية والديمقراطية أضحى ً طاغياعلى غيرهمن الميادين الأخرى، لذايجب وضع مجموعة الأفكاروالتصوراتحول قضية حركيات التحول الديمقراطي فـي مـركـز الاهـتـمـام، بحيث تشكلفـي منطلقها ً سبيـلا إلـى إعــادة تـأسـيـس المفاهيم فـي ظل العولمة التي تعيد إنتاج أدواتها ومفاعيلها بصور جديدة. من هذا المنطلق، نجدأن لكل دولة نسختها من التحول هـذا، ولكل مجتمع عناصر الدفع التي أدت إلـى أو أعاقت ذلـك التحول، وهذا التفاعل بين العناصرالمختلفة هو الذي شكل لكل نظام نسخته النهائية.
الدراسة كاملة متاحة للتحميل من المرفقات بالأسفل
المصدر: المجلة العربية للعلوم السياسية
تعتبر المشاركة السياسية من أهم الموضوعات التي لاقت اهتماماً كبيراً من الرأي العام العالمي خلال العقدين الأخيرين، ولم يكن الرأي العام الكويتي بعيداً عن ذلك حيث لم تشغل تلك القضية المتخصصين والمهتمين بدراسات الديمقراطية فقط بل امتدت إلى الشارع الكويتي بمختلف أطيافه منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين، حيث بدأ الكثير من المحللين يركزون على قضية غياب الديمقراطية والمشاركة السياسية وما يترتب على ذلك من عدم وجود نظم تخضع للمساءلة والمحاسبة وهو الأمر الذي يعتبر السبب الرئيسي لتراجع المجتمعات العربية، وتزايد المشكلات التي تعاني منها تلك المجتمعات بشكل عام، والنظم السياسية الخليجية، والنظام الكويتي بشكل خاص والذي يمتلك الكثير من المقومات التي تدعم تحوله نحو الديمقراطية.
كما شهدت الحياة السياسية في الكويت ظاهرة المقاطعة والتي تعتبر ضربة قاسمة لعملية المشاركة السياسية في الكويت،ويتضح تأثير ذلك على تدني نسب المشاركة بمقارنة نسب التصويت في 2013، و2012 مع غيرها من الإنتخابات البرلمانية حيث عكست تلك الإنتخابات ضعف المعارضة السياسية داخل المجلس وكذلك ضعف التمثيل للكتل والقوى السياسية اضافة الى ان الحل المتكرر للمجالس المتعاقبة أدى إلى شعور المواطن الكويتي بالملل وعدم الثقة في استمرار أي مجلس قادم واكمال مدته الدستورية وبالتالي فإن أي مشاركة ليست ذات جدوى وستكون نتائجها كسابقاتها وهو ما أدى كذلك إلى عزوف البعض عن المشاركة والذهاب إلى صناديق الانتخاب، إضافة إلى الضعف الشديد للمشاركة في الإنتخابات البلدية الاخيرة التي أجريت عام 2013.
وتحاول هذه الدراسة التعرف على أهم أسباب العزوف عن المشاركة في الإنتخابات العامة في الكويت سواء الإنتخابات البرلمانية أو الإنتخابات المحلية وذلك في محاولة جادة لتفعيل المشاركة السياسية، ويقوم الباحث في سبيل ذلك بعمل دراسة مسحية إحصائية على عينة من المواطنين في محافظات الكويت ممن يحق لهم التصويت.
الدراسة كاملة متاحة للقراءة على المصدر (المركز الديمقراطي العربي)
المزيد...
هناك اختلاف حول تحديد معني التعصب Fanacticism ولاسيما أن الإيمان بالمعتقدات، والآراء، أيا كانت ينطوي علي درجة ما من الحماسة، وإعلان الهوية المختلفة عن الآخرين، والعمل علي الترويج لها، والدفاع عنها في مواجهة الغير. من هذا المنطلق فإن كل شخص متعصب لرأيه. ولكن هناك فرق بين "الإيمان" و"التعصب". الأول فعل ايجابي، أما الآخر فهو عمل سلبي. من أكثر أنواع التعصب شيوعا، هو التعصب الديني أو المذهبي. في المنطقة العربية، توجد تعددية دينية وعرقية ومذهبية، فهذه سمة من سمات التكوين الاجتماعي للمنطقة منذ قرون طويلة، ولكن المشكلة التي أخذت في التزايد في الفترة الأخيرة هي:
شيوع التعصب الديني أو المذهبي القائم علي استغراب الآخر، تهميشه، واستبعاده، وربما النفي الجسدي له.
الانفراد بمشروع سياسي علي أسس دينية أو مذهبية، ترويجه والدفع به علي حساب التكامل الوطني.
هاتان الإشكاليتان تحولتا إلي "عامل مقلق" في المنطقة العربية، وبخاصة في ظل انفجار الموقف العراقي علي أساس مذهبي، وتحول الصراع السياسي إلي نزاع مذهبي في الحالة اللبنانية، ووجود مخاوف "مكتومة" لدي قطاعات واسعة من السوريين من أبناء الجماعات الدينية أو المذهبية المختلفة، وهي نفس الحالة التي نراها دائما في قلب السجالات حول العلاقات الإسلامية المسيحية في مصر.
الخروج من الطائفية لا يتحقق إلا بتدشين المدنية، وهو ما نطلق عليه "مدنية المجال العام" Public Sphere. يعني ذلك أن يكون الفضاء العام مفتوحا أمام جميع المواطنين، يمارسون فيه حركتهم بحرية، يعلنون فيه عن برامجهم وتصوراتهم دون حظر، ويحصلون جميعا علي نصيب واسع من حرية التعبير عن أنفسهم. لا يختطفه تيار أو قوي سياسية بعينيها ، تستأثر به وحدها، وتبعد سائر القوي الأخرى عنه. وعندما يكون المجال العام "مفتوحا" يعني ذلك أن بإمكان المواطنين أن يعبروا عن رؤاهم السياسية، لا يصادر عليهم أحد. وتصل أصوات "مهمشمة" إلي الرأي العام، بمفردها أو من خلال ما تنتمي إليه من تيارات إلي صانع القرار، وتسود حالة من الحيوية السياسية والفكرية. هنا يصبح للحوار معني ومبني.
الطائفية، والتوظيف السياسي للدين، وإحياء الروح المذهبية تعني جميعا إغلاقا متعمدا للمجال العام، وحظرا لكافة صور التفاعلات بين المواطنين المتنوعين فكريا وسياسيا واجتماعيا.
(1) لماذا يستيقظ التعصب الديني أو المذهبي؟
من يتأمل المنطقة العربية من العراق إلي الصومال مرورا بلبنان يجد أن هناك صحوة شديدة للتعصب الديني والمذهبي، وهو ما يمثل عامل قلق بالنسبة للمهتمين بالشأن العام في مصر، الذين لا يريدون أن يروا مثل هذه الصحوة في المجتمع المصري، ويعتبرون أن أثمن ما في الخبرة التاريخية المصرية هو "حالة التعايش" بين المختلفين في الدين أو المذهب، وحتى وقت قريب لم يكن يسأل أحد من المصريين المسلمين عن الشيعة، ووضعهم في مصر، الآن صار هذا السؤال مطروحا عندما هبت علينا رياح الطائفية الرائجة في المنطقة العربية، والتي تطرح تساؤلات من قبيل "السني" و"الشيعي". وبالرغم من حدوث أزمات طائفية من آن لآخر في المجتمع المصري طرفاها مسلمون ومسيحيون، إلا أن عقلاء الأمة المصرية لا يزالوا يرون في ذلك أمرا عارضا، لا ينال من خبرة التعايش الإسلامي المسيحي، بل علي العكس يشير إلي أنه من الضروري أن نلتف جميعا لحماية هذه الخبرة، ورعايتها.
من هنا يصبح البحث في أسباب صحوة الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية ضرورة حتى نكون علي بينة منها، ونسعى بقدر المستطاع إلي تلافيها حفاظا علي الخبرة التاريخية المصرية.
من أبرز هذه الأسباب:
أ- تفكك مشروع الدولة القومية، ليس فقط في الوقت الراهن ولكن علي مدار مراحل متعددة، بدءا من الإخفاق في تحقيق التنمية، والعجز عن سد احتياجات السكان واللجوء إلي التكوينات الدينية والمذهبية لسد هذه الاحتياجات، وتنامي معدلات الفساد الذي ينخر في عظام الدولة، انتهاء بالتلكؤ عن الوفاء بالمطالب الديمقراطية، وأخيرا السعي لتبديد الصيغ الحالية للحكم مهما كانت التنازلات المقدمة خارجيا.
ب- الدولة العربية لجأت منذ عقود طويلة إلي توظيف "الدين" أو"المذهب" في إنتاج شرعية جماهيرية تواجه بها عجزها عن الإنجاز. صار كل حاكم أو حكومة تصطبغ بالصبغة الدينية حتى تسوق نفسها للجماهير، وتنال رضاها، في الوقت الذي لا تسهم فيه في تطوير المجتمع. كان من شأن ذلك تسييس التكوينات الدينية والمذهبية، وفتح شهيتها السياسية، ودفعها لتقديم نفسها لاعبا أساسيا في ظل ضعف الدولة، وترهلها.
ج- عجز كثير من الدول العربية عن تحقيق اندماج وطني حقيقي بين الجماعات الدينية والعرقية المختلفة، واللجوء إلي سياسيات "رديئة" في إدارة التنوع الديني والمذهبي، أسهمت في تمديد المشكلات، وتعميق الأحقاد التاريخية، وتنشئة أجيال علي استعذاب فكرة الاضطهاد في مواجهة النخب الحاكمة، وربما في مواجهة أصحاب الأديان أو المذهب التي تأتي منها هذه النخب.
د- صعود تيار الإٍسلام السياسي، بوصفه مشروعا سياسيا يقوم علي أساس ديني، لم يقدم تحديا للدولة القومية، ولكنها واجه ذات التحدي إلي الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى، ولاسيما في ضوء أمر أساسي أن موقف التيار الإسلامي، باختلاف فصائله، تجاه "الآخر الديني" ظل ملتبسا، يجعل من مفهوم المواطنة "دينيا"، بحيث يتحول غير المسلم إلي مواطن من الدرجة الثانية، أو ذمي. ويلاحظ أن المشروع الإسلامي حتى يجد سندا، ويستحوذ علي شرعية تمثيل عموم المسلمين، اتجه إلي تشجيع الأقليات الدينية إلي التحرك بشكل جمعي في المجال السياسي.
ه- التحولات السياسية في السنوات الأخيرة في العالم العربي لم تجد نخبا سياسية، أو شرائح اجتماعية، أو قوي سياسية قادرة علي إنجاز التحول الديمقراطي. كل ما حدث هو الكشف عن ضعف هذه الجماعات السياسية والاجتماعية، بحيث لم يعد في المشهد سوي الدولة والجماعات الدينية، بالمعني الواسع. في مصر الصورة أكثر وضوحا، فالمواجهة بين الدولة والإخوان المسلمين واضحة، ومن يقف إلي جوار النظام في المواجهة هي المؤسستان الدينية، الإسلامية والمسيحية.
و- حداثة العهد بمؤسسات المجتمع المدني، وعدم قدرتها علي تعبئة الجماهير علي أساس "المصلحة" أكثر من "الانتماء" إلي الطائفة، وحصار النظم العربية لها، أدي في النهاية إلي عدم قدرتها علي خلق رأس مال اجتماعي حقيقي (أي الروابط والجمعيات الأهلية والمدنية)، في الوقت الذي نجحت فيه القوي الطائفية في خلق رأس مال ديني، شعبوي تعبوي ( أي حشد الجماهير وراء أهداف سياسية عريضة دون التفكير في مشروع نهضوي حقيقي للأمة بأكملها). وفي بعض الأحيان تصبح مؤسسات المجتمع المدني وكيلا للطائفية الدينية، مثلما هو الحال في خبرة الممارسة في النقابات المهنية في مصر، خاصة بعد أن تحولت هذه المؤسسات من مكان يلتقي فيه المختلفون فكريا ودينيا علي أرضية مدنية، إلي ساحة لممارسة الفرز الديني من خلال فرض "إسلامية" النموذج.
ز- من تداعيات ما يطلق عليه الحرب ضد الإرهاب، الترويج للمؤامرة الكونية الغربية، الأمريكية في الأساس، التي تنطلق من مقولات دينية في مواجهة الإسلام والمسلمين. ومن البديهي أن تترك تأثيرا على علاقات المسلمين والمسيحيين في المجتمعات العربية.الأمثلة علي ذلك كثيرة من الحرب الأمريكية- البريطانية في العراق، إلي الرسوم الكاريكاتير الدانماركية انتهاء بمحاضرة البابا بنديكت. الربط بين ما يحدث على صعيد العلاقات الإسلامية المسيحية في السياق المحلي، وما يحدث من متغيرات عالمية يؤدى إلى أمرين: الأول رهن النزاعات المحلية- وليدة الواقع وظروفه ويمكن حلها محليا- بالتطورات الدولية التي تتعقد فيها العوامل وتتشابك المتغيرات. أما الأمر الثاني فهو تعقيد مسار العلاقات الإسلامية المسيحية لارتباطها بمتغيرات دولية، وتحويل الشأن الداخلي إلى شأن خارجي.
(2) لماذا تنجح دائما الجماعات "المتعصبة"؟
إذا كان ما سبق يقدم بعض التفسير لأسباب صعود التعصب الديني أو المذهبي في المنطقة العربية، كيف يمكن أن نفهم أسباب نجاح الجماعات الدينية أو المذهبية "المتعصبة".
العامل الأساسي في هذا الصدد هو قدرتها الفائقة علي الإفادة ما تتيحه الروابط التقليدية في المجتمعات ما قبل الحديثة، واستفادت كذلك مما تكفله ثورة الاتصالات والمعلومات، ساعدها علي ذلك امتلاك المال، والتنظيم، والشرعية.... وهذه قضايا تستحق التحليل.
فهي أولا تمتلك قيادات شرعية، لا ينازعها أحد القيادة. فهي بالتالي تمتلك القدرة علي التوجيه والحشد.
وتمتلك ثانيا مؤسسات عميقة الجذور، رغم كل ما يعتريها من مشكلات بنيوية وتنظيمية، فهي لا تزال منتجة وفاعلة، وناجحة في التعبئة، ومبادرة في الأزمات.
وتمتلك ثالثا المال الذي جعلها دائما في موقع المبادر، والفاعل، والملبي للتطلعات، حتى لو كانت في حدها الأدنى، واستطاعت بذلك أن تحتفظ بالجمهور المنتمي إليها.
وتمتلك رابعا خطابا دينيا، متماسكا، تطرحه علي الجماهير، وتعرف سبل الوصول إليها.
الجديد في الأمر هو قدرتها علي استخدام منتجات العولمة، وتوظيفها ببراعة، والدليل علي ذلك أمرين:
أ- إنشاء الفضائيات الدينية، والتي في مجملها تقدم تفسيرات دينية بالغة التشدد تجاه الذات، والآخر الديني. ليس هذا فحسب بل تفتح المجال أمام سجالات دينية عقائدية، تنطوي علي النيل من المعتقدات، وتشجع العوام علي الإساءة لبعضها بعضا.
ب- إطلاق الآلاف من مواقع الانترنت، التي تنقل المعرفة إلي الكافة، وتتمتع بمساحة واسعة من المراوغة في مواجهة القيود القانونية علي النشر. هذه المواقع تقدم معارف دينية مضطربة، تصب في جانب كبير منها علي التعصب في مواجهة الآخر.
(3) ماذا يقدم التعصب الديني أو المذهبي للإنسان العربي؟
المواطن يجد نفسه في براثن التعصب، لكنه يري أحيانا أن التعصب يقدم له خدمة مثل:
أ- هوية، بطاقة تعريف أساسية للمجتمع، بعد أن ضعفت الهوية الوطنية القطرية بفعل تكرار الهزائم للدولة الوطنية، وشيوع الفساد، وتمدد الاستبداد، وحدوث انفصال بين المواطن والدولة. حين يتآكل الانتماء للوطن،يحل محله الانتماء للطائفة أو القبيلة.
ب- شبكة أمان اجتماعي، في مواجهة حالة حضور الدولة نظريا وغيابها عمليا، وهي حالة العديد من الأقطار العربية، أو في حالة غياب الدولة- نظريا وعمليا- كما في المشهد العراقي، والصومالي، وربما اللبناني. والملاحظ أنه كلما ازدادت هزائم الدولة العربية في مواجهة التحديات الخارجية، كلما ازداد بأسها علي مواطنيها بالداخل. وهو ما يستدعي دوما وجود شبكة أمان اجتماعي تحيط بالفرد، وتوفر له بعضا من أسباب الحماية. مثال علي ذلك حين يحتاج الشخص العلاج ويجد يد الجماعات الدينية أو العرقية أقرب إليه من يد الدولة.
ج- مشروع مستقبلي، فإذا كان التفكيك هو "الملمح" الأساسي في كونيا، ثم إقليميا، ثم محليا، فالبديل المتاح أمام الفرد العربي هو الارتداد إلي الانتماءات الأضيق، التي لا تزال تحتفظ بقوامها، وقواعدها الأساسية، ومصادرها المالية، وخطابها الجامع، والهيبة النسبية لقياداتها، الدينية أو المذهبية. الظاهر أن المنطقة العربية يعتريها "فيروس التفكيك"، علي حد تعبير البعض، مما يعني أن الانتماء الوطني الجامع لكل المواطنين في خطر لصالح انتماءات صغيرة.
(4) ما المطلوب من المواطن في المقابل؟
الطائفية لا تحمي المواطن، وتقدم له الدعم المادي والمعنوي بلا مقابل. أنها تنتظر المقابل، والذي قد يكون باهظا في أحيان كثيرة. الولاء الضيق للجماعة الدينية أو المذهبية، اعتبارها مشروعه الأساسي، محور وجوده، ومستقبله، وغايته. الأمر لا ينحصر في الانتماء ديني أو المذهبي، هذا هو المعلن، ولكنه في الأساس انتماء سياسي، يعكس مشروعات سياسية طائفية مباشرة. مثال علي ذلك حالتي الموارنة والشيعة في لبنان. وحالة بعض الجماعات الدينية الإسلامية والقبطية التي تري أن الهوية الدينية تأتي قبل الهوية الوطنية، وهو ما يشكل خطرا علي وحدة المجتمع، وتجانسه. الارتباط أسما بالدولة، وفي الوقت نفسه التحلل من "الانتماء إليها" علي صعيد الممارسة العملية. من هنا ليس مستغربا أن يكون أهم مشروعين طائفيين في المنطقة، علي الصعيدين الإسلامي المسيحي، يرفض كلاهما مفهوم"الوطن"، حتى لو أدعيا خلاف ذلك. أحدهما يتحدث عن "الأممية الإسلامية" التي لا تعرف سوي "الوطن الإٍسلامي"، فالإٍسلام عقيدة ووطن. ونجد انعكاس ذلك علي الأصوات المسيحية التي لا تري في الوطن سوي مرحلة "انتقالية" لوطن أعمق، هو الوطن السمائي. تختلف الدوافع ولكن الغايات واحدة، هي الانفصال عن مشروع "الدولة" الوطنية، لصالح مشروعات طائفية تستند إلي الولاءات الأدنى.
إنكار حق الآخرين في التنوع الديني أو المذهبي، إما بالقلب (الكراهية المستبطنة)، أو التحريض (الكراهية المعلنة)، أو الإساءة (الفعل المباشر)، أو التصفية أي (النفي الجسدي). وفي كل الأحوال هو "كتلة طائفية"، نمطية التكوين، وجاهزة للتوجيه. أي المطلوب من المواطن "المتعصب" ليس أكثر من الولاء والبراء. الولاء للجماعة الدينية أو المذهبية، والإعلان عن معادة الآخرين لها.
(5) ماذا فعل التعصب بحقوق "المواطن"؟
هناك عدة صور يمكن التوقف أمامها:
أ- استلاب المجال العام، وتحويله إلي ساحة للمساجلات الدينية أو المذهبية، هذا المجال العام الذي نشأ تعبيرا عن حرية الجدل، والتفكير النقدي، والنقاش الحر كما في خبرة المقاهي البريطانية، والصالونات الفرنسية، وتطور مع تعمق مفهوم المجتمع المدني. هذا المجال العام يجري اختطافه لمصلحة النظم الحاكمة التي تغلقه لحسابها، وجماعات دينية أو مذهبية متعصبة تريد مصادرته لحسابها. أي تحول الأمر إلي مطلقات في حالة صراع، كلاهما يمتلك وقود المعركة، أي الجماهير.
ب- ممارسة قدر من التقييد علي حرية التعبير، بحيث اتسع نطاق المقدس، لم يعد هو الدين أو المعتقد الديني بل تمدد ليشمل المشروعات السياسية "الدينية" و"المؤسسات الدينية" ذاتها، بحيث لم يعد هناك إمكانية لنقد هذه الهياكل والأبنية، وتحول المواطن الطائفي إلي رعية سياسية في الدولة، ورعية دينية أو مذهبية في قلب الجماعات الدينية أو المذهبية التي تحتضنه.
ج- تقييد حرية الفعل السياسي، هذه المؤسسات الدينية باتت تتحكم في الفعل السياسي المباشر للأفراد، وتحول تعصبهم الديني أو المذهبي إلي "مشروعات سياسية"، سواء بالمعارضة أو الموالاة. وكلاهما يقيد من حرية الحركة السياسية.
المشكلة الحقيقية أن المجتمعات العربية بات يعتريها فيروس التفكيك، والبديل الوحيد والقادر علي إنجاز هذا السيناريو هي المشروعات الدينية والمذهبية المتطرفة، والتي تغذيها ماكينة للتنشئة الطائفية، إعلاميا وتعليما. ولجأت الدولة القومية "الجريحة" في المنطقة العربية إلي المراجع الدينية بحثا عن شرعية، وثبات، وقدرة علي المواجهة. وهكذا أصبح المواطنون يدارون عبر الماكينة الطائفية بالوكالة، إما لحساب قوي سياسية داخلية، أو مشروعات سياسية خارجية.
(6) رأس المال الاجتماعي.. حوار مدني جديد
يقصد برأس المال الاجتماعي الروابط المؤسسية التي تنشأ بين الأفراد بالإرادة الحرة الطوعية، علي أساس من الثقة والاحترام المتبادل، بهدف تحقيق مصالحهم بشكل سلمي متحضر. هذه الروابط المدنية من جمعيات وأحزاب وجماعات مصالح وأندية تكفل تعبئة المواطنين، والدفاع عن مصالحهم، ولكن علي أساس غير طائفية. تقوم هذه المنظمات أو الروابط بعدد من الوظائف أهمها توفير شبكات أمان اجتماعي حقيقية Safety Networks علي أساس من الثقة والاحترام المتبادل والاعتماد المتبادل، وهو ما يؤدي إلي تعظيم قدرة رأس المال الاجتماعي علي الوفاء بالمهام التنموية الملقاة علي عاتقها ولاسيما في المجتمعات النامية التي يتزايد فيها انسحاب الدولة عن مجالات كثيرة- خدمية وإنتاجية- اعتادت الوفاء بها علي مدي عدة عقود. في حالات كثيرة لم تعد الحكومة تستطيع أن تقدم خدمات صحية وتعليمية وتثقيفية علي النحو الذي كانت تقدمه في الماضي، وبالتالي لم يعد أمام المواطن رقيق الحال سوي اللجوء إلي هذه التكوينات الاجتماعية التي تمثل شبكة آمان له يلجأ إليها في حالات الضرورة، بدلا من التخندق في الطوائف جامدة التكوين. في هذه التكوينات المدنية تكون الخدمة مقابل الاندماج في شئون المجتمع، أما في الهياكل الطائفية تكون الخدمة مقابل كراهية الآخر المختلف.
وهناك العديد من الدراسات التي تشير إلي أن هذه المنظمات المدنية تخلق ثقافة مدنية جديدة تختلف عن الحشد الطائفي من أبرز ملامحها: التفاعل الاجتماعي بين الأفراد في المنظمات المدنية التي يقومون بتأسيسها أو الانضمام إليها. تعد هذه النظرة امتدادا لكتابات إليكس دي توكفيل التي بنيت علي افتراض أساسي أن المنظمات التطوعية تمثل "مدارس لتعليم الديمقراطية". من خلال التواجد في أروقتها، والمشاركة في أنشطتها، يتعلم الأفراد قيما أساسية تساعدهم علي بناء شبكات آمان اجتماعي من قبيل المشاركة، والنقاش الحر، وتبادل الرأي، والتسامح مع الاختلاف، واختيار الأشخاص والبرامج من خلال الاحتكام إلي آليات الانتخاب الحر.
هذه الثقافة الجديدة هي عنوان العبور إلي مجتمع حديث، لا يعرف الجزر الطائفية المنعزلة، يزكي الاندماج علي حساب التبعثر، ويبني المجتمعات علي أساس التنوع والاختيار الحر العقلاني، والحوار الديمقراطي الذي يستوعب الآخر، ويقدم له فرصا متساوية في الحضور والمشاركة. من هنا فإن المجتمع المدني يعطي الأمل في تجاوز مشكلات المجتمع، ويقدم نموذجا جديدا للسلام الاجتماعي يقوم علي احتضان كل المواطنين، بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الدين أو الجنس أو العرق في بوتقة واحدة، تحقيقا للانسجام الاجتماعي.
المصدر: مركز ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان
السلام الاجتماعي في مصر حقيقية أساسية، نابعة من عوامل تاريخية وجغرافية وإنسانية، وهو ما يرسي دعائم الأساس المعرفي لبناء وتطور مفهوم السلام الاجتماعي. الاقتراب الثقافي من العوامل الداعمة للسلام الاجتماعي، وكذلك التحديات التي تواجهه تمثل ضرورة أساسية للتعامل مع هذا الموضوع المهم. هناك معنيان للثقافة: الأول يحصر الثقافة في الإنتاج الثقافي والعلمي، بحيث تتحول الثقافة إلي مرادف للإبداع الفكري أو الفني، والثاني ينظر إلي الحالة الثقافية نظرة سسيولوجية من خلال رصد كافة صور تفاعل البشر مع الواقع في رحلتهم الممتدة لفهم أنفسهم والأخر في ضوء المعطيات الجغرافية والبشرية والسياسية التي يعيشون فيها. يصبح نمط السكن، وعلاقات الأصدقاء، ونوعية الطعام، والمظهر الخارجي جميعها تحدد محتوي الثقافة من الزاوية المجتمعية. عن هذا المعني للثقافة نتحدث. نتناول الشخصية المصرية، إدراك البشر لحقائق الواقع، العلاقات المجتمعية التي تربطهم، الرموز، التراث، الموروث الشعبي......الخ. باختصار نقترب من الحالة الثقافية للشعب المصري التي تتسم بملامح متميزة رغم التنوع الثقافي الطبيعي في المجتمع الناتج عن خبرة التعرض لثقافات متنوعة.
(1) خصائص الحالة المصرية
هناك خصائص مميزة لكل مجتمع، تعتبر سمات مميزة له عن غيره من المجتمعات. وتكشف خصائص المجتمع المصري المقومات الأساسية للسلام الاجتماعي، والتحديات التي يمكن أن تواجهه، وأساليب مواجهتها. توصف مصر في الأدبيات السياسية علي إنها دولة نهرية. ويقصد بذلك أن نهر النيل الذي يخترق أراضيها من أقصي الجنوب وصولا إلي محطته النهائية في حوض البحر المتوسط يلعب دورا رئيسيا في صياغة مكونات الثقافة المصرية. من هنا لم يكن غريبا أن يقول المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت قديما "أن مصر هبة النيل"، وإن كان بعض المثقفين والباحثين المصريين المعاصرين يرون أن مصر هبة النيل وشعبها الذي صنع حضارة منذ آلاف السنين لم يفك كل رموزها حتى الآن.
ترتب علي هذه الحقيقة الجغرافية عدة نتائج ثقافية مهمة ساعدت علي إرساء دعائم السلام الاجتماعي:
1- مركزية الدولة
يتطلب الاستفادة من مياه نهر النيل نشؤ دولة مركزية قوية قادرة علي إقامة مشروعات الري، وتوزيع المياه. من هنا نشأت بيروقراطية متمددة منذ آلاف السنيين حتى الوقت الحاضر. وهناك من المأثورات الشعبية من يمجد البيروقراطية والعمل بها. ورغم قلة رواتب الموظفين في الدولة حاليا ونمو دور القطاع الخاص إلا أن أمل الوظيفة الحكومية لا يزال يراود كل شاب. وكثير منهم يجمع بين وظيفة حكومية في الصباح حيث الاستقرار الوظيفي والمكانة والنفوذ وبين وظيفة مسائية في القطاع الخاص بحثا عن دخل مادي أفضل. وتشير الدراسات إلي أنه في كل مراحل التاريخ كانت الدولة أقوي من المجتمع، فهي التي تملك تنظيم شئونه وضبط تفاعلاته عبر بيروقراطية متغلغلة في كل ثناياه. وتتجه عادة عيون المواطن إلي الدولة وأجهزتها بحثا عن حل لمشكلاته اليومية- اقتصاديا واجتماعيا. من هنا فإن نشر ثقافة المبادرة والانخراط في منظمات المجتمع المدني لا يزال أقل من المأمول بالنظر إلي عمق تراث الاعتماد المفرط علي الدولة في كل شيء. وقد ضمن التعلق بالدولة المركزية حالة من التوحد، وساعد علي انصهار مختلف مكونات المجتمع في بوتقة واحدة، مما مهد لنشوء أساس للسلام الاجتماعي.
2- تغليب فكرة الجماعة
يتمحور المجتمع المصري حول مفهوم الجماعة نظرا لان ضبط نهر النيل يحتاج دائما إلي جهود جماعية. ترتب علي ذلك طغيان الجماعة علي الفرد. وهناك موروثات ثقافية وعادات وتقاليد تجعل دائما من الجماعة، وكبار السن في المجتمعات قدرة علي تشكيل ثقافة ووجدان الجماهير. الفرد – بالمعني الحديث- لم يولد بعد في المجتمع المصري. من هنا نلاحظ تزايد اعتماد المصريين المفرط علي الروابط التقليدية مثل الأسرة والعشيرة والعائلة، الجماعة الدينية.....الخ بحثا عن رعاية اجتماعية أو تذكية للحصول علي وظيفة أو تأييد في الانتخابات. يؤثر ذلك بمعني من المعاني علي مفهوم الدولة الحديثة التي تستند إلي رابطة المواطنة، ومن المفترض أن ينصرف الولاء لها وحدها علي حساب الولاءات والروابط التقليدية التي تشكل ملامح مجتمع ما قبل المواطنة.
3- الميل الشديد للمحافظة
يعتمد المجتمع منذ آلاف السنين علي نهر النيل، ويتوارث طرق وأساليب الحفاظ عليه. من هنا فهو مجتمع يتسم بدرجة عالية من المحافظة، وتستغرق الأفكار الحديثة فترات طويلة للنفاد إلي أعماقه. ويترتب علي ذلك أن العادات المتوارثة تظل لها الثقل رغم ما يبذل من جهود لاقتلاعها. ومثال علي ذلك استمرار النظر لفئات معينة نظرة دونية. ورغم أن الجميع – علي المستوي الدستوري- سواء أمام القانون إلا أن التغيير علي مستوي الشعبي يحتاج إلي وقت طويل نظرا للطبيعة المحافظة للشعب. ورغم أن التعددية- كما سيلي الحديث- سمة أساسية في المجتمع المصري، إلا أن تشارك جميع المصريين في نفس الثقافة، واتفاقهم علي عادات وتقاليد واحدة بصرف النظر عن الاختلاف في الوضع الاجتماعي أو الدين أو مكان السكان هو ما ساعد علي بلورة إطار حاضن لمفهوم التفاهم أو الانسجام المجتمعي.
4- التعددية الدينية
يشهد المجتمع المصري حالة من التعددية الدينية، عميقة الجذور في التاريخ. فقد عرف الأديان التوحيدية الثلاثة، باختلاف مذاهبها، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام. خبرة التعايش بين المختلفين في الدين أو المذهب استندت إلي شعور عميق بالتسامح. المصريون متسامحون مع الاختلاف بطبيعتهم، رغم رياح التعصب الديني والمذهبي التي هبت علي المجتمع في العقود الثلاثة الأخيرة. ومن دلالات هذا التسامح أن التاريخ شهد توترات دينية، وحوادث تمييز ديني في مواجهة المختلفين في الدين أو المذهب، لكنه لم يحمل- مثلما حملت المجتمعات الأخرى- ذاكرة معبأة بالعنف، والمذابح، والتاريخ الملوث. لم يعرف المجتمع المصري "إبادة الآخر المختلف" مثلما عرفت دول أخري، والسبب هو خبرة التعددية الدينية التي عاشها، إلي الحد الذي جعل الإسكندرية تستضيف مقابر للملحدين، الذين لا ينتمون إلي أي من الأديان. إلي هذا الحد كان هناك تسامح مع المختلفين في الدين، وهو التسامح الذي لم يكن أبدا مدعاة للتفريط في العقائد. تتعرض هذه الحالة الفريدة من التسامح إلي تحديات كثيرة، في مقدمتها التعصب الديني والمذهبي.
5- احترام المرأة
يعرف المجتمع المصري منذ القديم كيف يحترم المرأة. في مصر الفرعونية كانت المرأة شريكا للرجل في العمل، وبلغ المجتمع حال من الرقي الذي سمح بأن تتولي مقاليد الحكم فيه امرأة. ولا تزال الذاكرة المصرية تحفل بأسطورة "ايزيس" التي طافت القطر المصري تجمع أشلاء زوجها "أوزوريس". وإبان العصر القبطي كانت هناك "السيدة العذراء مريم" في الوجدان المصري، وعشرات القديسات والشهيدات اللاتي ضحين بحياتهن في مواجهة الحكم الروماني الغاشم دفاعا عن إيمانهم وعقيدتهم. وعندما دخل الإسلام مصر، ظلت السيدة العذراء مريم في الوجدان المصري، وعرف المصريون "السيدة زينب"، التي تحتل مكانة متميزة في الوجدان الشعبي. وتجسد "عروس المولد" التي يقبل المصريون علي شرائها في المولد النبوي مخزون تاريخي عميق في حياة الشعب المصري، من ايزيس إلي السيدة العذراء مريم وانتهاء بالسيدة زينب. سيدات لهن مكانة خاصة في وجدان المصريين باختلاف أديانهم. هذه الحالة المصرية الفريدة من احترام المرأة تتعرض منذ فترة لانتكاسة حقيقية نتيجة شيوع آراء وافدة تحقر من المرأة، وتتعامل مع علي أنها كائن أقل من الرجل، المؤسف أن يكون كل ذلك بالاستناد إلي قراءات دينية مغلوطة.
6- غياب العنف.
الشعب المصري بطبيعته متسامح، لا يعرف العنف الذي شكل إحدى خصائص مجتمعات أخري. السبب يعود إلي تدينه، وطبيعة المجتمع الزراعي الريفي الهادئ الذي لا يعرف خشونة البداوة والحياة الصحراوية. ثقافة الشعب المصري متسامحة، وما ينتجه من خطابات دينية تتسم بالرحابة، وبٌعد النظر، وقبول الاختلاف، وتفضيل الرحمة. قيمة "الستر" إحدى ركائز النظام القيمي المصري، بحيث لا يفضل الناس كشف أخطاء وعورات الآخرين علي الملأ، والاكتفاء بالتصدي لها سرا. من هنا لا يعرف المصريون العنف بطبيعتهم، هكذا كانوا ولا يزالوا. ورغم ذلك فإن هناك ما يمكن أن نطلق عليه حالة غريبة في المجتمع المصري نتيجة شيوع حالات من العنف اللفظي في الشارع، والعنف البدني في العلاقات بين الأفراد، والذي أمتد ليشمل جرائم غير متعارف عليها في الخبرة المصرية مثل الاغتصاب، والقتل لأتفه الأسباب، الاعتداء علي الوالدين، الخ.
7- الرحمة بالفقراء.
في كل الأديان والمذاهب التي امتدت في ربوع مصر هناك تقدير خاص للفقراء، ودعوات مستمرة للبر بهم، والعطف عليهم. وتمجد الأمثال الشعبية الدارجة، والتي هي خلاصة الخبرة الإنسانية والتاريخية للشعوب، هذه الحالة. لم يعرف المجتمع المصري ثقافات "عنصرية" في مواجهة الآخرين، أو النظر إلي الفقراء نظرة سلبية، أو تبرير العنف ضدهم. هذه الحالة بدأت في التغير في العقود الأخيرة نتيجة ثراء فئات اجتماعية لا تمتلك أصول اجتماعية للترقي الاجتماعي (مثل التعليم )، مما ترتب عليه أحيانا غلبة "لغة المال" و"علاقات المال"، وهو ما ينال من حقوق المواطن الفقير، والذي لا يمتلك المال أو الثروة.
الخلاصة أن الحالة المصرية تحوي عناصر كثيرة تدفع دائما في اتجاه حالة سلام مجتمعي، سواء في العلاقات بين المختلفين في الدين أو المذهب أو النوع، وهكذا. كل ذلك صنعته عوامل عميقة بعيدة الجذور.
(2) مسارات التطور التاريخي
شهد القرنان الماضيان تحولات أساسية في المجتمع المصري فيما يتعلق بكيفية تناول القضايا السابق الحديث عنها:
(4-1) قيام مشروع حداثي للدولة المركزية المصرية عبر فترات تاريخية مختلفة. بزغت إرهاصات المواطنة في بداية القرن التاسع عشر بتأسيس جيش مصري من المصريين لأول مرة في تاريخهم ثم بدأت رحلة إرساء بنية المؤسسات من خلال إنشاء أول برلمان عام 1866م، ثم أول وزارة بالمعني الحديث وصولا لوضع أول دستور دائم في الخبرة المصرية عام 1923م علي أساس المواطنة الكاملة بين كل المصريين بصرف النظر عن الاختلاف في الدين أو اللون أو الجنس، هكذا.
(4-2) تأسيس منظمات المجتمع المدني بالمعني الحديث سواء كانت منظمات غير حكومية أو أحزاب سياسية أو نقابات مهنية وذلك في القرن التاسع عشر، واستمر تأسيس هذه الروابط المدنية في القرن العشرين.
(4-3) شهد بواكير القرن العشرين حركة نسائية نشطة حملت اسم تحرير المرأة المصرية، واستمر نضال المرأة المصرية في سبيل نيل حقوقها. تمتعت المرأة المصرية بحقوق المواطنة سواء من خلال إقرار حقها في المشاركة في الانتخابات – ترشيحا وانتخابا- عام 1955م، وتمتعها ببعض حقوق العمل مثل أجازة الوضع وفترة الرضاعة. وأخيرا حصول أبنائها المولودين من أب أجنبي علي الحق في الجنسية المصرية عام 2004م.
(4-4) شغلت قضية العدالة الاجتماعية اهتماما واسع النطاق طيلة القرن العشرين. في النصف الأول من القرن كانت هناك حركات اجتماعية تطلق مشروعات سياسية وجماهيرية تحت لافتة العدالة الاجتماعية، وفي أعقاب ثورة يوليو عام 1952م تحققت العديد من المكاسب الاجتماعية للطبقة الوسطي ومحدودي الدخل وأبرزها مجانية التعليم والرعاية الصحية. ورغم أن العديد من هذه المكاسب تقلصت إلا أن هناك حرصا من كافة القوي في المجتمع علي استمرار المتبقي منها ولاسيما مجانية التعليم، والدعم للسلع الأساسية، وتنفق الحكومة جانبا كبيرا من الميزانية علي الدعم.
(3) التفاعل الثقافي
أدي الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمصر إلي أن تكون "بوتقة تفاعل" لحضارات وثقافات مختلفة، علي مدار مختلف العصور. تفاعلت الثقافة المصرية مع الثقافات الوافدة، هضمتها، وتمثلتها، وأعادت إنتاجها في قالب مصري. من هنا فإن الثقافة المصرية ليست سوي "طبقات" متتالية حضارية، ما بين الفرعونية والقبطية والعربية الإسلامية والغربية، الكل يتفاعل في نسيج واحد.
في هذا الصدد نلمح ثلاثة أنساق ثقافية تعيش متجاورة في المجتمع المصري:
النسق القديم. جاء متوارثا من العصر الفرعوني. ويركز علي مجموعة من الأفكار الأساسية مثل احترام المرأة واعتبارها شريكا كاملا للرجل، ويكفي أن هناك من النساء من حكمن مصر في العصور القديمة في وقت كان التخلف يخيم علي مختلف أرجاء العالم، والإيمان بأفكار الثواب والعقاب، والطاعة المفرطة لمن هم في السلطة، والاعتناء بالطبيعة...الخ.
النسق الديني. مصر مهد الأديان. عاش فيها موسي النبي وتربي بحكمة المصريين، وزارها السيد المسيح مع أسرته بحثا عن الأمان، واستقبل شبعها الإٍسلام ولا سيما أن هناك احتفاء خاصا بمصر في القرآن الكريم. إذن الدين مكون أساسي في المجتمع المصري. ولكن سيظل هناك مسافة بين الدين (النص المقدس) والخطاب الديني (اجتهادات البشر لفهم النص المقدس)، وهي المسافة بين النص المقدس وإدراك وتفهم البشر له. ويتأثر البشر بالخطاب الديني، ويتأثر الخطاب الديني بدوره بالحالة الثقافية والمجتمعية عامة. فإذا كان المجتمع ناهضا كان الخطاب الديني مستنيرا أما إذا كان المجتمع منغلقا كان الخطاب الديني تعبيرا عن هذا الانغلاق.
النسق الحديث. ويعبر عن اتصال مصر في القرنين الماضيين بالخبرة الغربية بما يحمله ذلك من تبني قيم التحديث والديمقراطية والمجتمع المدني (المؤسسات التي يؤسسها الأفراد بإرادتهم الحرة للتعبير عن قضاياهم مثل المنظمات غير الحكومية والأحزاب، هكذا)، وقضايا التنمية والتمكين، التي تعيش جنبا إلي جنب مع المجتمع التقليدي المحافظ في مصر.
هذه الأنساق تتفاعل مع بعضها بعضا، وعادة ما يكون التطور هو محصلة لهذا التفاعل. يظهر أحدهما أحيانا، ويتواري الآخر، لكن في نهاية المطاف تكون كل الأنساق الثقافية حاضرة في النظر إلي مختلف القضايا.
فإذا رصدنا عددا من القضايا الأساسية يمكن أن نري كيف تتفاعل الأنساق الثقافية الثلاثة معا:
1- في قضية المجتمع المدني. النسق التقليدي القديم يتمحور فقط حول الدولة ومؤسساتها، لا يعرف مساحة أخري للأفراد يتحركون فيها. النسق الديني يحث علي التعاضد الاجتماعي والعمل الخيري والإنساني، وهي قيم حاضرة بقوة في الثقافة المصرية حتى قبل نشوء مفهوم المنظمة غير الحكومية بالمعني الحديث. من هنا لا نستغرب من الكم الهائل للجمعيات الأهلية المسيحية والإسلامية في المجتمع المصري، التي تعمل جنبا إلي جنب مع المؤسسات المدنية الحديثة التي عرفت طريقها للنمو في العقود الأخيرة في ضوء تسارع وتيرة اتصال مصر بالعالم الغربي الحديث.
2- في قضية المواطنة. النسق التقليدي يحث علي تمجيد الذات والجماعة في مواجهة الأخر المختلف. والنسق الديني منقسم. هناك خطاب ديني يعود إلي الأصول الدينية ويركز علي المساواة بين البشر، وخطاب متشدد منغلق ينكر حقوق المواطنة الكاملة علي المختلف في الدين أو حتى النوع في بعض الحالات. أما النسق الحديث فهو يدعو إلي مواطنة كاملة- مفهوم أساسي جامع في بناء الدولة الحديثة.
3- في قضية المرأة. النسق القديم يجعل المرأة شريكا للرجل، وتتمتع بأهلية إدارة دولة مركزية بيروقراطية مثل مصر، أما النسق الديني فهو منقسم بين من يطالب بحقوق كاملة للمرأة في إطار المساواة في المواطنة، وبين من يدعو إلي سيادة الرجل علي المرأة. وهناك نسق حديث يدعو إلي مواطنة كاملة لكل مكونات المجتمع، وتمكين النساء من المشاركة في إدارة الشأن العام.
4- في قضية العدالة الاجتماعية. النسق القديم يجعلها مسئولية الدولة. والنسق الديني يجعلها مسئولية الدولة إلي جانب الإحسان الاجتماعي من منطلق ديني، أما النسق الحديث فيجعل منها مسألة شراكة بين الدولة والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية.
(4) الوحدة الوطنية في المجتمع
تعد التعددية الدينية حقيقة أساسية في المجتمع المصري منذ أكثر من أربعة عشر قرنا. تعايش خلالها المسيحيون والمسلمون في حالة من الوئام حينا والتوتر أحيانا، ولكن في كل منعطفات التاريخ انتصرت إرادة الوحدة علي خيارات الانقسام والتشرذم. وفي كثير من محطات التاريخ لم تكن هناك مشكلة حقيقية بين المصريين مسلمين ومسيحيين، بل كانت بين المسيحيين والحكام الوافدين الذين تعاقبوا علي حكم مصر. وكثير من مظاهر التعصب والقهر التي واجهها المسيحيون لم تأت علي يد شركائهم في الوطن من المسلمين بقدر ما كانت صادرة في الأساس من النخبة الحاكمة. واللافت للنظر أن الفترات المظلمة التي عاني منها المسيحيون شهدت أيضا معاناة من جانب المسلمين، فما من مشكلة تواجهها أقلية إلا وتواجهها الأكثرية العددية بصورة أو بأخرى.
1- عوامل الوحدة
هناك جملة من العوامل تقف دائما خلف خيار الشعب المصري – مسلمين ومسيحيين- في اتجاه الوحدة علي حساب التشرذم. يمكن رصد عدد من هذه العوامل:
أ- الأوضاع الجغرافية التي تتمثل في وجود وادي للنيل منبسط تتركز فيه الغالبية العظمي من السكان (95% تقريبا)، جعل الامتزاج في الحياة اليومية سمة أساسية في المجتمع المصري، فلا يوجد أماكن يتركز فيها المسلمون، وأخري للمسيحيين، والشواهد الدينية للجانبين تملأ كل الأرجاء مما يجعل من خيار العزلة أو الانقسام غير وارد علي المستوي الفكري، وغير ممكن علي المستوي الجغرافي.
ب- الأوضاع الاجتماعية التي تتمثل في غياب أشكال الانقسام الاجتماعي التي تتسبب عادة في شيوع ثقافة النفور، وتكون عادة مقدمة لعملية إنتاج أنماط جاهزة جامدة عن الآخر مما يسبب الاشتعال إذا ألقي أحد بعود ثقاب اقتصادي أو سياسي أو ثقافي. فلا يعيش المسيحيون في أماكن خاصة بهم غير التي يعيش بها المسلمون، ولا يمتهنون مهنا غير التي يمتهنها المسلمون، ولا يرتدون زيا خاصا بهم يجعل منهم جماعة اجتماعية متميزة في المجتمع، ولا يتعلمون في مدارس أو جامعات غير التي يتعلم بها المسلمون، ولا يقضون وقت فراغهم بطريقة تختلف عن تلك التي يقضي بها المسلمون وقت الفراغ......الخ. إجمالا فإن المسيحيين لا يتميزون كجماعة اجتماعية خاصة.
ج- الأوضاع الثقافية التي تتمثل في وجود ثقافة واحدة تجمع في رحابها المسلمين والمسيحيين. فمن الثابت أن المؤمنين بالديانتين تجمعهم ثقافة واحدة علي مستوي الاعتقاد الديني، والنظرة الفلسفية للحياة، والخرافة، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وأساليب تربية الأبناء، ولغة الحوار اليومي...الخ. فالمسلمون والمسيحيون يؤمنون بالإسلام والمسيحية علي الطريقة المصرية إن صح التعبير. وتعود بعض مظاهر التدين الشعبي إلي معتقدات فرعونية قديمة جري إما تنصيرها بالنسبة للمسيحيين أو أسلمتها بالنسبة للمسلمين.
2- بواعث التبعثر
الم المشهد المصري العديد من عوامل التبعثر في العقود الأخيرة مما يهدد بإضعاف صيغة العيش الواحد، هذه العوامل يمكن إجمالها علي النحو التالي:
أ- هبوب رياح ثقافية مغايرة من دول الخليج منذ منتصف السبعينيات مع انتقال العمالة المصرية للعمل بهذه البلدان. هذه المجتمعات لا تعرف التعددية الدينية علي النحو السائد في الخبرة المصرية. من سمات الثقافة الجديدة: الإفراط في النزعة الاستهلاكية، وغلبة المظاهر الشكلية للتدين علي حساب الجوهر، إضفاء بردة دينية علي المظاهر الاجتماعية...الخ. وغني عن البيان أن هذا النمط من الثقافة أدي إلي تقليص مساحات التلاقي الإٍسلامي المسيحي في المجتمع.
ب- صعود نشاط جماعات العنف الديني منذ نحو أكثر من أربعة عقود. هذه الجماعات نوعان. الأول جماعات راديكالية تتبني خيار العنف لتغيير المجتمع، وتنطلق من رؤية تكفيرية للمجتمع، والحاكم، والآخر الديني، واستحلال كامل لدم ومال المختلف. وقد تعرض المسيحيون والمسلمون علي السواء إلي معاناة حقيقية علي يد هذه الجماعات حتى منتصف التسعينيات. وعندما أصدرت بعض هذه الجماعات مراجعات فكرية لموقفها لم يزل الموقف الملتبس تجاه المسيحيين قائما في هذه الكتابات. النوع الثاني جماعات تعلن النهج السلمي في العمل العام وتتبني خطابا في مواجهة الآخر الديني يقوم علي مفهوم الذمية. ومن جراء نشاط جماعات الإسلام السياسي شاع خطاب يكفر المسيحيين في أسوأ حالاته أو يدعو إلي تجنب التعامل معهم، والاستعلاء عليهم في أفضل حالاته. وأدي وصول بعض العناصر المحسوبة علي تيار الإسلام السياسي إلي العمل النقابي إلي أسلمة النشاط المدني الذي يمكن أن يتلاقى علي أرضيته المسيحيون والمسلمون أبناء المهنة الواحدة، ومن المعروف أن في الدولة الحديثة يكون التفاعل بين المواطنين علي أساس مهني وسياسي وثقافي أكثر منه علي أساس ديني أو مذهبي أو طائفي.
ج- من جراء نشاط جماعات الإسلام السياسي طفت علي السطح ظاهرة يمكن أن نطلق عليها أسلمة الحياة العامة، حيث أصبح الحديث الغالب في كل القضايا ذات طبيعة دينية، حتى وإن كانت هذه القضايا في الأساس علمية في جوهرها. فمثلا نقل الأعضاء البشرية أو بيع لاعبي كرة القدم تحولت إلي قضايا دينية يجري الحديث بشأنها علي أرضية الحلال والحرام. وتحولت النزاعات الدولية إلي صراع بين مسلمين وغير مسلمين، رغم أن بواعثها في الأساس سياسية أو اقتصادية. ومثال علي ذلك الجدل الذي ثار علي صفحات الصحف إبان احتلال القوات الانجلو-أمريكية للعراق. فقد اتجهت الصحف ذات الاتجاه القومي والإسلامي إلي اعتبار ما حدث في العراق، وما يحدث في العالم منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر هو انعكاس مباشر لهيمنة اليمين الديني في الولايات المتحدة، وبدأت في تصوير الحرب الدائرة علي أنها مواجهة بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي. وأصبح هناك قاسم مشترك فيما بينها هو تديين الصراع العالمي، والنظر إلي الكثير من الصراعات الإقليمية بوصفها جزءا من مؤامرة عالمية تستهدف العرب والمسلمين. هذه المعالجات الصحفية التي تربط بين ما هو سياسي وما هو ديني في خليط تغلفه نظرية المؤامرة يلقي ظلالا كثيفة علي العلاقات الإسلامية المسيحية في المجتمع، ويشكل في بعض الأحيان رسائل تحريضية ضد الأخر الديني. وأكثر من ذلك أنه يربط ما يحدث علي صعيد العلاقات الإسلامية المسيحية في المجتمع بصراع عالمي ممتد، وبالتالي ينظر المسلم العادي إلي جاره أو صديقه المسيحي علي أنه أقرب في مشاعره ومواقفه إلي المسيحي الأمريكي منه إلي رفيقه المسلم في المواطنة، وهو يقلص بالضرورة من مساحات اللقاء والتفاعل بين المسلمين والمسيحيين علي صعيد العلاقات اليومية.
د- رافق صعود المد الإٍسلامي في الحياة عامة ما يمكن أن نطلق عليه حالة انكفاء مسيحي داخل الكنائس. فقد شعر المسيحيون أن الوطن يضيق عن استيعابهم. لجأ بعضهم إلي خيار الهجرة، والبعض الآخر استسلم للعزلة. عزز هذا الاتجاه خطاب ديني مسيحي يصب في اتجاه العزلة انطلاقا من أن المسيحي ليس له مكان في العالم، وأن غايته هي التطلع للملكوت. وشعر كثير من المسيحيين بما يمكن أن نطلق عليه الاستضعاف في مواجهة المجتمع. في السنوات الأخيرة بدا أن هناك اهتماما بدعم روح المشاركة الوطنية في أوساط المسيحيين، وإن ظل هذا الخطاب محدود التأثير حتى الآن.
(5) تحديات الواقع الآني
يتسم المشهد الراهن بوجود العديد من التحديات منها علي سبيل المثال:-
أ- تراجع معدلات المشاركة السياسية. البعض منها يعود إلي ضعف مؤسسات المشاركة، وبعضها يعود إلي انشغال المواطن بالبحث المستمر عن معيشته. ولكن سيظل تعميق مفهوم المواطنة رهنا بتوسيع نطاق المشاركة لتشمل فئات واسعة من المجتمع، ولاسيما الشباب والمهمشين والنساء والمسيحيين...الخ.
ب- ضعف ثقافة المواطنة والتي تظهر ليس فقط في تراجع معدلات المشاركة السياسية ولكن أيضا في الارتداد إلي الولاءات التقليدية والروابط التي تشكل ملامح دولة ما قبل المواطنة. يسهم في هذا جمود الخطاب الثقافي والديني، وتزايد معدلات الأمية إلي ما يقرب من 50% من المجتمع المصري، وهو ما يضع قيودا علي المواطن في فهم حقوقه وواجباته.
ج- وجود حالة من القانون الموازي في المجتمع التي تتمثل في اللجوء إلي أعمال العنف والبلطجة، والفوضى في إدارة شئون العلاقات بين البشر. كل ذلك يؤثر علي مستوي تقدم وتطور المجتمع. التنمية لا تنفصل عن القانون، والديمقراطية لا تتحقق في ظل غياب القانون. أحد أهم الأسباب وراء هذه الظاهرة هي غياب الثقة في القانون، نتيجة ارتفاع تكلفة اللجوء إلي مؤسسات العدالة، وبطء إجراءات التقاضي، وعدم تنفيذ الأحكام القضائية بالقدر الواجب.
د- تزايد الأعباء الاقتصادية علي المواطنين محدودي الدخل علي نحو غير مسبوق نتيجة ثبات الدخول وزيادة الأسعار وتزايد معدلات البطالة، ولجوء الدولة إلي أعادة النظر في قضية الدعم. وتعتبر المرأة في مقدمة فئات المجتمع التي تعاني من تردي الأوضاع الاقتصادية. ويطرح ذلك تحديات جمة بالنسبة لمسألة العدالة الاجتماعية في المجتمع حيث تتضاءل شريحة من يملكون المال والمكانة وتتسع شريحة الفقراء والمهمشين.
ه- شيوع ثقافة محافظة تحول دون تطوير وتقدم المجتمع. هناك نظرة سلبية متفشية لدي بعض قطاعات المجتمع ضد المرأة والأخر الديني والمهمشين والفقراء... الخ، وفي رأينا أن التطوير المادي – اقتصاديا وسياسيا- يجب أن يرافقه تغيير ذهني في نظرة الأفراد لدورهم وللآخرين.
و- تزايد ظاهرة العنف المجتمعي، والذي يأخذ في بعض الأحيان شكل العنف ذات الطابع الديني (الإرهاب)، أو العنف الأسري (ضرب الزوجات مثلا) أو العنف المدرسي (الاعتداء علي الطلبة والمدرسين) أو العنف الاجتماعي (مشاجرات ممتدة في الشوارع)، أو عنف لفظي (الشتائم، الألفاظ الجارحة في لغة الخطاب اليومي بين الأفراد ليس فقط في الشارع، ولكن أيضا في أماكن العمل، والجهات الحكومية، والقطاع الخاص علي السواء).
ز- شيوع ما يعرف بالأحداث الطائفية في محافظات مختلفة، ولاسيما في الصعيد، ينتج عنها أحيانا أحداث قتل، وتخريب في الممتلكات، وإشاعة مناخ من الكراهية بين المواطنين المختلفين في الدين.
المصدر: مركز ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان
الحوار مفهوم قديم يعود به المختصون إلي ما قبل عصر الفلاسفة اليونانيين القدامى الذين اعتمدوا علي الحوار، وأضفوا أنماطا وآليات جديدة له. وفي الأديان خبرات حوارية مهمة، وفي الكتب المقدسة تسجيلا لقصص وحوارات، كل ذلك يؤكد علي أهمية الحوار، ودوره في المجتمع. الحوار ضرورة وغاية في ذاته تحاشيا لصور متباينة من العنف سواء كان عنفا ماديا أو لفظيا تمارسه ماكينة الدولة ذاتها في مواجهة رعاياها، أو الجماعات المتنوعة ضد بعضها البعض، أو الثقافات ضد بعضها البعض، بالإضافة للصور التقليدية للعنف المتعارف عليها في النزاعات بين الدول، والتي تحكم آلياتها التطور العلمي والتكنولوجي.
ولكن السؤال المطروح هو كيف يمكن تطوير مفهوم الحوار وآلياته حتى يتناسب مع المتغيرات الآنية محليا وإقليميا ودوليا؟
(1) مفهوم الحوار
أ- الحوار قيمة في ذاته وآلية يلجأ إليها الإنسان بحثا عن فهم متبادل. وهناك عدة معاني للحوار:تبادل الأفكار من خلال نقاش.
ب- ما يتحدث به الممثلون في الأعمال الدرامية.
ج- محادثة بين أكثر من شخصين.
د- نقاش يرمي إلي بلوغ اتفاق.
ويختلف الحوار عن مفاهيم أخري تبدو مرتبطة به أو قريبة منه، أهمها مفهوم السجال.
يعني السجال " إصرار الأفراد المتناقشون علي الاختلاف الذي يؤدي إلي الشعور بالتميز". ويقصد بذلك أن المتناقشون يحرصون دائما علي إبراز التمايزات، بهدف تكريس ذاتية استعلائية أو تفضيلية في مواجهة الأخر المختلف، ولا يشغلهم الوصول إلي أرضية مشتركة أو فهم مشترك تجاه موضوع بعينه. إذن أغراض السجال تختلف –جوهريا- عن أغراض الحوار. في السجال رغبة في تأكيد التميز والأفضلية علي الأخر، أما في الحوار فإن الرغبة تنصرف عادة إلي تبادل الأفكار والسعي المتبادل للوصول إلي اتفاق. مثال علي ذلك السجال الدائم بين أنصار القطيعة علي الجانبين العربي والغربي. هناك علي الجانب العربي من يحرص علي رؤية الغرب علي إنه الاستعماري.. المادي.. الإباحي.. المبشر، وهناك علي الجانب الأخر من يحرص علي رؤية العرب علي إنهم إرهابيون ومتخلفون وداعون إلي قهر المرأة والشره الجنسي. وهناك السجال الديني العقيم الذي يسعى من خلاله أصحاب مذهب أو ديانة إلي تأكيد سموهم وريادتهم علي أصحاب المذاهب أو الأديان الأخرى. ومن الملاحظ أن السجال يبني دائما علي الأنماط الجاهزة عن الأخر( أي التصورات الثابتة عن الآخرين) في حين أن الحوار-كما سيلي الحديث- يجب أن يبني علي التحرر من الصور النمطية المتكررة عن الذات والأخر. وعادة ما تسود السجال لغة خلافية نزاعية أما اللغة التي تسود الحوار فإنها تتسم بالرحابة والرغبة في بناء الجسور.
(2)أشكال الحوار
هناك عدة صور أو أشكال للحوار تختلف باختلاف الزاوية التي ننظر منها إلي المفهوم:
أ- هناك حوار بين الإنسان والله سواء من خلال نص مقدس مكتوب، أو طقوس شعائرية تعبدية، أو من خلال حوار باطني مع مخلوقات الله الكائنة حول الإنسان. هذا الحوار يتعرض إلي تشويه حقيقي من خلال السعي لإعادة إنتاج بدائل حوارية تشعر الإنسان أن بإمكانه الاستغناء عن الحوار مع الخالق. هناك الموضة.. السلعة.. الآلة التي تقدم بوصفها بدائل يغرق فيها الإنسان نفسه في سلسلة متصلة من الحوارات الباطنية تحكمها نداءات اللذة والغريزة التي قد تحمله في النهاية إلي الاعتقاد بأن هناك بديلا للحوار مع الله، وأن مفاعيل الحوار مع الخالق يمكن للإنسان أن يحصل عليها من خلال خبرة اشتباك مع مجتمع السوق. ومن خلال اللجوء إلي البدائل الحوارية يعاد تعريف المفاهيم. تصبح السعادة –مثلا- ليست تعبيرا عن تضحية أو بذل أو صفاء روحي، ولكن تجسيدا لنزعة التملك والرغبة. يجد المرء نفسه في دائرة عبثية من الرغبات المتصلة التي لا يشبع كلما ارتوي من أحدها.
ب- هناك حوار داخلي بين الإنسان وذاته. وعادة ما يحدث نوع من التقييم السلبي للحوار الداخلي، والنظر إليه علي إنه تعبير عن نرجسية مفرطة أو أحساس إنساني بعدم الرغبة في التلاقي والانسجام مع الآخرين في حين أن الحوار الداخلي هو أصل الاعتقاد والأيمان ذاته حيث يتولد الاعتقاد الديني أو السياسي عبر تجربة حوارية داخلية من خلال إعادة إنتاج القراءات والمشاهدات وهواجس الذات والرغبات في عملية معرفية يصعب تفكيك جوانبها المتداخلة. ويمارس الجميع الحوار الداخلي عبر إعادة استرجاع الذهن للمشاهدات الحياتية والعلاقات الاجتماعية والنظر إليها بشيء من التقييم أو من خلال التلاقي المستمر بين الإنسان والنص الذي يطالعه سواء أن كان كتبا علمية أو نصوصا دينية أو سرديات أدبية. وفي حالة الحوار بين الإنسان والنص المكتوب تتداخل ثقافة الشخص مع النص، وهو ما يجعل القراءات المختلفة للنصوص أمرا حتميا وطبيعيا.
ج- هناك حوار يكون فيه متحدث واحد (مونولوج) Monologue والآخرون فيه يستمعون، ولا يستمع هو لأحد غير نفسه. وهناك حوار (ديالوج) Dialogue يتحدث فيه أكثر من متحدث، ويستمعون فيه إلي بعضهم بعضا. فالقضية إذن ليس في وجود أكثر من طرف في الحوار، ولكن في وجود فاعلية متبادلة واستماع متبادل لوجهات النظر المختلفة. هذا نمط من الحوار يحكمه ما يمكن تسميته بالقوامة الفكرية التي تتمثل في وجود طرف يتحدث والآخرون ينصتون. هذا ليس حوارا بل استبداد مستبطن بالأخر.
د- هناك حوار بين الذات والأخر، بين ثقافة وأخري، ونسق حضاري وآخر، حوار ينطلق من التمايز الثقافي الخاص بحثا عن مشتركات للحياة المشتركة. هذا النمط من الحوار قد يقوم علي سرد المواقف، وإبراز الخصوصيات دون التوصل إلي أرضية مشتركة. وقد يؤدي إلي نتائج ايجابية إذا أرادت الأطراف المشاركة فيه الوصول إلي نظرة مشتركة حول قضايا محل اهتمام مشترك. الحوار في هذه الحالة خبرة نقدية بحثا عن أرضية مشتركة للحياة. وتبني المشتركات علي مساحة النقد الذاتي المتبادل.
ه- هناك الحوار اليومي الذي يتواصل من خلاله المواطنون العاديون. حوار الشارع والمدرسة والعمل والمنزل والأسرة والكنيسة والمسجد. حوار الصداقة والاختلاف. حوار الحب والكراهية، حوار الأجيال. هذا النمط من الحوار يكشف نفسية الشعوب، ولغة التخاطب، ومستوي التحضر، والفهم السياسي، والعيش المشترك. ومن خلال تعقب بنية الحوار، ولغته وآلياته يمكن تبيان رؤية الإنسان تجاه ذاته والأخر. فمثلا لوحظ أن الألقاب التي تتداول في الشارع تعكس إلي حد بعيد الإدراك السياسي. في الستينيات كانت الألقاب المتداولة في مصر "كابتن" نظرا لان النخبة الحاكمة كانت من الضباط و"باشمهندس" إدراكا بأهمية التعليم والتصنيع والتنمية، أما في السبعينيات وما تلاها أصبحت الألقاب تطلق علي الفئة الصاعدة دون أصل اجتماعي مهني مثل "لورد" و"برنس". وهي ألقاب تطلق علي الأغنياء الجدد الذين تسلقوا السلم الاجتماعي دون امتلاك معايير التحضر وفي مقدمتها التعليم. ومن ناحية أخري يلاحظ كذلك تزايد مساحة العنف اللفظي في لغة التخاطب اليومية في الشارع المصري، وهو ما يكشف عن تدني لغة الحوار، ووجود فائض عنف عند المواطن العادي.
و- هناك حوار علمي يديره الباحثون في شتي فروع المعرفة، ويغلب عليه الانقسام إلي مدارس فكرية أو علمية تتنوع نظريات وأساليب دراستها للظواهر. وحوار سياسي بين المهتمين بالعمل العام حول القضايا السياسية. وحوار ديني بين المؤمنين بالأديان حول مفاهيم من قبيل المواطنة والعدل والتسامح...الخ. وحوار ثقافي بين النخبة المثقفة حول قضايا وثيقة الصلة بالإبداع الثقافي مثل الرواية والقصة والشعر والنقد...الخ. وحوار دبلوماسي بين دول أو منظمات سياسية إقليمية أو دولية حول المصالح المتبادلة، والسياسات المشتركة علي المستويين الإقليمي أو الكوني. وتختلف أطراف الحوار وفق ماهيته وطبيعته. في الحوار العلمي ينخرط فيه العلماء والباحثون، في الحوار الثقافي يظهر المبدعون، في الحوار السياسي يأتي دور الشخصيات العامة والحزبية والمشتغلين بالعمل العام. وفي الحوار بين المؤمنين بالأديان يسهم علماء اللاهوت والفقه والمشتغلين بقضايا التعايش بين الأديان. ويلاحظ أنه داخل الجماعة الواحدة ينشأ حوار بيني، داخل المنتمين لمدرسة سياسية أو فكرية أو علمية واحدة أو داخل الحزب السياسي، أو النقابة أو النادي أو المنتمين لمذهب ديني معين... وهكذا.
ز- هناك أطر حوارية جديدة تختلف عن الحوار المباشر بين شخصين أو أكثر. مثل الحوار عبر البريد الالكتروني أو الانترنيت. حيث تنشأ تشبيكات بين الأفراد يعيشون في مجتمعات مختلفة وينتمون لثقافات متنوعة. ويتسم الأطر الجديدة للحوار بعدة سمات أبرزها: أولا التفكيك. فلا يهتم الحوار بقضايا كبري فقط بل قد تحدث تشبيكات بين عشرات بل مئات البشر بقضايا صغري. فمثلا قد ينشأ موقع الكتروني للمهتمين بزهرة معينة أو بنمط معماري خاص أو بداعية ديني معين....الخ. هذه الأطر الحوارية الجديدة تتيح بلا شك مساحات واسعة من الالتقاء اللا مكاني واللا زمني. لكنها في الوقت نفسه تجعل في الإمكان دخول أشخاص للحوار غير مؤهلة أو ليست علي دراية بموضوع الحوار. فمثلا لوحظ أن بعض المواقع التي ترعي الحوار بين الأديان تقدم فرصا للحوار اللا عقلاني والسجال بين المؤمنين بالأديان دون علم أو خبرة، وهو ما قد يؤدي إلي إشاعة مناخ من التعصب والجهل بالأخر. وهي نتيجة لا تتلاءم مع مساحة الحرية التي يتيحها هذا الأسلوب من التواصل. ثانيا:الافتقار إلي الخبرة الإنسانية العميقة التي يتيحها الحوار المواجهي وما يفترضه من تأثير مهم لما يعرف بلغة الجسد Body Language، والتي تلعب دورا لا يستهان به في إضفاء كيمياء التجانس في الحوار رغم ما قد يظهر من اختلاف في المواقف تجاه القضايا المتداولة. ثالثا: البعد عن مواطن الحكمة. في المجتمعات الشرقية تنبع الحكمة من النص الديني أو الموروث الثقافي ويعتمد انتقالها –في الأساس- علي التلقين والتسليم من جيل لأخر. أما في الحوار عبر الانترنيت فإن الحكمة تتراجع أمام المعرفة المتدفقة بلا توقف، والتي قد لا يحكمها نسق فكري متكامل أو رؤية واحدة متجانسة. رابعا: غياب الإنفاق. الحوار الالكتروني لا يقود إلي اتفاق في أحيان كثيرة بقدر ما يسوده مفهوم السجال.
(3)شروط الحوار
هناك عدة شروط أساسية في الحوار:-
أ- الشعور بالحاجة. الحوار ليس ترفا بل أحساس بالحاجة، ورغبة في الخروج من أزمة. فإن لم تكن هناك قضية أو مشكلة أو اختلاف فلا يكون هناك داع للحوار، ولن يتولد حافز لدي الأطراف المتباينة للمضي بجديه في الخبرة الحوارية. علي سبيل المثال في الحوارات بين الحكومة والمعارضة كثيرا ما تغلب لغة السجال، ولا يوجد دافع لدي المتحاورين في الوصول إلي منطقة وسط. وفي مجال الحركات الإسلامية التي لجأت إلي العنف كان الحوار الهادئ، والحاجة إلي الاستماع لآراء مختلفة هو السبيل لمراجعة أفكار العنف والتطرف. يختلف ذلك عن أسلوب الجماعات في بداياتها من حيث النظر سلبيا إلي مفهوم الحوار، والركون فقط إلي ما يعرف بالسمع والطاعة في العلاقة بين أفرادها.
ب- الخروج من الذات. كل طرف من أطراف الحوار يجب أن يخرج من ذاته. إنه الانفتاح الذي يجعل الإنسان يتخلى عن دائرة الرؤية الضيقة من أجل التفاعل مع الآخرين. ويجب أن يدرك كل إنسان أن الحوار مع الأخر هو شرط أساسي لارتقائه روحيا واجتماعيا وذهنيا. من خلال الحوار يدرك الشخص أن الآخرين لديهم رؤية وفكرا، وبالتالي يستحقون من يستمع إليهم، ويتبادل الرأي معهم.
ج- إدراك الاختلاف. الحوار لا يتم بين أشخاص متماثلين في الفكر وأسلوب العمل. بل ينبع من الاختلاف، ومن رغبة المختلفين أنفسهم في الوصول إلي إدارة سلمية عقلانية للاختلاف حتى لا يتحول إلي خلاف أو نزاع أو قطيعة. الاختلاف في ذاته لا يعبر عن مشكلة أو أزمة أو مرض اجتماعي ، بل يعبر عن قصد إلهي وضرورة من ضرورات الحياة. يتوقف الأمر علي أسلوب إدارة الاختلاف. بالتأكيد الحوار الجاد هو أداة مثلي لإدارة الحوار بين المختلفين. من هنا فإن إدراك الاختلاف ذاته، والاعتراف به هو أحد شروط الحوار. في بعض الأحيان يؤدي عدم فهم أسباب اختلاف الآخرين إلي صدور ردود أفعال من الطرف الأخر في الحوار تعطل تدفقه.
د- الاعتراف المتبادل. الحوار يسبغ شرعية علي أطرافه. فالحوار مع طرف يعني الاعتراف به، وبوجوده، والرغبة في التواصل معه. وفي هذا الصدد تحديدا فإن الحوار بين المعتقدات والأديان يكون الاعتراف فيه ليس بالأديان ذاتها وإنما بالمؤمنين بها. المسلمون يشكون أن المسيحيين لا يعترفون بالإسلام. والمسيحيون يقولون أن المسيحية التي يعترف بها الإٍسلام والمسلمون ليست هي التي يؤمنون بها. وتنطبق نفس الملاحظة علي اليهودية. إذن الاعتراف يجب أن يكون إنسانيا بين المؤمنين بالأديان، اعتراف بالمواطنة والانتماء للإنسانية والرغبة في العيش المشترك. ومن ناحية أخري إذا كان الحوار يمتد إلي المؤمنين بالمذاهب التي لا تستند إلي مرجعية سماوية مثل البوذية والديانات التقليدية في أفريقيا.. فكيف يتسنى أن يكون الاعتراف بالمذهب هو شرط مسبق للحوار؟ هل مطلوب أن أعترف بالبوذية حتى أتحاور مع بوذيين أم أعترف بشركة البوذيين في الحياة والمصير علي الأرض حتى يكون للحوار معني وغاية؟. وعلي مستوي الديانة الواحدة هل مطلوب أن يعترف أصحاب كل مذهب بالمذاهب الأخرى بوصفه شرطا أوليا للحوار؟ بالطبع لا. المطلوب هو الاعتراف بحق الآخر المختلف في الحياة. إذا وضعنا "الاعتراف" شرطا للحوار، فإن هذا سببا في حد ذاته لنسف مبدأ الحوار ذاته.
ه- النسبية. كل طرف يحمل رأيا أو فكرة نسبية أي لا تحتوي علي الحقيقة المطلقة. يعني ذلك أن ما يطرحه يحتمل الخطأ أو الصواب. أفكار الشخص ليست مطلقة ولا عصمة لها. من هنا فالحوار لا يشمل معتقدات ولكن ظواهر صنعها الإنسان أيا كانت حتى يكون بيد الإنسان أن يعيد إنتاجها وتعديلها. من هنا فالحوار بين المؤمنين بالأديان لا يتناول العقائد لان كل طرف ينظر إلي عقيدته علي أنها مطلقة لا يعتريها خطأ أو تعديل، وإنما يشمل قضايا العيش المشترك مثل قضايا التنمية والتخلف والبيئة والعمل. في حالة الحوار الذي ينصب علي موضوعات عقائدية أو لاهوتية فإن الحوار يجب أن يكون فقط بين مختصين، يعرفون قيمة العلم، ولديهم الخبرة والمعرفة، وليس بين أفراد عاديين لا يمتلكون فهما عمليا منظما عن الآخر. كل ذلك يجري علي أساس من الثقة والاحترام المتبادل.
و- النزعة الاستكشافية. الحوار رحلة اكتشاف للذات والأخر. من خلال الحوار يستطيع الإنسان أن يكتشف ذاته، رغباته، هواجسه، مساحة التسامح في أعماقه وتأثير الخبرات السابقة والصور النمطية المخزونة في عقله الباطن. ويفهم الأخر كما يريد أن يعرف ذاته. يضاهي الصور الذهنية بالالتحام المباشر، ويصل إلي مفهوم جديد عن الذات والأخر. من هذا المنطلق يجب توفر نزعة استكشافية لدي المنخرطين في الحوار، ليس فقط للأخر بل للذات أيضا. فالحوار مثلا بين رجل وامرأة يجعل الطرفان يكتشفان مساحة الفهم عند كل منهما وليس فقط عن بعضهما البعض. الرجل قد يكتشف أن المرأة التي يحاورها تقدم نموذجا مختلفا عن الصورة الذهنية التي يحتفظ بها داخله عن النساء. والعكس صحيح. ومن خلال رحلة الحوار قد يكتشف كل طرف إلي أي حد يستطيع أن يتفاعل مع الطرف الأخر. وهو ما يستتبعه حتما إعادة نظر للذات، وأساليب التواصل مع الآخرين.
ز- الاحترام المتبادل. الحوار يدور بين مختلفين ولكنهم أنداد. ويعني ذلك أن يشعر كل طرف أن الأخر علي قدم المساواة معه حتى وإن كان في مكانة أفضل منه علي صعيد امتلاك الثروة أو الجاه أو الوضع الاجتماعي. والحوار ليس محاولة من جانب طرف لإملاء شروطه أو رؤيته علي الطرف الأخر بل هو سعي متبادل من أجل التمكين المشترك بحيث يخرج الطرفان من الحوار أكثر فهما للذات والأخر، وأكثر فاعلية مما كانا عليه.
ح- الحرية. الحوار الحقيقي لا يقوم أو يؤتي ثمارا إلا في مناخ من الحرية حيث تتمتع كل الأطراف بحظوظ متساوية في طرح وجهة نظرها ورؤاها. الحوار لا يقوم في مناخ من التسلط أو المحاذير أو القهر نظرا لان حرية التعبير شرط أساسي لأي حوار.
(4) آلـيات الحوار
الحوار الناضج له آليات أو وسائل لضمان نجاحه.
أ- السعي لفهم الأخر. كل طرف يفصح عن ذاته في الحوار. المهم أن يستمع الطرف الثاني ويحاول أن يفهم الأخر علي النحو الذي يريده أو يروق له. كثيرا ما نفهم الأخر علي النحو الذي يروق لنا وليس بالكيفية التي يريدها الأخر. في الحوار بين المسلمين والمسيحيين ليس من المهم أن يفهم المسلم المسيحية كما وردت في كتبه وتراثه ولكن كما يريد المسيحي أن يعرف ذاته. والعكس بالضرورة صحيح. من الضروري أن يفهم كل طرف الأسباب والبواعث والحكمة التي تكمن وراء اتخاذ الأخر لموقف أو مبدأ أو أسلوب حياتي. هذا يجعل للحوار معني وليس مجرد مساجلات كلامية أو تعبيرات لفظية. وتنطبق هذه الملاحظة علي حوار الحياة. في بعض الأحيان يسعى "الكبار" إلي الحوار مع جيل الشباب من منطلق أنه امتداد لهم يجب أن يحمل أفكارهم، ويحاسبوا الشباب إذا خرجوا عن الخط المرسوم لهم في حين أن هؤلاء الشباب يكون لديهم تصور وطرح مختلف، ويودون أن يفهم الناس فكرهم وعالمهم وأحلامهم وليس المصادرة عليها.
ب- التحرر من الصور الذهنية. الحوار يقوم علي التخلص أولا من الأحكام المسبقة عن الطرف الأخر والدخول في رحلة اكتشافه كما يريد أن يعرف ذاته. وهو ما يطلق عليه تأجيل التأكيدات Certaintiesأي الصور الذهنية المأخوذة عن الآخر المختلف. نستمع إليه، ونتفهم موقفه، ورؤيته. الخطأ الذي وقعت فيه جماعات العنف الديني في السابق هو الانطلاق من "صور نمطية ذهنية" عن الآخرين، ثم التعامل معهم وفق هذه الصور المغلوطة. إذن التخلص من الصورة النمطية شرط ضروري للولوج إلي حوار جاد موضوعي.
ج- التخلص من ترسانة المصطلحات السجالية. هناك لغة تجعل للحوار معني. وهناك لغة تجعل الحوار يدور بكلمات أشبه بالطلقات. إذا استخدم المختلفون لغة منفرة تؤلم الأخر.. فماذا ستكون النتيجة ؟ التخلص من ترسانة العبارات والتركيبات اللفظية والكلمات التي تسبب حساسية للأخر أمر حتمي حتى يكون هناك حوار. وعادة ما يؤدي ترسيخ الخلاف لفترة طويلة إلي نشوء خطاب يكرس هذا الخلاف ويعطيه بناء ومفهوما. فإذا أتي الحوار تكون لغة الخطاب تحمل علامات القطيعة أكثر من الرغبة في التواصل والفهم المشترك. من ذلك استخدام أوصاف "منفرة" لرمي الآخرين بها، مثل "الفسق"، "الفجور"، الخ.
د- الاهتمام بالمنطوق لا بالنوايا. يجب أن يستند كل طرف مشارك في الحوار علي ما يقوله الآخرون، وليس علي ما يدور في أذهانهم وأفئدتهم. أي التفكير فيما يقول الناس وليس فيما يفكرون. أحد أبرز المشكلات التي تعوق سير الحوار هو النظر إلي نوايا الآخرين وليس إلي خطابهم المعلن.
ه- الاستثمار في الحوار. يجب أن يشعر كل طرف في الحوار أن الأخر يستثمر في الحوار، وإنه يسعى من ورائه لتحقيق فهم مشترك أو بلوغ أرضية مشتركة. الحوار ليس نزهة ذهنية، أو مناسبة لتسجيل مواقف، أو إملاء رؤى علي الطرف الأخر. الجدية في الحوار أساس له. تبادل المعلومات ضرورة. السعي المتبادل لتحقيق التراكم في الخبرات الحوارية استثمار حقيقي لأجيال قادمة. فمثلا هناك مئات الحوارات التي جرت في السنوات الماضية ذهبت بلا صدي لأنه لم تكن لها ذاكرة. ولم يطلع عليها جمهور واسع. والنتيجة أن من يبدأ الحوار يعيد إنتاج ما أنتجه الآخرون علي مدار سنوات.
و- البعد عن طلب التنازلات. الحوار فرصة للفهم وليس لاقتناص تنازلات من الأخر. إذا شعر أي طرف في حوار أن الأخر يطلب منه تنازلات فالنتيجة المتوقعة هي فشل الحوار، أو عودته إلي المربع رقم واحد، أي نقطة الصفر التي انطلق منها.
المصدر: مركز ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان
يُعد السلام في مقدمة القيم الإنسانية الرفيعة. وهناك العديد من الأقوال المتواترة في هذا الخصوص، التي شاعت في أعمال الفلاسفة، والباحثين، والشعراء والأدباء. تمجد جميعها في السلام، وتجعل منه قيمة أساسية ومحورية في الحياة. ومثله مثل غيره من المفاهيم، يحتاج السلام إلي تعريف محدد.
1- مـعـني الـسلام
هناك اتجاهان للنظر- بصفة عامة- إلي مفهوم "السلام".
أ. السلام- في أبسط تعريفاته- هو "غياب الخلاف، العنف، الحرب،....". هذه نظرة شائعة في العديد من الكتابات، والتي لها جذور في الحضارة اليونانية القديمة، وامتدت في التاريخ الإنساني المسيحي. ويتبني دعاة السلام هذا التعريف لمفهوم السلام. ويري الباحثون في مجال العلاقات الدولية أن السلام يعني غياب الحرب، ووجود الحرب لا يعني وجود السلام. وفي المجتمعات الإنسانية يعني السلام غياب كل ما له علاقة بالعنف، مثل الجرائم الكبرى المنظمة كالإرهاب، أو النزاعات العرقية أو الدينية أو الطائفية أو المناطقية (أي تلك التي تنشب بين مناطق جغرافية في مواجهة مناطق أخري داخل إقليم الدولة ذاته). وعادة ما تعود أسباب النزاعات المناطقية إلي اعتبارات اقتصادية (مثل الصراع علي الثروات الطبيعية كما هو الأمر في العديد من بلدان أفريقيا)، أو سياسية (مثل احتكار مناطق جغرافية معينة للسلطة السياسية مثلما هو النزاع الجاري حاليا في دارفور) أو عرقية (مثل النزاعات بين الأعراق المختلفة التي تقطن مناطق جغرافية في مواجهة بعضها بعضا كما كان الحال حتى وقت قريب في الصراع بين شمال وجنوب السودان) .
ب. السلام هو "الاتفاق، الانسجام، الهدوء...". وفق هذا التعريف فإن السلام- عكس التعريف السابق- لا يعني غياب العنف بكافة أشكاله، ولكنه يعني صفات ايجابية مرغوبة في ذاتها مثل الحاجة إلي التوصل إلي اتفاق، الرغبة في تحقيق الانسجام في العلاقات بين البشر، سيادة حالة من الهدوء في العلاقات بين الجماعات المختلفة...هكذا. السلام- إذن- هو حالة إيجابية في ذاتها (الاستقرار والهدوء مثلا)، أكثر من كونه غيابا لحالة سلبية مرفوضة (العنف، الحرب، القتل مثلا). يفتح هذا التعريف المجال أمام التفكير في مستويات مختلفة للتعامل مع مفهوم "السلام". هناك سلام بين دول، وهناك سلام بين جماعات بشرية، وهناك سلام في داخل الأسرة، وهناك سلام بين المرء وذاته.
2- معني السلام الاجتماعي
انطلاقا من معني السلام بصفة عامة، والذي إما يُعرف بغياب المظاهر السلبية مثل العنف، أو بحضور المظاهر الإيجابية مثل الهدوء، والاستقرار، والصحة، والنماء، الخ، يمكن أن نقترب من مفهوم السلام الاجتماعي Social Peace. يتكون كل مجتمع من مجموعة من البشر، مختلفون بالضرورة عن بعضهم بعض، سواء في انتمائهم الديني، أو المذهبي، أو موقعهم الاجتماعي، أو الوظيفي، ولكن يجمعهم جميعا ما يمكن أن نطلق عليه "عقد اجتماعي"، أي التزام غير مكتوب بينهم، يتناول حقوق وواجبات كل طرف في المجتمع. الخروج علي هذا العقد يمثل انتهاكا لحقوق طرف، وإخلالا بالتزامات طرف آخر مما يستوجب التدخل الحاسم لتصحيح الموقف.
من هذا المنطق فإن العقد الاجتماعي هو:
1. تعبير عن حالة توازن بين الأطراف المجتمعية المختلفة في المصالح، والقوة، والإمكانات، والإرادات.
2. يحافظ علي هذا التوازن "قوة"، ليست هي بالضرورة "قوة العضلات" أي العنف، ولكن هي-في الأساس- قوة القانون، والشرعية.
3. يساعد علي تسوية النزاعات أو الخلافات باعتباره المرجعية التي تعود إليها الأطراف المختلفة لحل مشكلاتهم. يساعد ذلك علي حدوث ما نطلق عليه "التوقع". كل طرف يتوقع من الطرف الآخر سلوكا معينا، بناء علي ما يقع علي عاتقه من التزامات وواجبات، فإذا لم يأت بهذا السلوك، يعتبر ذلك خروجا علي العقد الاجتماعي السائد. فمثلا إذا كانت هناك التزامات تقع علي عاتق صاحب العمل تجاه العاملين، فإنه في المقابل هناك حقوق لصاحب العمل تجاه العاملين. الإخلال بأي منهما يؤدي إلي الخروج عن العقد الاجتماعي، مما يستوجب التصحيح.
هناك نوعان من العقد الاجتماعي، الأول مباشر، والثاني غير مباشر.
أ- العقد الاجتماعي المباشر هو العقد الذي تبرمه الأطراف علي نحو محدد سلفا. مثل تحديد المكان، الزمان، التوقعات المتبادلة من جانب كل الأطراف. مثال علي ذلك عقد بناء مبني. يتوقع الطرف الأول (صاحب الأرض الفضاء وممول المشروع) من الطرف الثاني (شركة مقاولات أو حتى مقاول عادي) أن ينتهي من تشييد المبني بمواصفات محددة متفق عليها، وتجري عملية التسليم عبر مراحل زمنية محددة سلفا. ويتوقع الطرف الثاني من الطرف الأول مقابلا ماديا محددا في ضوء الالتزامات المطلوبة. هكذا تكون التوقعات المتبادلة واضحة بين الطرفين.
ب- العقد الاجتماعي غير المباشر هو العقد الذي يتعلق بالقيم والمعايير والمشاعر والاتجاهات، وما هو متفق عليه ضمنا بين مختلف الأطراف، والخروج عليه يبعث علي الاستنكار. مثال علي ذلك وعد الكلمة بين الأطراف التجارية، والأمانة في العلاقات بين البائع والمشتري، وهكذا. يتحقق السلام الاجتماعي إذا كان العقد الاجتماعي- المباشر وغير المباشر- يجري علي أرض الواقع دون أية مشكلات، ولكن يتوتر، ويضطرب، وينحرف مساره إذا لم يجر احترام العقد الاجتماعي علي أرض الواقع. وتعرف المجتمعات ظاهرة التنوع والتعددية، تختلف المصالح، وتتباين الاتجاهات، ويختلف النظرة إلي الحاضر والمستقبل، كيف يمكن- في ضوء كل هذا- أن يتحقق السلام الاجتماعي بينهم؟
3- أركان السلام الاجتماعي
هناك عدة أركان للسلام الاجتماعي في أي مجتمع، لا تتصل فقط بالتاريخ، لكنها تقترب أكثر فأكثر من الإدارة السياسية للمجتمعات.
أ- الإدارة السلمية للتعددية
تعرف المجتمعات البشرية ظاهرة التعددية الدينية والمذهبية واللغوية والإثنية. لم تعد هناك مجتمعات خالصة تضم أهل دين معين، أو مذهب معين، أو عرق معين أو لغة معينة. تحولت التعددية إلي قيمة أساسية في المجتمعات المتنوعة، بشريا ودينيا وثقافيا. التعددية في ذاتها لا تعني سوي ظاهرة اجتماعية، ويتوقف الأمر بشكل أساسي علي إدارة التعددية. هناك إدارة سلمية، تحفظ للجماعات المتنوعة التي تعيش مع بعضها بعضا مساحة للتعبير عن تنوعها في أجواء من الاحترام المتبادل، وهناك تعددية سلبية تقوم علي اعتبار التنوع "مصدر ضعف" وليس "مصدر غناء"، يترتب علي ذلك العمل بقدر المستطاع علي نفي الآخر المختلف، لصالح الجماعات الأكبر عددا، أو الأكثر سلطة، أو الأوسع ثراء ونفوذا. يؤدي ذلك إلي حروب أثنية، ومذهبية، ودينية، ويخلف وراءه قتلي وجرحي وخراب اقتصادي، والأكثر خطورة ذاكرة تاريخية تتناقلها الأجيال محملة بمشاعر الحق، وذكريات الكراهية، والرغبة في الانتقام.
ب- الاحتكام إلي القانون
يمثل "حكم القانون" في المجتمع الحديث أحد أهم عوامل تحقيق المساواة والعدالة في العلاقات بين الأفراد، والجماعات. يعني حكم القانون عدد من النقاط الأساسية:
1- الأفراد متساوون أمام القانون بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الجنس أو الدين أو العرق.
2- مؤسسات العدالة، الشرطة والنيابة والمحاكم تطبق القانون علي الأفراد بحيدة كاملة بصرف النظر عن موقعهم الاجتماعي، أو انتمائهم الديني، أو نفوذهم السياسي.
3- يكون اللجوء إلي مؤسسات العدالة ميسورا مكفولا للجميع، لا يتحمل فيه الشخص أعباء مالية تفوق إمكاناته المالية أو مستواه الثقافي.
4- يحاكم الشخص أمام قاضيه الطبيعي، ولا يواجه أية إجراءات استثنائية بسبب انتمائه السياسي أو الديني أو المذهبي.
5- تطبق مؤسسات العدالة القانون في إطار زمني معقول، يسمح لها بتداول الأمر بجدية، وفي الوقت ذاته لا يؤدي إلي إطالة أمد التقاضي علي نحو يضيع حقوق المواطنين.
6- تنفذ الأحكام الصادرة عن مؤسسات العدالة بحزم دون تسويف أو تأخير.
هذه المعايير الأساسية التي تحكم تجسد مفهوم "حكم القانون" في المجتمع. يؤدي حضورها إلي ما يمكن أن نطلق عليه "التوقع الاجتماعي"، ويعني ذلك أن الأفراد يتوقعون نظاما قانونيا في المجتمع، يحكم علاقات بعضهم بعضا، يقوم علي وضوح القوانين، وشفافية عملية التقاضي، والحزم في تنفيذ الأحكام القضائية النهائية واجبة النفاذ. غياب بعض هذه المعايير أو جميعها إلي إهدار لمفهوم المساواة بين المواطنين في المجتمع، ويدفع الأفراد إلي الاستناد إلي قوانين من صنعهم، مثل البلطجة، والرشوة، وجميعها تعبر عن اهتزاز مفهوم "حكم القانون" في نفوس الأفراد، وهو ما يؤثر علي السلام الاجتماعي في المجتمع.
ج- الحكم الرشيد
الحفاظ علي السلام الاجتماعي في أي مجتمع يحتاج إلي حكم رشيد. كثير من القلائل والإضرابات تحدث من جراء غياب المشاركة وسرقة المال العام. من هنا يحتاج السلام الاجتماعي إلي ديمقراطية. ويعني الحكم الرشيد Good Governance مجموعة من المفاهيم الأساسية، يمكن تعريفها بإيجاز.
المساءلة Accountability وتعنى تقديم كشف حساب عن تصرف ما. وتشمل المساءلة جانبين هما: التقييم Appraisal والثواب أو العقاب Sanction. ويعنى أن يتم أولاً تقييم العمل، ثم محاسبة القائمين عليه. يكون ذلك من خلال تفعيل دور المؤسسات السياسية مثل مجلس الشعب، والمؤسسات الرقابية، والصحافة، ومنظمات حقوق الإنسان، الأمر الذي يؤدي إلي رفع مستوي النزاهة في الحياة العامة.
الشفافية Transparency وتعنى العلنية في مناقشة الموضوعات، وحرية تداول المعلومات في المجتمع. تساعد الشفافية في تداول المعلومات علي تحقيق المساءلة الجادة حين تتوفر الحقائق أمام المواطنين في المجتمع.
التمكين Empowerment ويعنى توسيع قدرات الأفراد، ومساعدتهم على تطوير الحياة التي يعيشونها. ويشمل تمكين المواطنين وتحويلهم من "متلقين" سلبيين إلى "مشاركين" فاعلين، يكون ذلك من خلال رفع قدراتهم، ومساعدتهم علي تنمية أنفسهم، والارتقاء بنوعية الحياة.
المشاركة Participation وتعنى تشجيع الأفراد علي المشاركة في العمل العام، وإزالة العقبات من أمامهم. تأخذ المشاركة عدة صور، منها المشاركة السياسية (عضوية الأحزاب، الانتخابات، الخ)، والمشاركة الاجتماعية (مؤسسات العمل الأهلي، الجهود التطوعية، الخ)، والمشاركة الثقافية (دخول الحياة الثقافية، وتقدم منتجات ثقافية في شكل كتب أو أعمال فنية، الخ).
محاربة الفساد Corruption ويعنى سوء استخدام الموقع الوظيفي من أجل تحقيق مكاسب شخصية. سياط الفساد يلهب ظهور الناس كل يوم، في صورة شراء سلعة أكثر من ثمنها، والحرمان من خدمة يحتاجها الشخص، أو عدم الحصول علي فرصة عمل لغياب الواسطة. فقد تحول الفساد إلي أداة لتسيير الحياة اليومية من خلال تحريك تروس البيروقراطية المتكلسة، وشراء الولاء، وتجنيد التابعين، وحشد الأنصار، وبناء قاعدة التأييد، وخدمة المصالح الضيقة، وهو ما يتسبب –بالضرورة- في إحداث فجوة حقيقية بين الأغنياء والفقراء في المجتمع، وهو ما يؤدي إلي ارتفاع مستوي التوتر الاجتماعي، ولجوء بعض الفئات إلي العنف والجريمة.
د- حرية التعبير
تعد حرية التعبير من مستلزمات عملية بناء السلام الاجتماعي في أي مجتمع. فمن الثابت أن المجتمعات تقوم علي التعددية الثقافية والدينية والنوعية والسياسية، كل طرف لديه ما يشغله، وما يود تحقيقه. القاسم المشترك بين الجماعات المختلفة هو أساس بناء المجتمعات. ولا يتحقق السلام الاجتماعي دون أن تتمتع كل مكونات المجتمع من مساحات متساوية في التعبير عن آرائها، وهمومها، وطموحاتها. في مناخ عقلاني يسوده الانفتاح يمكن الاستماع إلي كل الأطراف، وتفهم كل الآراء، دون استبعاد لأحد، بهدف الوصول إلي الأرضية المشتركة التي يلتقي عندها الجميع. وقد ذهب الدستور المصري- الصادر عام 1971م- في المادة (47) إلي التأكيد علي أن "حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون، والنقد الذاتي والنقد البناء، ضمان لسلامة البناء الوطني". وأكدت المادة (49) علي أن "تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك". انطلاقا من ذلك يتضح أن الدستور المصري يؤكد ليس فقط علي حرية الرأي، وحرية التعبير عن الآراء المختلفة، لكنه ذهب إلي ما هو أبعد من ذلك من خلال التأكيد علي أن حرية التعبير ضرورية لضمان سلامة البناء الوطني. وألزم الدولة بتوفير وسائل التشجيع اللازمة لضمان حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي.
ه- العدالة الاجتماعية
تعد العدالة الاجتماعية ركنا أساسيا من أركان السلام الاجتماعي. لا يمكن أن يتحقق سلام اجتماعي في أي مجتمع إذا كانت أقليته تحتكر كل شيء، وغالبيته تفتقر إلي كل شيء. الصراع بين الطرفين سيكون السمة الغالبة. ولا يقتصر مفهوم العدالة الاجتماعية علي المشاركة في الثروة، وتوسيع قاعدة الملكية لتشمل قطاعات عريضة من المجتمع، والحصول علي نصيب عادل من الخدمات العامة، ولكن يمتد ليشمل ما يمكن أن نطلق عليه "المكانة الاجتماعية"، التي تتحقق من خلال مؤشرات واضحة مثل التعليم. وتقتضي العدالة الاجتماعية أن يحصل كل شخص علي فرصة حياتية يستحقها بجهده، وعرقه، وهو ما يعني انتفاء كافة أشكال المحسوبية والواسطة، التي تعد الباب الملكي للفساد.
و- إعلام المواطنة
يحتاج المجتمع إلي إعلام تعددي، يساعده علي ممارسة التعددية من ناحية، ويكشف الأمراض الاجتماعية والسياسية والثقافية بهدف معالجتها، والنهوض بالمجتمع. هنا نفرق بين نوعين من الإعلام. إعلام المواطنة، وإعلام ضد المواطنة. ما يحتاج إليه السلام الاجتماعي- قطعا- هو إعلام يعزز المواطنة.
يقصد بإعلام المواطنة أن تجد هموم المواطن مساحة في وسائل الإعلام. وتتنوع هموم المواطن حسب موقعه الاجتماعي والديني والسياسي والثقافي في المجتمع. هناك هموم للفقراء، وهموم للمرأة، وهموم للمسيحيين، وهموم للعمال،......الخ. من الطبيعي أن تجد كل فئات المجتمع مساحة تعبير عن همومها في وسائل الإعلام. وكلما وجد المواطن- العادي- مساحة تعبير ملائمة عن همومه في وسائل الإعلام كلما كان ذلك مؤشرا علي أن الإعلام ذات طبيعة ديناميكية تفاعلية مع المواطن.
وعلي العكس مما سبق، هناك إعلام يلعب دورا ضد ثقافة المواطنة سواء بتجاهل هموم مواطنين في المجتمع، أو بتفضيل التعبير طبقيا أو سياسيا أو ثقافيا أو دينيا عن هموم مجموعات معينة من المواطنين دون غيرهم. وقد يصل الأمر إلي أبعد من هذا حين يوظف الإعلام ذاته- كأداة صراع- سياسيا أو ثقافيا أو اقتصاديا أو دينيا، من خلال تأليب مجموعات من المواطنين علي بعضهم البعض، أو نشر ثقافة البغضاء في المجتمع، أو تصوير قطاعات من البشر بصورة سلبية مما يدفع من المواطنين إلي التعامل معهم بتعالِ غير مبرر.
ز- ذاكرة العمل المشترك.
يختبر كل مجتمع أيا كانت لحظات تعثر وتراجع. المطلوب هو تجاوز هذه اللحظات بما يسمح ببنيان المجتمع علي أسس سليمة من التجانس، والتلاحم، والاحترام المتبادل. من هنا يحتاج المجتمع إلي تأكيد مستمر علي ذاكرة العمل المشترك، تذكر لحظات الوحدة، دون أن يكون هاجس كل الأطراف هو الحديث عما يفرق الجماعة ويبعثرها. هناك من يقرأ التاريخ بحثا عن العوامل التي تدعم الوحدة. وهناك من يقرأ التاريخ بحثا عن العوامل التي تعمق الشقاق. المطلوب هو نقل ذاكرة العمل المشترك للأجيال الصاعدة، ومهما كان من أمر المشكلات، يكون النقاش حولها من منطلق البحث عن حلول تعمق خبرة العمل المشترك.
المصدر: مركز ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان